الانتخابات الهنديّة: الهويات الإقليمية تلجم حزب مودي

حجم الخط
0

حافظت الهند على وتيرة الانتخابات التشريعية فيها منذ مطلع الخمسينيّات. اعتيادياً مرة كل خمس سنوات، مع عدد من الاستحقاقات المبكرة. ليس هذا بالأمر المألوف في المستعمرات السابقة التي غلبت على حركات التحرّر الوطنيّ فيها بدعة التضحيّة بالديمقراطيّة السياسيّة لأجل الديمقراطيّة الاقتصاديّة. فقضت على براعم هذه وتعثّرت في السبيل إلى تلك.
في الهند تجربة ثلاثة أرباع قرن من الاستمراريّة الدستوريّة. هذا على الرغم من ألف «رغم». فالبلاد لم تنكب بنظام الحزب الواحد ولا بحكم العسكر. عايشت مع ذلك تجربة الهيمنة المديدة للحزب المنبثق عن التشكيل الأبرز في قيادة الحركة الوطنيّة من أجل الاستقلال: حزب المؤتمر الوطنيّ الهنديّ. وقد هيمن على البرلمان والمؤسسات حتى نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، باستثناء الثلاثة أعوام التي عاقب الناخبون أنديرا غاندي عام 1977 على انقلابها ـ حال الطوارئ ـ على المؤسسات واعتقال معارضيها الأساسيين قبل ذلك بعامين.
كان هذا هو الاختبار الأسوأ للديمقراطيّة الهنديّة، وأخطر ما فيه التذرّع بالتناقض بين الديمقراطيّة السياسية وبين الديمقراطية الاقتصاديّة لإتمامه. مع ذلك عادت إنديرا فاحتكمت إلى الصناديق وخسرت، ومثلت أمام المحاكم، واستفادت من تخبّط أخصامها المتحالفين لا يجمعهم جامع، بين من هم على يمينها ومن هم على يسارها، فعادت إلى السلطة، بالانتخابات أيضا على 1980. شكّلت تجربة الديكتاتوريّة المؤقّتة هذه صدمة قاسيّة للتجربة الدستوريّة. كما شكّلت لاحقاً المسوّغ البلاغيّ لليمين الهندوتفي بأنّه مهما قضمنا من حرّيات، وعرّضنا بالمؤسسات، إلا أننا لن نقترف ما أقدمت عليه إنديرا من تعليق قسريّ للحياة السياسيّة مدّة عامين.
انتقلت الهند لاحقاً من الهيمنة المديدة لحزب المؤتمر إلى تباشير هيمنة مماثلة لليمين القوميّ الدينيّ، بجناحيه، «السياسيّ» حزب بهاراتيا جاناثا، و«الميليشياوي» منظمة المتطوّعيين القومية. احتاج هذا لمرحلة انتقالية بين الهيمنتين، تأرجحت فيها الأمور بين المؤتمر والبهاراتيا جاناثا مع رجحان نسبيّ لكفّة المؤتمر. إلى أن دخلنا في مشروع إحلال الهيمنة المديدة بالفعل لليمين الهوياتيّ مع انتخابات اللوك سابها (مجلس العموم) السادس عشر عام 2014. أُذِلَّ يومها حزب المؤتمر. تراجع تمثيله البرلماني إلى 44 نائباً في مقابل 282 لبهاراتيا جاناثا. والأهم، أنّ اليمين تمتّع بظاهرة زعاميّة كاريزميّة استثنائية: نارندره مودي.
في مقال له في «الفورين أفيرز» قبل شهرين اعترض المؤرخ رامشندره غوها، وهو من المساجلين بشراسة ضد مودي وحزبه، على اختزال وتسطيح اليسار لظاهرة مودي وركنها في إطار «الديماغوجيّة» ليس إلا. جمع غوها بين التشديد على أن استمرار مودي وحزبه في الهيمنة على مقاليد الأمور من شأنه تبديد كل تطلّعات الهند في النهوض والاقتدار، وبين الاعتراف لمودي بأنّه على صعيد الثقل الشعبيّ والسياسيّ لظاهرته، فهو ثالث ثلاثة لا رابع لهم للهند بعد استقلالها عن بريطانيا: جواهرلال نهرو، وابنته إنديرا، ونارندره مودي.
إنّمأ، يتحدّر الأوّلان من الطبقة الكهنوتيّة العليا في المجتمع الهندوسيّ، البراهمة، رغم تبنيهما لأسلوب حياة أرستوقراطي بريطاني ولخطاب علمانيّ تقدميّ. أما مودي فهو «ابن الشعب» في مقابل سلالة آل نهرو ـ غاندي. يتحدّر من الطبقة الرابعة في التسلسل الهندوسيّ. يجمع بين خطاب هويّاتي محتقن تجاه المسلمين تحديداً وبين مسعى أو ادعاء التخفيف من التمييز ضمن الطبقات الهندوسيّة (بدليل قيادته هو للبلاد). يقرّ غوها في هذا المجال أيضاً بأنّ الخطاب الاقتصاديّ لمودي ليس محض شعبويّة لا تستند إلى حيثيات،.بل هي شعبوية تستند إلى مواءمة مودي بين السياسات النيوليبرالية وبين تأمين أشكال من الدعم الغذائي الأساسية لشرائح واسعة من الفئات الشعبية، أضف للتخفيف ـ الجزئيّ ـ للتعسّفية البيروقراطيّة وتهوين المعاملات للناس.
تمكّن مودي في الأيام الماضية من انتزاع ثالث ولاية له كرئيس للوزراء في إثر إذاعة نتائج انتخابات اللوك سابها الـ18، إلا أنّ شعاره «أكثر من 400 مقعد برلمانيّ هذه المرة» ذهب سدى.
خسر حزبه الأكثرية المطلقة، ولو أن الأخيرة بقيت معقودة اللواء للتحالف الانتخابي الذي يقوده هذا الحزب، بما يضطرّ بهاراتيا جاناثا لمسايرة الأحزاب الأصغر كي لا تتبدّد هذه الأكثرية البرلمانيّة لاحقاً مع تقلّبات الحياة السياسيّة.

تمكّن مودي في الأيام الماضية من انتزاع ثالث ولاية له كرئيس للوزراء في إثر إذاعة نتائج انتخابات اللوك سابها الـ18، إلا أنّ شعاره «أكثر من 400 مقعد برلمانيّ هذه المرة» ذهب سدى

تبخّر طموح القوميين الهندوس بالهيمنة على ثلثي مقاعد المجلس. بات البرلمان ينقسم بين أكثرية مطلقة، غير كاسحة، من 293 مقعدا للتحالف الذي يقوده بهاراتيا جاناثا، يقابلها 234 مقعدا لتحالف «اينديا» بقيادة الكونغرس. الفارق ليس مهولاً بين الكتلتين الفسيفسائيتين. في المقابل الفارق كبير بين الكتلة الخاصة ببهاراتيا جاناثا بمفرده 240 مقعدا وبين 93 مقعدا للمؤتمر الوطني. لكن المؤتمر ضاعف وجوده البرلماني نسبة إلى الاستحقاقين السابقين. وتبقى مشكلة هذا الحزب أنه لا يعرف كيف يتجاوز سلطنة سلالة آل نهرو غاندي عليه، ولا يعرف كيف يتعايش معها في الوقت نفسه. تهمته أنّه «حزب السلالة» وهو حالما يحاول النأي بنفسه عن هذه الحقيقة يشعر أنّه يفقد شيئاً من هويّته، من استقراره الداخليّ.
إنّما مشكلة مودي الأكبر تكمن في أنّه، ولما أولى المنزع الهويّاتيّ المنزلة الأولى فتح عليه ذلك الباب للتصادم مع الهويّات والحساسيّات المناطقية، في الولايات.
الاهتزاز الأساسي الذي أصاب مشروع هيمنة بهاراتيا جاناثا هو في خسارتها الولاية الأكبر، أوتار براديش، وهي المساحة الجغرافية والديموغرافية الأكبر لما يعرف بـ«الحزام الهندوسي» (سهل الغانج). منذ عام 2017 يحكم هذه الولاية أحد أكثر صقور اليمين الديني عدوانية: الراهب يوغي اديتيانات. لم يتورّع هذا عن خوض السباق الانتخابي يومها تحت شعار «وحدة الـ80٪ من الناس ضد 20٪ من المجرمين» ـ تقريباً نسبة المسلمين في الولاية!.
خسارة الهندوتفا لولاية أوتار براديش متغير جديّ. يزيد من ذلك أنّ المشهد تصدّره فيها حزب «ساماجوادي» (الاشتراكيّ) وهو الذي يعبّر أساساً عن كاست «اليادافا» أي الفلاحين ـ الرعيان. وهذا مؤشر مهم إلى أنّ خطابية اليمين القوميّ الدينيّ تجاه الطبقات المحتسبة «دنيا» في المجتمع الهندوسي لم ينفع في كسبها إلى جانبه في كلّ مكان.
أيضاً في مهاراشترا، وضمنها مدينة مومباي، العاصمة الاقتصادية التجارية للبلاد، خسر فيها حزب مودي، ولم ينفع كثيراً إسهامه في شقّ الحزب الهندوتفي المحليّ «شيف سينا» (جيش شيفاجي). والحزب الأخير لا يختلف بالمجمل من الناحية الأيديولوجية عن عقيدة حزب مودي، لكنه يحرص مع ذلك على خصوصية محلية لشعب الماراثا. بناء عليه اختلط الحابل بالنابل في الولاية، فبعد طول باع في البطش باليساريين، تحالف الجناح المستقل من «جيش شيفاجي» هذا معهم، ضد الجناح التابع لمودي.
هذه الخصوصية الإقليمية، أبعدت مجدّداً طيف حزب مودي عن ولايات سارت خارج التغطية منذ سنوات عديدة: البنغال الذي تقود فيه ماماتا بانرجي نوع من القومية البنغالية، وهي ساهمت سابقاً بتفكيك هيمنة الشيوعيين على الولاية، قبل أن تتحوّل إلى أحد الأخصام الأساسيين لمودي.
وتاميل نادو في أقصى الجنوب، الذي يسيطر فيها القوميّون الإقليميّون «الدرافيديّون» أكثر فأكثر على مقاليد الأمور. وعند هؤلاء أنّه ينبغي تفكيك استعمار شمال الهند لجنوبها!
في الوقت نفسه، الأحوال لا تزال متأرجحة في أنحاء كثيرة من الجغرافيا الهندية الواسعة والمتشعبة: فبعد عام ونيف على خسارة بهاراتيا جاناثا المدوية لولاية كبيرة جنوبياً بحجم كارناتاكا، عاد الحزب اليميني فيها إلى الصدارة.
كانت انتكاسة بهاراتيا جاناثا في كارناتكا هي الانعطافة التي استند اليها من كان يتوقّع تصدّع هيمنته على مستوى البلاد. أصيبت هذه الهيمنة بوعكة، ومع ذلك استعاد الحزب كارناتكا.
غلب توصيفان متسرّعان في السنوات الأخيرة.
الأوّل للديمقراطيّة الهندية ككل، بأنها «أوتوقراطية انتخابية» بمعنى اجتماع دورية الانتخابات وطابعها التعددي مع تفكيك مؤسسات دولة القانون وتغييب الحريات. التفكيك حاصل، ومصادرة الحقوق والحريّات تتقدّم. مع ذلك، يحتاج التوصيف الإجمالي للنظام السياسيّ الهنديّ إلى مقولة أكثر تروياً. ثمّة عدّد من الحواجز لا تزال تعترض الجنوح السلطويّ الكامل لحزب مودي. الفدرالية والخصوصيات المناطقية. النظام القضائي الموروث عن الإنكليز. لكن أيضاً، في مكان ما، تعقيدات نظام الكاست: مسعى حزب مودي للقول لأبناء الطبقات الدينية «الدنيا» في المجتمع الهندوسي بأننا كلنا هندوس في مواجهة غيرنا لا يزال يصطدم بتحسّس عميق للسمة «البراهمانية» لحزب مودي، بصرف النظر عن تحدّر رئيس الوزراء بحدّ ذاته من أصول متواضعة.
التوصيف المتسرّع الثاني هو لحزب بهاراتيا جاناثا نفسه. ردّه إلى «الفاشيّة» وعلى وجه الإطلاق، قد ينفع في بعض الأوساط للتحريض والدعاية، لكنه لا ينفع كثيراً لاستيعاب هذه الظاهرة الحزبية الضخمة والحيّة. لا يلغي ذلك تواطؤ هذا الحزب مع مصادر العنف المجتمعيّ واستثماره فيها.

كاتب من لبنان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية