ما يُستنتج من المناقشات والأحاديث التي كانت، أو تلك الجارية، حول موضوع الانتخابات المحلية التي كان يزمع «حزب العمال الكردستاني» إجرائها عبر واجهته، سلطة الأمر الواقع، التي أعلنها في شمال شرق سوريا تحت مسمى «الإدارة الذاتية» في كل من الجزيرة ودير الزور والفرات والرقة والطبقة ومنبج، هو أن الحزب المذكور يريد بأي صيغة من الصيغ أن يكون في مركز المناقشات وعلى جدول الأعمال باستمرار. فالحزب المذكور يريد أن يضفي شيئاً من الشرعنة على وضعه اللاشرعي، بغض النظر عما يقال عنه سلباً أو إيجاباً من قبل الناس ومختلف الأطراف السياسية، وحتى من جانب الدول؛ وهذه سياسة قديمة اعتمدها هذا الحزب منذ بدايات ثمانينات القرن المنصرم، حينما دخل عبد الله أوجلان إلى سوريا ونسج العلاقات مع نظام حافظ الأسد.
واليوم، ورغم معرفة هذا الحزب، قبل غيره، بأن هذه الانتخابات البدعة، التي أعلن عن تأجيلها إلى شهر آب/اغسطس المقبل، وذلك بناء على ضغوط داخلية وخارجية؛ هذا في حين أنه سوغ التأجيل بذريعة مراعاة وجهات نظر الحلفاء واستكمال الجاهزية التقنية والمساحة الدعائية، لا تحظى بإجماع شعبي في مناطق الجزيرة والفرات، ولن تشارك فيها الأطراف السياسية السورية المعروفة في المناطق المذكورة.
كما يعلم الحزب المعني تمام العلم أن سيطرته على المناطق المذكورة بقوة السلاح لا تمنحه مشروعية الحكم هناك، هذا رغم التزامه بأداء مهام وظيفية كلف بها منذ بدايات الثورة السورية من جانب سلطة آل الأسد، ولاحقاً من قبل الأمريكان؛ بالإضافة إلى تنسيقه المستمر مع الإيرانيين سواء في جبال قنديل، أم من خلال الممثلين الأمنيين الإيرانيين وأذرعهم في المناطق التي يعتبرها مناطق محررة. وهنا تبرز أهمية تسليط الضوء على واقع عدم خوض هذا الحزب أي معركة حقيقية مع سلطة بشار الأسد والميليشيات الداعمة لها، لتحرير المناطق التي يفرض سيطرته عليها اليوم.
أما العقد الاجتماعي الذي طرحه من جانب واحد في نهاية العام المنصرم تحت اسم «العقد الاجتماعي للإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم شمال وشرق سوريا» (وهو العقد الذي كان من المفروض أن تنظم على أساسه الانتخابات المعنية)، فهو عقد يخصه، لأنه لم يكن حصيلة مناقشات سياسية أو شعبية، شارك فيها ممثلون من قبل الشعب تم اختيارهم بناء على انتخابات نزيهة. ولم يحظ العقد المذكور بالموافقة الشعبية عبر انتخابات عامة شفافة ذات مصداقية؛ وقبل هذا وذاك لا يحق لهذا الحزب، الذي يعد الفرع السوري لحزب آخر ساحته كردستان تركيا، أن يتحكّم بمصير ملايين السوريين من مختلف الانتماءات المجتمعية في بقعة جغرافية سورية، تبلغ مساحتها تقريباً ثلث مساحة سوريا. أما مضمون العقد نفسه فهو الكارثة بعينها، حافل بالمتناقضات الناجمة عن اتباع أسلوب القص واللصق، واستخدام المصطلحات المأخوذة من سياقات مختلفة على عواهنها.
أما سياسة الشعارات التي يعتمدها الحزب المذكور، ولغة التخوين والشتائم السوقية الشائعة لدى أعضائه ومناصريه، وممارسة قمع الحريات بكل الأشكال بحق المخالفين والمعارضين من قبل أجهزته، فهي كلها أدوات لاستغلال عواطف الناس من جهة، وترويعهم من جهة أخرى؛ وفرض سلطة الأمر الواقع بغية التحكم بالمنطقة، واستنزاف مواردها لصالح الحزب المذكور؛ وعلى الأغلب بالتنسيق والتشارك مع سلطة بشار الأسد. ومن بين موارد المنطقة التي تتعرض للنهب من قبل الحزب المذكور وشركائه يُشار هنا إلى النفط والغاز والمعابر والضرائب والمحاصيل الزراعية والمحلات التجارية والصناعية.
وكل ذلك يتم تسويقه ضمن سردية حاجة التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية إلى قوات الحزب المذكور «قسد» في معارك محاربة الإرهاب. هذا في حين أن الجميع يعلم أن التعاون بين الطرفين المذكورين لا يتجاوز الإطار العسكري الأمني، وأن الدول الغربية المعنية لم تعترف حتى الآن بالإدارة المشار إليها؛ بل وتتجنب أي تواصل رسمي دبلوماسي معها. وإنما تقتصر علاقاتها مع الحزب المذكور على قائد قسد؛ في حين أن «مسد- مجلس سوريا الديمقراطية» الذي من المفروض أنه يمثل القيادة السياسية لـ «قسد» يظل خارج التغطية ومن دون أي دور؛ وهذا فحواه أن «مسد» هو مجرد ديكور للزينة، أو أداة بين عدّة التضليل لا أكثر، لا حول له ولا قوة أمام القرارات والتعليمات القادمة من قنديل، وهي التعليمات التي يتخذها المتحكّمون الفعليون بإدارة الأمر الواقع المعنية هنا مرجعية ملزمة لهم في تعاملهم مع القوى السياسية والمجتمعية في المنطقة المذكورة.
لقد كانت هناك دعوات من أطراف عدة بضرورة الوصول إلى عملية فك ارتباط بين حزبي «الاتحاد الديمقراطي»، و«العمال الكردستاني»؛ على أن يتحول الأول إلى حزب سوري مستقبلاً؛ ويدخل الثاني في عملية سلمية جادة مع الدولة التركية من أجل الوصول إلى حل عادل للقضية الكردية في تركيا لمصلحة الجميع. إلا أن هذه العملية لم تتم، بل ظل الإصرار من جانب كوادر «حزب العمال الكردستاني»، الذين يتحكّمون بمفاصل الإدارات والهيئات وحتى الشخصيات ضمن إطار «الإدارة الذاتية»، على رفع صور عبد الله أوجلان وشعارات «حزب العمال» باستمرار، ومن دون أي مراعاة للمزاج الشعبي العام، أو للظروف الإقليمية.
والآن، ورغم اسهام الحزب المذكور في سيطرة القوات التركية والفصائل المسلحة السورية الملتزمة بأوامرها على مناطق عفرين وتل أبيض وسري كاني/ رأس العين، يصرّ الحزب المعني عبر ماكينته الإعلامية على تحميل الآخرين، لا سيما المجلس الوطني الكردي والمعارضة السورية الرسمية، وزر اخفاقاته، إن لم نقل صفقاته. فهذا الحزب كان يعلم أكثر من غيره بعجزه عن حماية المناطق المشار إليها، لأنه لم يمتلك يوماً من الامكانيات التي تؤهله لمواجهة التحديات المترتبة على تلك الشعارات. كما أن اصراره على وضع كرد سوريا بقدراتهم المحدودة في جميع الميادين في مواجهة مع تركيا الدولة الهامة المؤثرة في حلف الناتو، أمر لم، ولن يخدم القضية الكردية لا في تركيا ولا في سوريا، وليس في صالح تركيا وسوريا على حد سواء، ولا في صالح الاستقرار في المنطقة، أما من يستفيد من هذه الديماغوجيا الموجهة فهو النظام الإيراني أولاً، وسلطة بشار الأسد في المقام الثاني.
على صعيد آخر، تتمثّل مشكلة هذا الحزب باستمرار في أنه يبيح دائماً لنفسه كل شيء، وهو على استعداد لإقامة العلاقات وعقد اللقاءات مع أجهزة مختلف الدول، بما فيها تركيا نفسها، ولكنه يصر في الوقت ذاته على اتهام الآخرين في الكثير من الأحيان بأمور لم يقدموا عليها عملياً. بل يقوم بتخوينهم لمجرد نقدهم لسياسات «حزب العمال» وواجهاته في سوريا، أو لمجرد التفكير في تحسين العلاقة مع دول الجوار لمصلحة قضية شعبهم، ومصلحة الاستقرار في المنطقة.
ونحن إذا عدنا إلى تصريحات وخطابات مسؤولي «قسد» و«مسد» و «الإدارة الذاتية»، سنكتشف مدى ترسخ النزعة الانتهازية البراغماتية لدى هذا الحزب، المستعد للتعاون مع سلطة بشار الأسد، ويتعاون معها بالفعل، كما أنه مستعد للتفاهم والتعاون مع الإيرانيين والأتراك والروس والأمريكان وسائر القوى المؤثرة على المستويين الإقليمي والدولي من أجل الحصول على سلطة تمكنه من السيطرة على الكرد أولاً، ودفعهم نحو الهجرة بفعل مختلف الإجراءات التي اتخذها حتى الآن، ويتخذها باستمرار من دون أي شرعية. ومن تلك الإجراءات: التجنيد الإجباري، وتخريب العملية التربوية والتعليمية بصورة عامة، وقمع الناس، وفرض المراقبة على الأفراد والأحزاب؛ هذا إلى جانب فرض الضرائب والأتاوات، والتحكّم بالخدمات، وابتزاز الناس بمختلف الأساليب، خاصة في مجال خدمات الماء والكهرباء.
وبالعودة إلى الانتخابات المحلية التي أعلن الحزب المعني عن نيته تنظيمها خلال شهر حزيران/يونيو الجاري؛ إلا أنه اضطر إلى تأجيلها نتيجة ضغوط أمريكية وتهديدات تركية، نرى أنها تمثل المضحك المبكي. فأن ينظم طرف وافد مقحم انتخابات محلية، ويصرّ على إبعاد القوى السياسية السورية الكردية والعربية والسريانية وغيرها، بل يتهمها بكل شيء، فهذا يجسد بدعة حقيقية غير مسبوقة. ولكن ها نحن نرى البدعة واقعاً ماثلاً أمام الأعين نتيجة الظروف التي ألمت بالبلاد؛ واستعانة سلطة آل الأسد بمن كان من أجل التمكن من البقاء في مواجهة ثورة السوريين على استبدادها وفسادها.
الانتخابات الحقيقية المطلوبة، سواء التشريعية أم المحلية، هي التي تكون بعد توافق سوري عام، يكون مقدمة لبناء حكومة وطنية شاملة تمثل السوريين بالفعل، وتعمل من أجل مصالحهم وأهدافهم. أما محاولة إرغام الناس على القبول بمشاريع عائلية عشائرية مغطاة بوشاح حزبي، أو إقليمية عابرة للحدود؛ فهي خطوة غير موفقة، قد تحظى ببريق إعلامي في مرحلة ما، ولكن مؤداها في نهاية المطاف هو الإخفاق. (هذا الأمر يسري على انتخابات مجلس الشعب التي ستنظمها سلطة آل الأسد، وعلى الانتخابات المحلية التي تريد سلطة الأمر الواقع إجراءها في شمال شرقي سوريا).
ولكن إذا ما تمكّن السوريون من استعادة قرارهم ووطنهم، وتوافقوا على مشروع وطني جامع؛ مشروع أساسه الاعتراف بالخصوصيات والحقوق، ويركز على أهمية طمأنة الجميع، من دون أي استثناء، عبر إزالة الهواجس، وتعزيز إجراءات الثقة، والتوافق على آلية قانونية سليمة لحل الخلافات التي قد تنجم من حين إلى آخر نتيجة التباين في تفسير بعض النصوص، وتقييم الخطوات المتخذة على أرض الواقع؛ حينئذ نستطيع القول بكل ثقة: إن القطار السوري قد بات على السكة الصحيحة المتجهة نحو نهاية النفق المظلم.
*كاتب وأكاديمي سوري