عندما ينسى الإنسان وجهه

أهداني أدونيس في لقائي معه كتابين؛ الأوّل «دفاتر مهيار الدمشقي» عن دار الساقي. والثاني كتاب نقديّ عن شعره لخالدة سعيد عنوانه «جرح المعنى» ومن إصدار الدار نفسها. قال: «هذا أحسن كتابٍ قرأته في دراسة شعري.
الصالة التي كنا نجلس فيها قليلة الأثاث، كرسيّان وكنبة وطاولة عليها كتب، مع لوحات عديدة معلّقة على الجدران. في الخارج كان النهار الخريفيّ رائعاً، تنقل النافذة العريضة نبضاته، والشاعر جالس في مقعده الوثير، قربي. كان يرتدي بنطلون جينز أزرق وقميصاً سمائيّ اللون. الحياة الواسعة التي قضاها في دنيا الفنّ، خلعت عليه نوعا غريبا من الإيغال في السعادة الشعريّة، وما يتبع ذلك من حضور دائم في الواقع الحالم. وجه أدونيس منحوت من الشمع والمرمر وأمامه قنديل من الزيت مضاء، مع تواضع خاصّ وفاتن يليق بالكهنة. ذكّرتُه بهذين البيتين من إحدى قصائده:
«اللامبالاة
هي الوردة الوحيدة التي تنحني لها الريح»
وارتسمتْ على محيّاه ابتسامة شرحت لي معنى اللامبالاة، وصيّرته واضحاً. ثم راح يحدّثني عن الانقطاع الذي يعيشه الفنان عن الوجود في سبيل اكتشاف السرّ، كي يكون قادراً على الكلام بلغة الأشجار والحجارة، وكنت ألمح أفقاً صوفياً في ما يقول، وكان صوته يُشعرني بالنشوة والدهشة اللذيذة عندما يذكر الحجر، ويكون لصداه ملمس الحجر؛ الأحجار وحيدة وحزينة، لكنها تعود وتتشكّل مثلما صُوِّرتْ أوّل مرّة ما إن يقولها الشاعر، وكذلك الحال في ما يخصّ الشجر والبحر والحرب والولادة.. إنه يُعيد تركيب كونه، على مهله، قطعةً قطعة، وربما اخترع كائنات جديدة وأطلقها إلى الساحة، وألغى كائنات.

٭ ٭ ٭

– صباح الخير، قلتُ للشاعر عبر الهاتف، وجاءني جوابه:
– يسعد صباحك المتعدّد، المتكثّر، المتنوّع!
– أريد أن أسأل الشاعر: هل أدّت قنوات التواصل الاجتماعي إلى تباعد الإنسان عن أخيه وصديقه، وعن نفسه أيضا، فهو يعيش وحدته بصورة مضاعفة؟ قلتُ وأجابني أدونيس:
– صحيح. يريد إنساننا الحاضر أن ينسى كلّ شيء تعلّمه حتى اسمه، ولا يتبقّى منه غير آثار هزيلة للغاية، تدلّ على أنه يعيش حياة كاريكاتيريّة لا تثير في النفس غير حسّ الفكاهة.
– تقصد أن الحياة الجديدة حوّلت كلّ منا إلى شخص كاريكاتيريّ مهما علت منزلته.. وقاطعني الشاعر بالقول، وكان فرحا مثل طفل بما توصّل إليه:
– إلا الشاعر، فهو الوحيد الذي يرى وجهَ كلّ شيء مباشرة، ودون واسطة، لأن خالقَ الكونِ وجهٌ، والكون في معناه الأول والأخير هو وجه الإنسان..
حميَ الجوّ بيننا لأن أدونيس صار يقول القصيدة في أثناء الكلام. تابعَ:
– تُريد قوانين الحياة الجديدة أن ينسى الإنسان اسمه ولون وجهه، ويعيش في حالة سبات مرعب يشبه ما يجري للحشرات. تخيّل بأيّ هيئات مفزعة تكون وجوهنا عندها! بينما يُريد الشاعر أن يبرهن على الوجود عن طريق تثبيت ألوان وجهه، فهو يخلق كونه الخاصّ بهذه الطريقة. الحياة عظيمة وجميلة، لكن الآلة أفسدت كلّ شيء. إلى الجحيم بها في مختلف أشكالها إن كانت ضدّ البشر، حتى الضوء الذي يبدّد العتمة، إذا كان عاما وقسريّا يكون أشدّ من العتمة. ما يجري في حياتنا الراهنة هو نفور العيون العميق من الرؤية. العين لا ترى ولا تنظر. ما فائدتها إذن، وهل يأتي يوم يولد فيه الانسان أعمى، لأن العين صارت عضواً بلا فائدة، فهي ترى كلّ شيء مصوّرا عبر كاميرا الهاتف الجوّال.
شيئا فشيئا تحوّلتْ دفّة الحديث نحو جهة السياسة. سألني أدونيس عن التخريب الذي يجري في بلدي:
– هل تعتقد أنه يستمرّ إلى ما لا نهاية؟
– لا.
– وما الذي يوقفه في الأخير؟
– سوف يتصدّع في مكان ما…
قلتُ، وشعرتُ أن توتّرا أصاب فكّي. كان في كلامي نوع من المكابرة التي نجيدها نحن أبناء هذا الوطن الذي اسمه العراق، أو وادي الرافدين أو ذلك الجزء من الهلال الخصيب، سمّه ما شئت. حدثتْ على هذه الأرض عبر تاريخه زلازل لا تُعدّ، حتى بلغت الصدوع في أرضنا الإنسان نفسه، وحين يحدث هذا الشرخ من يستطيع أن يداويه؟ لم أشأ أن أنقل إلى شاعري صورة واضحة لما يجري في بلدي. لم أجرأ في الحقيقة أن أقول لأدونيس ما يضمره قلبي عن عقلي، وهو أن الغد بعيد جدا في بلادي، ولا أحد في إمكانه رؤيته، ولا حتى بأقوى التلّسكوبات…

٭ ٭ ٭

كانت مسحة التهكّم والتشاؤم تغطّي كلام أدونيس هذا اليوم: تمنّى أولا لنا حياة طيّبة، ثم استدرك قائلا:
– أنا في الحقيقة مبالغ في أمنية كهذه، الصحيح هو أن تكونوا في حالٍ أقلّ سوءاً، اللافت للنظر أن الجميع يتطلّعون في العالم إلى عالم أفضل إلا نحنُ، مستقبلنا مجهول، وكلّ ما يريده المواطن العربي هو أن تعود به الحياة إلى الوراء بضع سنين، أو أكثر.
– وكلما كان الرجوع إلى الخلف أكثر، كان الحال أفضل بكثير.
قلتُ، وهتفَ الشاعر:
– تمام! كلّ هذا يجري والثقافة العربيّة معزولة عن الساحة، وأنا على قناعة كاملة بأن المسؤولين عن الثقافة في البلدان العربية يرونها حالةً سايكولوجيّة وليست معرفيّة…
– أي أنّها حالة مزاجية.
قاطعتُ الشاعر، ووافقني وضحك، وعلا صوت ضحكي. ثم تابعتُ، قاصداً أن أبلغ آخر درجة من المزاح الذي يشبه الجِدّ:
– يعني هي حالة صبيانيّة!
وقال الشاعر بلهجته الشاميّة المحبّبة:
– تقدر أن تقول عنها (هيك) وتستطيع أن تصف الثقافة في بلاد العرب بأي صفة إلا أن تكون حالة معرفيّة يقوم بها أشخاص جادّون.
تفلسفتُ بعد ذلك مع الشاعر، قلت شيئاً معروفاً عن دور النفط، وعن قوى اليسار العربي، وندمتُ كثيراً على تفلسفي بكلام يعرفه الجميع، وكان المفروض بي أن لا أقول شيئاً، وأبقى أصغي إلى صوت أدونيس، وإلى صداه في الهاتف.

كاتب عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية