اللغة الخشبية لم تكن صفة انفرد بها خطاب بيني غانتس زعيم حزب «معسكر الدولة» الذي أعلن أمس الأول استقالته من الحكومة الإسرائيلية، بل طبعت أيضاً كتاب استقالة زميليه في الحزب والحكومة غادي أيزنكوت وهيلي تروير، كما غابت المفاجأة اللفظية عن رد فعل رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو نفسه الذي زاود على الجميع في حشد مشاعر النفاق وعبارات التضليل.
الثلاثة المستقيلون انضموا إلى حكومة نتنياهو بعد أيام قليلة أعقبت عمليات «طوفان الأقصى» وكانت أكذوبة الوحدة الوطنية هي الذريعة التي اعتمدتها قيادات «معسكر الدولة» للتغطية على الأسباب الانتهازية الفعلية الأخرى وراء الالتحاق بركب نتنياهو. ولا عجب بالتالي أن الأخير يسخّر الأكذوبة ذاتها حين يعيب على الثلاثة أنهم استقالوا «في وقت الوحدة وليس الانقسام».
وخلال قرابة 8 أشهر من تواجدهم ضمن حكومة نتنياهو، لم يفوّت الثلاثة فرصة لتقويض التحالف الزائف وغير المقدس، تارة عن طريق توجيه إنذار أخير إلى نتنياهو بضرورة إعلان خطة عمل والالتزام بها تحت طائلة الانسحاب من الحكومة، وتارة أخرى بوسيلة تقديم مقترح بحلّ الكنيست مع معرفة الجميع أن تحالف نتنياهو يمتلك 64 صوتا كفيلة بإنقاذ الحكومة من أي انهيار.
ولا معنى سوى التضليل في أن يعلن غانتس أن «نتنياهو يعرقل قرارات استراتيجية لاعتبارات سياسية» أو «أنه يحول دون تحقيق نصر حقيقي» وسوى ذلك من تصريحات تضمنتها خطبة الاستقالة. وقد يكون الكاشف الأول لهذه اللغة الخشبية هو إقرار غانتس نفسه بأنه لم يكن غافلاً عن حقيقة هذه «الحكومة الفاشلة» حين قرر الانضمام إليها في البدء.
ليس خافياً أن غانتس وقيادات حزبه، على قدم المساواة مع يائير لبيد زعيم المعارضة المعيّن ذاتياً، لم يعتمدوا سياسة تضييق الخناق على نتنياهو وتحالفه إلا بعد اتضاح خلاصة أولى كبرى هي فشل جيش الاحتلال الإسرائيلي في تحقيق أي من أهدافه المعلنة خلال ثمانية أشهر من حرب شاملة ضد قطاع غزة، انطوت على شتى أشكال جرائم الإبادة والتجويع والحصار والتهجير وقصف المشافي والملاجئ.
الخلاصة الثانية هي بلوغ الإدارة الأمريكية مرحلة قصوى من الانعزال في المساندة العمياء لحرب الإبادة، والحرج أمام حلفاء الاحتلال أنفسهم في أوروبا الغربية، واتساع مساحات الاحتجاج الشعبية والشبابية والطلابية على امتداد أمريكا وفي الجامعات بصفة خاصة، وما تمارسه هذه التحولات من ضغوط على حملات إعادة انتخاب الرئيس الأمريكي جو بايدن.
وليس خافياً كذلك أن مقترحات بايدن الأخيرة حول صفقة جديدة مع المقاومة الفلسطينية تسعى أيضاً إلى إعادة تدوير غانتس في وجه نتنياهو وحكومته الأشدّ يمينية في تاريخ الكيان الصهيوني، خاصة وأن استطلاعات الرأي الإسرائيلية ترجح فوز غانتس بأغلبية مريحة في الكنيست إذا جرت الانتخابات هذه الأيام.
وقد تكون أبرز حقائق المشهد بعد استقالة غانتس وأيزنكوت أن المشترك بينهما ليس الانتماء إلى حزب واحد فقط، بل قيادة أركان جيش الاحتلال في السابق، بما يعني أن دماء فلسطينية كثيرة تلطخ أياديهما، وتفضح المزيد من الأضاليل.