المجموعة القصصية «نساء على الشاطئ» والعنوان المضلل

حجم الخط
0

عندما نسمع اللهجة المغاربية بتعددها وتنوعها وفقًا لتنوع بلدان المغرب العربي، نشعر وكأننا نستمع للغة أصلية ما قبل أمومية ، ونشعر معها كمن يريد الانتقال من التأتأة إلى النطق. ولهذا في كثير من الأحيان نُعرض عن الاستماع ونلجأ للقراءة، فالقراءة تشعرنا بأننا نوجد داخل اللغة، نرى ونسمع ونحبّ من خلالها.
في قراءة المجموعة القصصية للقاص والروائي الجزائري عبد القادر شرابة بعنوانها المضلل «نساء على الشاطئ»، لم أشعر بأنني في ضيافة لهجة تربكني وتعيق فهمي. كتاب بغلاف أزرق بحري يحمل هذا العنوان، تفقدتُ الفهرس فلم تقع عيناي على قصة تحمل العنوان نفسه، وخمّنتُ أنّ الكاتب يرتجف خوفا من أن النساء سيزدنَ قليلا في الحكاية، ويتحول كثير من الرجال المختبئين بينهن إلى مخبرين وقوادين.. نساء على الشاطئ!
العمل الإبداعي يحمل مفهوم الرؤية، باعتبارها النظرة الشاملة التي يقدمها لنا أيّ نص أدبي إبداعي، وتقول الفلسفة بأنّ الرؤية تعني أن ترى الظواهر بعينك، أما ابن عربي فيعتبرها الحلم الذي يرتبط بالغياب والانتظار والاغتراب، وهذا الأقرب لقلبي ولقلمي.
تحفل هذه القصص بشخصيات غائبة الملامح قوية الحضور، متكلمة وصامتة، حاضرة وغائبة، مركزية ومهمشة، لكنها تملك كثافة وجودية عالية. لم يكن الكاتب بحاجة إلى قول كلّ شيء عن الشخصية كي تأخذ قوامها في خيال القارئ. فهو لا يهدف لتقديم نماذج خالدة في كتاباته، بل يقدم لنا لمحات نفسية وأخلاقية واجتماعية، تنتقل بنا من عالم مكشوف إلى عالم مستتر.
تتمتع قصص هذه المجموعة بالرؤية المجاورة للشخصيات، والتي تُسمى بـ«الرؤية مع» وأعتقد أنّها أرقى أنواع السرد، لأنّ الكاتب يكون على معرفة بالشخصية بشكلٍ محاذٍ، ففي بعض الأحيان يلتحم بها فنظن أنهما واحد، وهذا يسهم كثيرا في إقناع المتلقي، لذلك نشعر بأنّ الكاتب يمسك بيدنا لندخل عوالم قصصه برفق، ويبعدنا بذلك عن فضول التجسس على حياته الخاصة من خلال كتاباته. ففي قصة «انشطار البنفسج»، يقول الكاتب: «أحبّك جدّا، أحبّك… أين كنت كلّ هذا الزّمان؟ وأين أخبّئك الآن؟ وهل يكفي ما بقي من عمْري كيْ أسْعدك يا حبيبتي… يا كلّ الحنان؟ سبعة أشهر، كنتُ وحدي، أقصد أنّي كنت لها وحدها. كنت شاعرا مكتمل الرؤى، موحّد الرّوح والجسد، كنخلة ماسكةٍ الأرضَ والسّماء.. ببساطة كنت أنا». وأحيانا نراه يقف بعيدا ليترك لنا حرية التحليل والتأويل وحتّى التخيل، مثل قصة «الهروب»، حيث يقول: «طار محلقا في السماء؛ حاملا أمه النحيلة على ظهره، ورافقه سرب كبير من العصافير والحمام، وراح يتحور وريشه يتطاير في الفضاء، وحين وصل إلى بيت منفرد وبعيد؛ نزل ووضعها على فخذيه، ورجها قليلا كي تستفيق، وحين فتحت عينيها ورأته، كان عاريا من الريش، وقد اكتمل تحوره بالتمام، فسألته، بعد أن عرفته: هل نجونا يا أبي؟».
تهيمن على شخصيات النساء في هذه المجموعة صفتان اثنتان، هما الاحتواء كما في قصة الأب، والأرملة، والضرير، وبكاء، حيث نرى المرأة التي تحتضن وتكفكف، ولا يظهر الكاتب الأمومة التي تنزوي وتتلطى خلف الأبناء، ولا امرأة قويةً جبارةً، بل يظهرها كطيف أنثوي يحتضن ويلملم بقايا الرجل. فمثلا في قصة «بيت الأرملة»، يقول الكاتب: «قالت لي: لا تخف، يوجد في الخارج شبح آخر يشبهك، إنه الآن يجول في الطرقات، وقريبا سيبدأ بالصراخ كعادته. خذ وسادةً، وضعها على رأسك… آمل أن تصبح على خير! ثم قفزت مثل سنجاب، والتصقتْ بي، وانسدل شعرها على كتفيَّ، ونامتْ حين بدأتُ الصراخ».
والسمة الثانية للشخصيات النسائية هي التخلي، كما في قصة «تل الورد» و«أظرفة بيضاء» و»الغياب»، و»حالة شغور». يقدم لنا الكاتب موضوع الحبّ كعاشق خجول، وأعتقد أنّ هذا الأفضل، ليس لأنّ الكاتب يرتع في منطقة الأمان، لكن لأنّ القارئ العربي أُتخم بقصص الحبّ المفرطة في مأساويتها أو المفرطة في حسيتها، والتي تقترب حد الفجاجة، لذلك نرى دائما في قصصه ما يأتي بعد التخلي، والحالة الوجدانية والنفسية والروحية التي تعيشها الشخصية التي حملت تكثيفا عاطفيا شديدا، حيث الحبّ يجعل الروح محلقة في الحلم للتعويض عما تفتقر إليه في الواقع. تدفعنا بعض القصص للتفكير بأسباب التخلي، ولكننا نجزي الوقت للتعاطف مع المُتخلى عنه، ففي قصة «حالة شغور»، يقول الكاتب: «قال لي أحدهم: أهلا أخي. فأسعدني قوله ورميت شبحي الصغير وحلق مبتعدا، ورحت أعوي معهم، أعوي بشدة؛ لا لشيء إلا من أجل جارتي فقط؛ علها تسمعني وتعود!».
في هذه المجموعة القصصية لا يُطلق الكاتب أسماء على شخصيات مجموعته إلا ما ندر، ويقتضب كثيرا في وصف تفاصيلها، إلا أنّ ذلك أعطى صورةً وإيقاعا للامرئي من تلك الشخصيات، ففي قصة الأب، تغيب الملامح ويبقى الحضور القوي لصورة الأب على شكل صليب. وفي بيت الأرملة نلتصق به عندما يبدأ بالصراخ، وفي «الضرير» نغمض أعيننا معه، وبإغماض عينيه نرى الحقيقة.
تحمل قصة «قبر مفتوح» بألمها نوعا من الهيمنة، حين قرأتها شعرتُ بأني مجبرة أنا أيضا أن أصبح كائنا خياليا، أنسى نفسي، وأقارن ما حصل في الجزائر في التسعينيات أثناء موجة الإرهاب المرعبة، مع ما حصل في سوريا في سنوات الحرب البغيضة، مع ذلك الألم تصبح شخصا آخر. يقول الكاتب في قصة «قبر مفتوح»: «وحين هبط الليل؛ جلس جاسم قرب القبر القديم، وقضى ليله بالكامل يحدق فيه؛ تارة يبكي؛ وأخرى يغني. وفي الصباح؛ توجه إلى القرية وراح يراقب الناس؛ عله يجد غايته بينهم؛ مكتف بالتحديق؛ ومراقبة الغرباء، دون أن يطلب مساعدة أو يكلم أحدا. هكذا؛ صار جاسم لا يعرف الراحة ولا النوم. ونسي ملامح تلك الأرملة التي خطفت قلبه. وصار مهووسا بمعرفة من عاد إلى القرية من الأموات، واختفى بين الناس، وترك قبره القديم مهجورا».
لم تغب اللغة الشعرية عن بعض قصصه مع حفاظ الكاتب على الجنس القصصي، كما في قوله في قصة «أخي الوسيم»: «وحين حلّ الظلام، عادت إلى البيت؛ والفراشة السوداء جاثمة على كتفها. وكلاهما تبكيان». وكذلك في قصة «أظرفة بيضاء»: «تلك الأظرفة البيضاء لم تكن إلا مرادفا جميلا لتلك البئر». وفي قصة «آخر ما تبقى من الرواية»، يقول الكاتب: «طارت كلماتي وسكنت الهواء والعلياء، ثم توزعت على الرّعاة والعصافير والنّسوة». هناك فيض من الوعي يكتسح بعض القصص التي تحمل مضامين ناقدة مثل قصة «منصة عجل»، و»قبر مفتوح» و»أخي الوسيم» و»شجرتان»، ومع ذلك ابتعدت القصص عن الغموض والإيغال بالرموز، وكذلك عن الحذلقات الفنية والتعقيدات الفكرية. في قصة «منصة عجل»، يقول الكاتب: «وخلت القاعة إلا من الراوي الذي راح يحدق في الدّم المسفوح على البلاط الأبيض لحظات، ثم رفع رأسه ونظر إلى سقف القبة وتساءل في نفسه: هل سينكشف أمر الثورة؟!».
يطول الكلام عما يعجبنا، لكن كما يقول أمبرتو إيكو: «النص سيبقى رسالة ميتة، وسلسلة من الآثار السوداء على الورق، دون مشاركة حقيقية للقارئ». لذلك المجموعة القصصية «نساء على الشاطئ» تستحق القراءة.

 كاتبة سورية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية