حين نرى وجوهنا في المرآة نسمّي ذلك انعكاسا للوجه هو وجهنا مقلوبا، ونحن لا يقلقنا البتة أن نرى وجوهنا مقلوبة في المرآة، ما دام البشر يرون وجوهنا الصحيحة. حين نرى وجوه الناس نحن لا نتعرف عليهم من خلالها فقط، بل نحن أيضا نقرأ بواطنهم من خلالها؛ نحن في الحقيقة لا نتعامل مع الوجوه إلاّ من خلال إدراكنا لها. التسمية العلمية لهذا النشاط الإدراكي هو «إدراك الوجه» Face Perception الذي يختلف عن التعرف على الوجوه Face recognition.
التعرف على الوجه هو الموضوع الذي اعتنى به الدارسون أكثر من إدراك الوجه، لأنّه الأكثر تطلّبا في التفاعل الاجتماعي. وتشير الدراسات إلى أن التعرف على الوجوه عملية عرفانية وعصبية شديدة التعقيد، وأنّ تعرف البشر على الوجه يختلف عن تعرّف الكائنات الأخرى عليها، فالتعرف لدى البشر يكون بتمثيلها بطريقة أكثر شمولية، وهذا يقودنا إلى أن نرسم – ونحن نتعرف بعضنا على بعض – شيئا من التمثيلات الدقيقة التي توصلنا إلى الكشف عن ميزاتنا، التي بها ننماز عن غيرنا، ونستعملها على أنّها مدخلات إلى معرفة الأشخاص. وحين تصاب بعض الخلايا العصبية المرتبطة بالتعرف على الوجوه بالفشل أو الضرر يصاب المرء بعمى التعرف prosopagnosia فيعجزون عن التعرف على الأشخاص الذين كانوا يعرفونهم من قبل من الأقارب أو الجيران أو الأصدقاء وغيرهم، بل إنّه من الممكن أن ينسى المرء منهم وجهه. يذكرني هذا بمقطع في أغنية لفيروز تقول: «أنا نسيت وجهي.. تركته يسافر..»، نعم يمكن للمرء أن ينسى وجهه: أن ينظر إلى المرآة فلا يتعرف على نفسه، سينسى كثيرا من المعطيات التي كانت تنشط لديه بمجرد التعرف على الشخص، سينسى اسمه وقرابته وصفاته وعلاقته به وحذره منه، أو خوفه عليه، سينسى حبه أو كرهه له، وغير ذلك من العواطف التي خزنت حوله. هذه المعطيات التي كانت تنشط من الذاكرة ذات المدى الطويل سوف تفشل في التنشيط، وستنسى كثيرا من الملامح وسيظلّ الشخص كالهائم في الصحراء ليس لديه أدنى العلامات التي توجّهه.
معالجة الوجه Face Processing هي العملية الذهنية التي تجعلنا نرى الشخص فنتعرّف عليه، أو نحاول أن نستقرئ علاماته ومنها نصل إلى جملة من الانطباعات عنه، نحتاجها أثناء التعامل معه. يقول العلماء إن عمليّة التعرف على الوجوه تتمّ وفق حوسبة ذهنيّة، هي التي تجعلنا ندرك أن وجه الشخص الذي نراه لرجل أو لامرأة لطفل أو لكهل هي التي تجعلنا نصنفه تصنيفا عاما وخاصا. ويميز الدارسون بين قياس الوجه التي تقود إلى التعرف على الخصائص المشتركة بين الأشخاص وتصنيف الوجه التي تقود إلى تمييز خصائص الشخص الفردية، وفي هذا الصدد يقال إن كلّ نظام يعمل في الدماغ بشكل معيّن. ويرى الباحثون أن تعابير الوجه – وهي التي تعنينا هنا- هي شكل من أشكال التصنيف. ويُعتقد أن التعرف يبدأ من العينين ثم من الأنف ثم يصل إلى الفم، وعادة ما تستوقفنا في مرحلة الإدراك العلامات الخاصة التي نراها في أوّل عضو نراه وهو العين. العين يمكن أن توحي لنا ونحن نقرأ علاماتها بكثير من المعلومات. لكنّ المعلومات التي تعطينها أعضاء الوجه، وبالأساس العين هي ضربان من المعلومات إمّا معلومات لا قبل لنا بها من قبل؛ وإمّا معلومات تكون أدلة على معلومات لنا سابقة عن الشخص. فعلى سبيل المثال حين أرى شخصا لا أعرفه ويكون لي من الوقت والإمكان ما يتيح لي أن أستقرئ في العينين ما يجمع لي عن الشخص جملة من العلامات الدالة على حالته، كأن أفهم أن به انكسارا، أو حزنا أو ألما ستكون هذه العلامات استنتاجات لا أعلم صدقها، وأن صدّقتها فلن أعلم أسبابها لأني جاهل بها وبتفاصيل الشخص. بهذا الشكل ستكون المعلومات التي استقيها من العينين مجرد معلومات عامة، عن حالة مشتركة لا أعرف تفاصيلها.
لقد تحدّثنا في هذا المستوى عن التعابير العاطفية، التي يمكن أن تحمّلها العين المدركة ولكنّ هذه العين وهي تبحث عن التعابير العاطفية تكون قد فكّت رموز التعرف والتصنيف جزئيا أو كلّيا، فلا يمكن أن يبحث المرء في عيون حزينة دون أن يعرف لمن تكون تلك العيون ألطفل هي أم لشابة أم لكهل؟
إنّنا إلى هذا الحدّ تحدّثنا عن اعتماد الوجه وأعضائه مدخلات إلى التعرف على الشخص وإدراكه واستعماله مادة للمعالجة الذهنية التي تقودنا إلى إيجاد معلومات حول الشخص وحالاته الباطنة، وأحيانا وضعياته الأخرى ونحن نستخدم في ذلك الوجه وكأنّه خريطة للشخص تهدينا في مسيرتنا إليه وإلى هويته المشتركة أو جوهره المستكن المخفي.
سوف يتذكر القارئ هنا كيف أن الشعراء القدامى استعملوا الوجه في توليد الكثير من المعاني، لكنّ هذا السياق ليس مرتبطا بما نحن فيه لأنّ ما ذكرناه سابقا داخل في معالجاتنا اليومية والعادية للتعرف على الشخص ولإدراك ما نتلقفه منه. لكنّ استعمال الوجه في الشعر، أو في غيره هو ضرب من الاستقراء العلامي الموجّه ما قبليّا إلى دلالة منْويَّةٍ وهذا عكس ما ذكرناه سابقا، فليس في الأمر شيء منويّ سلفا ولا خرائط للوجه رسمناها أيقونات لإيصالنا إلى مدن معلومة.
من قصائد الشعر الحديثة التي يمكن أن تعيننا على الحديث عن التعرف بالعلامات الوجهية على المعاني المقيدة والمسبقة قصيدة للشاعرة المصرية عائشة التيمورية، الطريف في هذه القصيدة أن الشاعرة توازن بين المرئيّ والمدرك من علامات العاشق الوله تقول: (إذا أتاك الصبُّ ملتهبَ الحشا/ زفراته ضرب من الرمضاء// ورأيت لوعته عليه تغلّبت/ شوقا إلى ذلك الرحيق النائي// فامنن عليه برشفة أو نفحة /من روح لقمان يفز برجاء). العبارة المفتاح في هذا السياق هي الفعل (رأيت) بما هو فعل إدراك للجوهر الباطن اعتمادا على الظاهر المجتمع في الوجه. فتلهّب الحشا ونار الباطن والزفرات كلها أصداء يمكن أن نجد عليها دليلا أو علامات طريق على خريطة الوجه.
الوجه وعلاماته يصبح حمّالا للعواطف والمرء الذي لن يتعامل بالكلام مع الشخص سوف يستعمل هذه الأشكال الجسدية المسلطة على الوجه بما هي حمّالات للمعاني، لكنّها معان مستقرة في ذهن القارئ: قارئ العلامات الوجهية وقارئ العلامات النصية وفي ذهن الشاعر وفي ذهن الناس جميعا هي علامات مكشوفة لشيء من العبث إخفاؤه: العشق وتبريحه. الوجه قادر على أن يحمل علامات كل الجسد، والوجه هو عنوان هوياتنا ولكنّه أيضا مرفولوجيا عواطفنا التي تفيض على أجسادنا، ويكون الوجه هو المعبر عن أحوالنا. الخبرة لها دور في تحديد معالجة الوجه وتعابيره في هذا السياق الثقافي المقيد. وخبرة البشر على قراءة الوجوه، ومن خلالها العواطف والأهواء خبرة متفاوتة لا شك في ذلك، لكنها ترتكز على المعرفة بالعلامات وما تفضي إليه في الثقافات المحلية أو الكونية. تقول لنا خبرتنا الثقافية المتراكمة أن أنفسنا يمكن أن تنعكس على وجوهنا والخبرة التي ترتكز دائما على النجاح في استقراء الوجوه هي في الغالب حدس أو الانطباع نريده أن يكون صادقا بالعلامات: هي قراءة آنية لوجه آني يترك الموقف للزمان إثباته أو نفيه. لقد تحدّثنا عن الوجه في غياب اللغة، وكأننا نسلك عبر الوجه مسالك وعرة، ليس لدينا من خرائط غير وجوهنا التي يراها غيرنا، أو وجوه غيرنا التي نراها. لكنّ الوجوه لا يمكن أن تدرك من غير خلفيات تجعلنا نفهمها. هذا المقال لا يفصل بين الوجه والروح، ولا يعجب من كان مثل الكاتب الفرنسي جاك دي لا كراتال الذي قال: «للمدينة وجه وللريف روح..» صدقت فللمدن خرائط لا تحتاجها الأرواح.
أستاذ اللسانيّات بالجامعة التونسية