يتباهى المرء بما حباه الله من صفات جسدية ونفسية، تجعله متميِّزا بين الآخرين، ويصير هذا التميُّز محببا إذا صاحبه استحسان يجعل الآخرين يتلهفون على معرفته، والترحيب به في جميع الدوائر. وحينما يتوَّج التميُّز بقبول اجتماعي، تتأتى للمرء قوَّة خفية على الآخرين، مصدرها الإنصات لأقواله ومفاهيمه وتقليدها، لعل أحدهم يصيبه نفس التميُّز.
وعلى النقيض، فإن الكابوس المرعب لأي فرد هو ألَّا يمتلك أيّا من تلك العناصر التي تعد أساس النجاح والقبول. أمَّا الكابوس الأكثر رعبا هو عدم امتلاك الفرد لكل تلك المقوِّمات؛ لأنه حينها سوف تُفرض عليه حياة من العُزلة والوحدة، منشؤها عدم قبول الآخرين له. وهذا بالفعل ما حدث للكاتب الأمريكي ذي الأصول الألمانية تشارلز بكاوسكي Charles Buckowski (1920-1994). ولد بكاوسكي من أب أمريكي ألماني الأصل وأم ألمانية، وانتقلت الأسرة من ألمانيا للولايات المتحدة بعد مولده بثلاث سنوات لتبدأ بعدها رحلة معاناة أبدية. ففي المدرسة، لم يكن مرحَّبا به بسبب طريقه ملبسه، ووجهه الذي كان يخلو من الوسامة، والذي غطته حبوب كثيرة منفرة في فترة المراهقة، ولم تترك الندوب وجهه طوال عمره. وما أدى إلى نفور الآخرين منه لكنته الألمانية، التي كانت تنفخ في كير عدائية ونفور الآخرين منه، فقد كانت ألمانيا حينها موسومة بعار الهزيمة في الحرب العالمية الأولى التي تأججت بسبب اعتداء دول المحور بزعامة ألمانيا على الشعب الأوروبي، وكانت أمريكا هي من أنهت الحرب لصالح الحُلفاء، بينما منِّيت ألمانيا بهزيمة نكراء، تحوَّلت بعدها إلى كيان ضعيف وذليل لأمريكا والدول الأوروبية المنتصرة. وكأن بكاوسكي الطفل واليافع كُتِبت عليه المعاناة والهزيمة التي كُتِبت على أصوله، سواء أكان ذلك في المدرسة، أو في الأوساط الاجتماعية، فلم يكن يحظى بأي قبول على أيٍّ من الصُّعد، ما فرض عليه حياة من العزلة.
لم يستطع في مقتبل عمره الصمود أمام كل هذا الرفض، لدرجة أنه عاقر الخمر وأدمنه، ورفض التقرُّب من الآخرين، بل أضحى حتى نهاية حياته يردد: «الحياة الاجتماعية لا تلائمني». والغريب أنه في غمرة محنته، اكتشف ميوله الأدبية وعشقه لكتابة الشعر والرواية والقصة القصيرة، ولولا الكتابة، لكان دمَّر ذاته، وفقد السيطرة على عقله بسبب إدمان الكحول. وكان يوغر نفسه ارتياب متأصل إزاء معاقل السُّلطة، سواء أكانت متمثلة في شخص والده، أو في السُّلطة الحكومية. وأدى ذاك الشعور للقبض عليه بتهمة التهرُّب من أداء الخدمة العسكرية، التي أنقذه منها فشله في الاختبارات النفسية، ولولا ذلك، لوجد نفسه مقاتلا في الحرب العالمية الثانية ضد مسقط رأسه ألمانيا.
ومع ذلك، لم ينج من ارتياب مكتب التحقيقات الفيدرالية التي لاحقته طوال عمره؛ بسبب أصوله الألمانية وكذلك بسبب مقالاته في إحدى الصُّحف الشعبية، التي أطلق عليها «مذكِّرات عجوز بذيء». ولهذا كان يكرر دوما: «العبودية لم تنته، بل امتدت لكل الأجناس». في بداية حياته، حاول الالتزام بوظيفة ثابتة تتوافق مع رغبته في أن يشبع رغبته في الكتابة. لكنه فشل في الوظيفة، وكذلك لم تتقبَّل الدوائر الأدبية كتاباته. فما كان منه إلا أن ترك الوظيفة وأصبح دائم التنقُّل بين وظائف لم يعرف لها طعما. وبعد محاولاته الدؤوبة أن يحظى بالقبول بين الأدباء، نبذ المُحاولة، وقرر أن يرضي نفسه أوَّلا وأخيرا. فعلى غرار كافكا واصل الكتابة بنهم لا يُضاهى، مؤكِّدا أنه إذا توقَّف عن الكتابة يوما، سوف يلقى حتفه. فكان يكتب لنفسه بغزارة؛ ليفرغ مشاعره. ولهذا، حملت جميع أعماله لمحات من حياته الشَّخصية. وبسبب حياته القاسية التي كانت على وشك أن تجهز عليه نفسيا تماما، أصبحت اللامبالاة بوجود الآخرين وبآرائهم منهاجا وفلسفة، وجعل شعاره «لا تحاول أبدا» فقد وجد في الكدّ في المحاولة الملِّحة لتحقيق نجاح أو لإحراز قبول، إهانة ومذلَّة تُفضي إلى الفشل. لكنه وجد في إرضاء ذاته نجاحا مستقرا ودائما، أو كما يقول: «حياتك لك وحدك، ولن تفهمها إلَّا عندما تمتلك زمام أمورها، فأنت شخص رائع والآلهة تنتظر الاحتفاء بك».
ومن ثمَّ، لم يحاول أن ينمِّق أسلوب كتابته، أو يدس فيها مفاهيم سامية أو رموزا هادفة؛ فقد التزم الصدق والشفافية المجرَّدة في كل شيء. ولم يكن يكتب ليخاطب الطبقات المثقَّفة، بل من أجل الطبقات الفقيرة والمُعدمة؛ فقد تحدَّث بلسانهم ونقل مشكلاتهم الاجتماعية والاقتصادية. ولم تخل كتاباته من استخدام ألفاظ دارجة لدرجة البذاءة.
حاول أن يعيش حياته دون الالتفات لوجود الآخرين وكأنه وحيد في هذا الكون الفسيح، مرددا: «أنا لا أكره الآخرين، بل لا أشعر بالرَّاحة عندما يكونون حولي». فالصدق والحرية في إظهار مشاعره، خاصة عند الكتابة، أصبحت عشقا ودربا. وبناء على مقولته «شجَّع ما تعشقه على قتلك» فقد انغمس في الكتابة بشراهة، وكتب آلاف القصائد التي كان يذهب لإلقائها بين الجمهور وفي يده زجاجة خمر يتجرَّع منها بين فينة وأخرى، وكأنه لا يرى الآخرين. وبما أنه كان يخاطب في أعماله الطبقات الفقيرة في أمريكا، فلم يهتم بالكتابة في الصحف والمجلَّات الكبرى، بل كان يعمل لدى الصحف الصغيرة والمغمورة، وينشر أعماله في مطابع صغيرة وناشئة منذ التزامه في الكتابة بداية من أربعينيات القرن الماضي وحتى حقبة التسعينيات. وكان أداؤه الكاريكاتيري الغريب وسلوكه الشخصي المتعمَّد، وغير المألوف وسيلة أججت شهرته بين العامة، على الرغم من أن تلك المقومات نفسها جعلته لا يحظى بقبول إعلامي وأدبي. أمَّا أسلوبه في الكتابة، فقد حرم أعماله من أن تُدرَّس أو تحظى بدراسات أكاديمية. إلَّا أن صغار المحررين واصلوا الدفاع عنه، إلى أن حظي بقبول إعلامي أدى إلى شهرته بين جميع الأوساط بعدما ارتضى لنفسه الشهرة بين الأوساط المتدنِّية.
وحرص «بكاوسكي» طوال عمره على أن يدير وجهه عن آراء الآخرين فيه حتى يغرس في ذاته ثقة ثابتة الأركان؛ فعزوف الآخرين عنه منذ الطفولة علَّمه درسا جعله دوما يكرر لنفسه: «يجب أن تموت لعدَّة مرَّات قبل أن تستطيع أن تعيش حياة حقيقية». وعندما وجد في حياته بين الطبقات الكادحة والكتابة عنهم حياة حقيقية، تمسَّك بأحلامه ووجوده في خضم عالم من الصدق صنعه لنفسه بعيدا عن زيف الشهرة الواسعة والطبقات المنمقة التي تحيل النجاح إلى عبودية دائمة. فكما يؤكِّد في أعماله، وذكرها بوضوح في روايته الشهيرة «مكتب البريد» Post Office أن الإنسان كما يدخل الحياة صفر اليدين يخرج منها كذلك، وهذا من خلال سرد قصة حياة رجل اشتغل طوال عمره في مكتب بريد ليترك الوظيفة بعد ثلاثين عاما من الخدمة وهو لم يدَّخر قرشا.
والمفارقة، أنه بعد موته أعادت دور النشر الكبرى طبع أعماله، وتحدَّثت كبرى الصحف والمجلات مثل مجلة «تايم» عنه وعن مسيرته. طوال حياته، اعتبره الآخرون فقيرا ووحيدا ومنبوذا، لكن ثقته في ذاته جعلته طوال الوقت لا يأبه لتغيير نظرة الناس عنه، لأنه كان يجد في كل ما يراه الآخرون من عيوب في ذاته وسيلة للحرِّية والعيش بصدق، وقد تأكَّدت وجهة نظره بعد موته الذي فتح خزائن شهرة وإعجاب بشخصيته لا تفنى. كتب «بكاوسكي» على قبره «لا تحاول» وجعل شغفه يجهز عليه، فامتلك زمام أمور ليس فقط حياته، بل ما يحدث بعد موته.
كاتبة مصرية