الآن وقد انتصف العام 2024، في وسع المرء تمحيص بعض تكهنات (والأحرى الحديث عن: نبوءات) الكاتب السياسي الأمريكي روبرت د. كابلان، الجدير بلقب عرّاف الجيو ـ سياسة في التاريخ والجغرافيا والاقتصاد والسوسيولوجيا والأنثروبولوجيا والميثولوجيا؛ أو، في اختصار غير مخلّ أغلب الظنّ، كلّ مصطلح أو منظومة بحثية تنتهي بخاتمة الـ»لوجيا» الشهيرة.
وكان كابلان قد خصّ موقع Kathimerini، الذي يصدر عن Trust Project، بحديث خاصّ حول ما سيشهده العام 2024 من متغيرات محورية، جيو ـ سياسية كالعادة ولكنها عابرة لتنويعات الـ»لوجيا» دون سواها، وجرياً على مألوف كابلان. بين الأبرز فيها أنّ انتصارات روسيا في أوكرانيا «استيهامية» لأنها تكلّف موسكو خسائر فادحة؛ وأنّ تحولات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بصدد التهدئة مع اليونان، مرحلية وكاذبة وسرعان ما سينقلب عليها؛ وأنّ عودة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض سوف تسفر عن «تغيّر اتجاهٍ تاريخي» في السياسة الخارجية الأمريكية، وتزيد بالتالي من المخاطر الأمنية الكونية.
وهذه السطور معنية، أكثر، بما قاله كابلان مطلع العام عن الشرق الأوسط عموماً، وحرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة خصوصاً؛ وما قاله لاحقاً، في شهر أيار (مايو) الماضي، عن الملفات ذاتها، حيث لا يلوح أنّ تغييراً جوهرياً قد طرأ على الخلاصات/ النبوءات: تبدلت حسابات دولة الاحتلال بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، ليس إزاء «حماس» ومعضلات قطاع غزّة فقط، بل كذلك تجاه السلطة الفلسطينية في رام الله؛ وباتت أكثر جذرية (وكأنها، من قبل، كانت معتدلة وناعمة وسلسة!) تجاه «حزب الله» والنفوذ الإيراني في لبنان وسوريا والعراق واليمن، والبرنامج النووي الإيراني.
وبالتالي؟ لا يعتقد كابلان أنّه قد طُوي تماماً احتمالُ تطوّر حرب أوسع نطاقاً في المنطقة، نتيجة حرب الاحتلال الراهنة ضدّ قطاع غزّة. وأمّا بخصوص مستقبل غزّة السياسي، فإنّ «جميع البدائل رديئة». السلطة السياسية الفلسطينية في الضفة الغربية ضعيفة، وفاسدة، ومعادية لإسرائيل. وأياً كانت جهة الحكم في غزّة، فإنّ الإسرائيليين «سوف يحتفظون بنظام أمني واستخباراتي قوي في القطاع». وكذلك، يضيف كابلان، ليس هناك مجتمع دولي يستطيع فرض إرادة سلام أو تسوية، وهذا وهم يشبه الافتراض بأنّ الأمم المتحدة قادرة على حلّ نزاعات الكون الكبرى.
مُحاوِر كابلان كان متلهفاً على سؤاله عن مخاطر بقاء أردوغان في السلطة 22 سنة، الأمر الذي سارع كابلان إلى اختزاله في صيغة الترهيب التالية، السخيفة وغير الممكنة أصلاً: تخيّل لو أنّ ترامب مكث في البيت الأبيض كلّ هذه السنوات! في المقابل، لا المحاوِر تجثّم عناء الطرح ولا كابلان تطوّع باقتراح الإجابة عن سؤال موازٍ: ماذا عن 15 سنة من حكم بنيامين نتنياهو، الخاضع للقضاء في ملفات احتيال ورشوة وخيانة أمانة، الذي يترأس اليوم الحكومة الإسرائيلية الأشدّ يمينة وتطرفاً وتديناً وعنصرية وفاشية؟
وأيّ بلورة سحرية منعت العرّاف من استذكار ما بات مئات الآلاف من الإسرائيليين، أنفسهم، يؤمنون به لجهة ضرورة إقصائه وحكومته؟ أو منعته عن استحضار مشكلات دولة الاحتلال قبل «طوفان الأقصى» حين توجهت الحكومة إلى تعديل أنظمة القضاء بما يحيل المحكمة العليا إلى سلال مهملات الكنيست؟ أو كفّت لسانه عن الإشارة إلى اندحار خرافة «واحة الديمقراطية» الوحيدة في الشرق الأوسط، ولهاث دولة الاحتلال الحثيث نحو منظومات الأبارتيد الأسوأ على مدار التاريخ؟ وكيف أصمّ الأذنين وأغلق العينين، وهو المنجّم البصير المزعوم، حيال هتافات طلاب الجامعات في طول الولايات المتحدة وعرضها؟ أو، أخيراً وليس آخراً، هل بلغته أخبار محكمة العدل الدولية، والجنائية الدولية، ولجان حقوق الإنسان الأممية، التي أدانت قيادات الاحتلال بجرائم حرب وانتهاكات وفظائع بحقّ الإنسانية؟
كأنّ دماء أكثر من 37 ألف شهيد فلسطيني لم تلطّخ ملليمتراً واحداً في بلورته الزائفة الكاذبة
لا عجب في إغفال هذه الملفات الواضحة للعيان، والركون أكثر إلى التنجيم عبر بلورة عمياء داكنة؛ فهو صاحب النبوءة بأنّ يهود دولة الاحتلال سوف يلعبون الدور ذاته الذي لعبه أجدادهم في الشرق الأوسط زمن القرون الوسطى، أي دور الوسطاء الاقتصاديين بين قبائل وأفخاذ وزمر تتصارع وتتنافس دونما استقرار حول معطيات سلطة واحدة، أو في مركز عمراني محدد متجانس. نبوءة أخرى هي أنّ المجتمع الإسرائيلي يتبرجز أكثر فأكثر، والقشرة العليا من ضباط الجيش تتديّن أكثر فأكثر، وهذا في نظره خير على خير: انتقال المجتمع خطوة متقدمة على طريق الموقف المادّي من الحياة، وانتقال الجيش خطوة على طريق الموقف الروحي، أمر ليس في صالح دولة الاحتلال وحدها، بل في صالح المنطقة بأسرها.
كذلك فإنّ السلام بين العرب ودولة الاحتلال سوف يجلب (بالرضى أو بالإكراه) المشاريع والاستثمارات المشتركة، وتقاسم الثروات والمياه، والنموّ الاقتصادي؛ وكل ما حلم به شمعون بيريس، صاحب نظرية «الشرق الأوسط الجديد». ولكنّ ذلك كله لن يحرّر الجماهير العربية الغفيرة من وطأة الانفجار الديمغرافي المقترن بتدهور الحياة السياسية والمؤسسات المدنية، وستحدث المعجزة التالية، حسب كابلان دائماً: الفئات الاجتماعية العربية التي تحتل مراتب عليا في السلّم الطبقي، سوف تقترب أكثر فأكثر من المواطن الإسرائيلي النموذجي المتوسط (الذي يتمتع برفاه اقتصادي متقدّم على جيرانه) وسيجري الاقتراب على مختلف المستويات، بما في ذلك الميول السيكولوجية اليومية والثقافية والحضارية.
لكنّ كابلان ليس هذا فحسب، بمعنى أنه ليس مجرّد كاتب/ عرّاف يلقي الخلاصات على عواهنها؛ بل لقد مارس (والأرجح أنه يفعل اليوم أيضاً) تأثيراً شبه سحري على كثير من صانعي القرار وراسمي السياسات في الولايات المتحدة، داخل البيت الأبيض وخارجه. ومنذ العام 1993 يتربّع على عرش تأويل «العالم الجديد» بوصفه واحداً من أكثر الكتّاب جسارة على التفكير في المحظور، أياً كانت مقادير السخف في الترهات التي يخرج بها؛ والأشدّ اندفاعاً لصياغة سيناريوهات مستقبلية حول مسير الأرض نحو الكوارث.
ففي ذلك العام كان قد نشر «أشباح البلقان» مع سقوط القذائف الأولى في حرب البوسنة، فتلقفته الدوائر المختصة في البيت الأبيض واعتمدته كوثيقة تحليلية للماضي والحاضر والمستقبل. وفي كتابها «على الحافة» كادت إليزابيث درو أن تقسم بأغلظ الأيمان أن تخطيطات كابلان هي التي ردعت (نعم: ردعت!) إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، فحالت دون تطبيق سيناريوهات عسكرية أشدّ بأساً في يوغوسلافيا العتيقة.
بعد عام واحد نشر دراسة كارثية أخرى، حول أفريقيا هذه المرة، بعنوان «الفوضى القادمة» اعتبر فيها أنّ القارّة السوداء لم تعد بكراً؛ ولكنها ساحرة شيطانية حبلى بآلاف الأهوال المرشحة للانتقال بالعدوى إلى أصقاع العالم المتمدن، وغير المتمدن. ومرّة أخرى تلقفت الإدارة الأمريكية خطّ تفكير الرجل، بل وذهب تيموثي ورث (مساعد الرئيس للشؤون الدولية، آنذاك) إلى حدّ وصف المقال بـ «الإنذار الهام» وأخذ يقتبس فقرات كاملة منه كلما توجّب على الإدارة أن تواجه قضية أفريقية.
وقبيل انقضاء القرن العشرين، ألقى كابلان تحيات وداع نبوئية، واسعة الخيال، متحرّرة بالمطلق من أي وازع في استخدام حقّ التكهن السياسي، ومنذئذ وهو يودّع السنة تلو الأخرى بإعادة إنتاج الأباطيل ذاتها؛ وكأنّ كلّ الأحداث الجسام التي شهدتها المنطقة، والعالم بأسره، لم تكذّب أياً من تلك النبوءات. هي حاله اليوم أيضاً، أمام جرائم الحرب الإسرائيلية، وكأنّ دماء أكثر من 37 ألف شهيد فلسطيني لم تلطّخ ملليمتراً واحداً في بلورته الزائفة الكاذبة.
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس