نعرف ماذا جرى مع أفلامنا السينمائية، وكيف تم بيع أصول الكثير جدا منها لقنوات مثل روتانا، التي رغم ذلك، لا تتوقف عن عرضها في قنواتها فنراها. أخيرا تسربت أقوال إنه تم بيع أعداد كبيرة أخرى من الأفلام لإسرائيل، وهناك من يسعي لرفع قضية على من فعل ذلك. سأبتعد عن هذا، وأتناول الأمر من جهة أخرى، وهي كيف كانت مشاهد الأفلام في مدن وشوارع شبه خالية، وعمارات وبيوت حولها وحدائق وشواطئ، تغيرت كلها وصارت في أسوأ صورها. أعرف أنه حين يتم التصوير في شارع أو حديقة أو شاطئ أو غيره، بعيدا عن الاستوديوهات، يتم إفراغ المكان من المارة، لكن لا يتم هدم البيوت أو تشويها، ولا هدم الحدائق ولا تغيير الشواطئ مثلا. فالصورة العامة لما حول المشهد توضح روعة المكان بثقافته في البناء والخلاء معا. وما دمنا مع عيد الأضحى، فيقفز إليّ قبل الحديث أو بسببه، بيت من قصيدة أبي الطيب المتنبي «عيد بأي حال عدت يا عيد» التي كتبت عنها وذكرياتها وأحلامها الضائعة أكثر من مرة.
هذا البيت الذي يطل هذا العام وهو «نامت نواطير مصر عن ثعالبها.. وقد بشمن وما تفنى العناقيد» أراه من زاوية أخرى تتطابق مع حديثي عن السينما وما جرى. رغم أني أعرف معنى البيت، وهو كيف أن مصر ينام حكامها عن اللصوص الذين ينهبون خيراتها وتظل باقية، إلا أن مذبحة قطع الأشجار في مصر تجعلني أقول ساخرا إنهم الآن يقطعون الأشجار نفسها، بعد أن شبعوا وبشموا من قطع العناقيد. هذا بدوره يعيدني إلى السينما قبل الحياة الآن. في طفولتي وفي المدرسة الابتدائية أخذونا إلى سينما فريال في الإسكندرية عام 1959 تقريبا لنشاهد فيلم «الوسادة الخالية». كان الفيلم مثيرا وجميلا وحكايته عن الحب الأول الذي يمكن أن يُنسى، وليس كما يعتقد الجميع أنه يظل باقيا في الروح. فبقاؤه كذبة. الذي خبرته أنا بعد أن نضجت أن الحب الأول على العكس من الفيلم لا يمكن أن يُنسى، بل كلما ذكرته ملأ الفضاء حولك رغم نهايته بسنين طويلة، وعليك ان تنفضه بعيدا عنك أو تتجاهله. من هذا الشعور وبه كانت بعض رواياتي مثل «هنا القاهرة». لكن بعيدا عن ذلك فما أثارني أنا في الفيلم هو الموعد الذي كان يذهب فيه عبد الحليم حافظ إلى شارع السَبَق في مصر الجديدة، حيث تعيش لبنى عبد العزيز. الخلاء حولهما وكيف كانا يذهبان إلى مكان بعيد في منطقة عين شمس فيه بقايا آثار فرعونية، ليكتب حليم على أحد الأعمدة أسميهما صلاح وسميحة، كنوع من الخلود توحي به الأعمدة التي تحمل حكايات الفراعنة. أذهلني خلو شارع السبق والمنطقة حوله، وحلمت بيوم أعيش فيه في القاهرة في هذا الخلاء البديع. لم يكن هذا الفليم فقط أحد أسباب أحلامي بالقاهرة، لكن أيضا كان فيلم «بنات اليوم» لعبد الحليم حافظ، وهو يغني في منطقة المعادي أغانيه في الشارع أو في الخلاء بين الأشجار.
فتنني فضاء المعادي كما فتنني فضاء مصر الجديدة. جئت وعشت ومن حسن حظي أن أول شقة سكنت فيها كانت في مصر الجديدة قريبا من شارع السَبَق. كانت الأفلام في الخمسينيات، وجئت للإقامة الكاملة في أوائل السبعينيات، ورغم أن القاهرة لم يكن عدد سكانها ذلك الوقت يزيد عن المليونين، فقد رأيتها مزدحمة جدا، إلا في المناطق البعيدة مثل مصر الجديدة والميريلاند وما حوله وشارع السَبَق الخالي، وأيضا المعادي قبل أن يضاف إليها ما أضيف من أحياء. كانت القاهرة واسعة حقا لكن كيف لابن الإسكندرية التي كانت في ذلك الوقت لا تزيد عن خمسمئة ألف مواطن، أن يمضي نهاره بين مدينة يصل سكانها إلى مليونين رغم اتساعها. لذلك صار الليل هو حياتي وأصدقائي لأنعم بفضائها وبناياتها التاريخية. حتى عملي في قصر ثقافة الريحاني في حدائق القبة كان في المساء. وقصر ثقافة الريحاني في الأصل بيت رائع بناه نجيب الريحاني، جعل فيه قاعات للنوم والضيافة ومسرح وسينما واستقبال، صار ملكا للدولة، لأنه توفي قبل أن يسكنه. كان الليل أعظم فرصة لأرى تاريخ عمارة القاهرة في كل عصورها، والنهار للنيل والحدائق مثل حديقة الميريلاند أو الأورمان أو غيرهما، كما كان الليل والنهار في الإسكندرية لكل شيء. ما كنت أراه في الحقيقة من جمال كنت أراه في الأفلام أيضا، أعرف للأسف أن حكامنا يرون في الثقافة جهلا فيدمرون كل تجيلتها. لكني أندهش من هذه المثابرة على التشويه الذي صار في البناء والحدائق والشواطئ كأنهم يقولون يكفي أنها ظهرت في السينما. لن أقول إن على الدولة أن تحافظ على تراث المكان، كما ظهر في الأفلام والكتب مثلا. أفلام كثيرة جدا حقا تم تصوير مشاهد منها في الشوارع الخالية والحدائق ونهر النيل والشواطئ والبحيرات، فهل صارت هي الحقيقة الوحيدة الباقية. كيف؟
لقد بدا لي منذ سنوات أن هناك من يبحث في هذه الأفلام عن الأماكن الجميلة كي يقضي عليها. أين ذهبت شواطئ الإسكندرية مثلا، وأين ذهب مرتادوها. لا أنسى يوما منذ خمس عشرة سنة تقريبا، كنت أجلس على الشاطئ جوار سور قصر المنتزه من الخارج، فرأيت أعدادا ضخمة جدا من الشباب والصبية يأتون ناحيتى جريا من شاطئ المندرة، فكانت دهشتي كبيرة، وحين رأيت أمامهما فتاتين ترتديان المايوه البكبيني تسرعان، أدركت أنه التحرش البشع. وقفت بسرعة وأشرت للفتاتين أن تأتيا خلفي، وواجهت الجميع مهددا باتصالي بالبوليس والقبض عليهم، وشتمتهم بأحط الألفاظ السكندرية، فنظروا لي في استغراب ما لبث أن تحول إلى تراجع إلى الخلف، وبقيت الفتاتان معي. نظرت إليهما فأدركت أنهما أجنبيتان. حدثتهما بالإنكليزية فعرفت أنهما روسيتان في زيارة مع غيرهن إلى القاهرة والإسكندرية، وتركتا الفندق لتقضيا وقتا على الشاطئ. لم يكن سهلا أن أحكي لهما ما جرى في البلاد، إذ كان الأهم أن أعيدهما إلى الفندق. مشيت معهما حتى الكافتيريا التي على الشاطئ التي خلعتا فيه ملابس السباحة، وارتديتا ملابسهما وكان الفندق قريبا.
بعيدا عن التغير في العادات والتقاليد الذي كانت وراءه جماعات الإسلام السياسي والدولة نفسها، فالمهم هو ما تفعله الدولة الآن بعيدا عن الإسلام السياسي، ليس من الإسلام ان تقطع الأشجار، ولا أن تشوه الحدائق بمحلات الفول والفلافل. وليس من الإسلام أن تبحث عن كل الطرق لإهمال المباني التراثية، حتى يتم هدمها وإقامة مولات وأسواق. هناك جهل بثقافة العمارة والخلاء يحكم الحكام . لم يشاهدوا أفلاما القديمة التي تجلت فيها كل نواحي الجمال. ليس مهما أنهم باعوا هذه الأفلام فنحن نراها، وإن كنا لن نرى ما اشترته إسرائيل إذا صدق الكلام. لكن هل حقا لم يشاهدوا هذه الأفلام؟ أرى أنهم شاهدوها ويشاهدونها، بل صارت مرجعا لهم ليعرفوا أين مواقع الجمال، بدلا من البحث والزيارة. ومع كل فيلم يكون القرار. اقطع أشجار الميريلاند وحدائق مصر الجديدة التي غنى فيها عبد الحليم حافظ. اردم ما بقي من البحيرات التي مثلت فيها هدى سلطان ورشدي أباظة. خرّب حدائق الأورمان التي غنى فيها محمد فوزي. وإذا قال قائل إن الناس تشاهد الأفلام القديمة وستشعر بالأسى والحزن، يقال له ليس لدينا إلا الأسى والحزن نقدمه للناس. هم الذين صنعوا هذه الأفلام فجعلونا نعرف مواطن ضعفهم فندخل منها.
كاتب مصري