أطراف الصراع في فلسطين المحتلة والمنطقة يحاولون استعجال البحث في مضمون «اليوم التالي» للحرب كمدخل لوقفها. المقصود بـِ»اليوم التالي» الترتيبات والخطط والأوضاع العسكرية والسياسية والديموغرافية، التي يريدون توافرها في فلسطين عموماً وفي البلدان المجاورة لها خصوصاً، حيث تنشط تنظيمات للمقاومة العربية والإسلامية، متحالفةً مع حركة «حماس» وسائر الفصائل الفلسطينية وشركائها في القتال ضد كيان الاحتلال الصهيوني وحليفته الولايات المتحدة الأمريكية وبعض دول أوروبا الغربية. كلٌ من أطراف الصراع له نظرته وشروطه لما يقتضي أن يكون عليه «اليوم التالي» التي يمكن إيجازها على النحو الآتي:
ـ «إسرائيل» تشترط، بلسان بنيامين نتنياهو، لوقف الحرب وللبحث في مضمون «اليوم التالي»: القضاء على «حماس» واستعادة «المخطوفين» أحياءً وأمواتاً، ووضع قطاع غزة تحت وصاية الأمم المتحدة، أو قوات من دولٍ غير معادية لكيان الاحتلال، ومنع قيام دولة فلسطينية مستقلة.
ـ الولايات المتحدة تحبّذ القضاء على «حماس» وتدعو لوقف إطلاق النار لتسهيل البحث في مضمون «اليوم التالي» وانسحاب القوات الإسرائيلية من المناطق المأهولة في قطاع غزة، وتوسيع وتسهيل إيصال الأغذية والمساعدات الإنسانية لسكان القطاع، كما تلوّح بإمكانية إقامة دولة فلسطينية إلى جانب «إسرائيل».
ـ «حماس» و»الجهاد الإسلامي» وسائر فصائل المقاومة في قطاع غزة ترفض البحث في ترتيبات «اليوم التالي» إلاّ بعد انسحاب القوات الإسرائيلية من كامل قطاع غزة، وترفض إقامة اي سلطة في القطاع إلاّ برضى أهله أنفسهم، وتصّر على فتح جميع المعابر المؤدية إلى القطاع، ولا تتخلى عن مبدأ غير قابل للتصرف هو أن فلسطين وطن الشعب الفلسطيني، وأن من حق الفلسطينيين المهجرين من وطنهم العودة إليه.
سائر فصائل المقاومة ترفض البحث في ترتيبات «اليوم التالي» إلاّ بعد انسحاب القوات الإسرائيلية من كامل قطاع غزة، وترفض إقامة اي سلطة في القطاع إلاّ برضى أهله أنفسهم
ـ المقاومة الإسلامية (حزب الله) في لبنان تصرّ على تفعيل جبهة الإسناد في جنوب لبنان نصرةً لأهل قطاع غزة ومقاومتهم المشروعة للاحتلال الصهيوني، وتشترط لوقف تفعيل جبهة الإسناد تنفيذ «إسرائيل» بلا إبطاء ولا مواربة، وقفاً لإطلاق النار في قطاع غزة ومباشرة الانسحاب منه.
ـ تشترط تنظيمات المقاومة في كلٍّ من اليمن (أنصار الله) والعراق (فصائل الحشد الشعبي) وقف الحرب في قطاع غزة وانسحاب القوات الإسرائيلية منه كتدبير يسبق قيام هذه التنظيمات المقاوِمة بوقف قصف كيان الاحتلال نصرةً لفصائل المقاومة في فلسطين.
تكتنف هذه الشروط الصادرة عن مختلف أطراف الصراع وحركات المقاومة مفارقات لافتة، ذلك أن إصرار نتنياهو على عدم الموافقة على وقف إطلاق النار قبل القضاء على «حماس» واستعادة «المخطوفين» يحمل أطراف الصراع، كلٌ من موقعه ووفق مواقفه السياسية المعلنة، على اتخاذ قرارات من شأنها تأخير مطلب وقف إطلاق النار، ما يؤدي إلى تعطيل البحث في مضمون «اليوم التالي» وذلك على النحو الآتي:
ـ الولايات المتحدة تظاهرت بأنه ساءها إصرار نتنياهو علناً على رفض وقف إطلاق النار، فاضطرت إلى الإعلان عن وقف تصدير شحنة قنابل ثقيلة إلى «إسرائيل» لكنها سرعان ما لوّحت بالإفراج عنها قريباً.
ـ «حماس» وحليفاتها وجدت في تعنّت نتنياهو وإصراره على عدوانيته الفاقعة مسوّغاً إضافياً لاستمرارها في المقاومة، وللمطالبة بضمانات جدّية لوقف إطلاق النار من جانب كيان الاحتلال وحلفائه.
ـ حزب الله كشف عن عملية «مسيّرة الهدهد» التي مكّنته من المسح الكامل (بمعنى الرصد والتصوير الدقيق) لكل قواعد ومرافق ومعامل ومواقع العدو الصهيوني في مدينة حيفا ومحيطها، الأمر الذي أذهل الجمهور الصهيوني وألهب مشاعر البهجة والعزم لدى الجمهور العربي في جميع أرجاء العالم العربي.
ـ تعنّت نتنياهو وصلفه وعدوانيته الفاقعة من جهة، وتداعيات عملية «مسيّرة الهدهد» من جهة أخرى، حرّكت الحكومة المصرية بعد طول جمود ونأي بالنفس عما يجري في قطاع غزة وجبهات الإسناد العربية، فكان أن أجرت اتصالاً بوزارة الخارجية الأمريكية داعيةً إدارة الرئيس جو بايدن إلى أن تأخذ على محمل الجدّ كنز المعلومات والمعطيات التي اكتسبها حزب الله، بفضل عملية «مسيّرة الهدهد» وغيرها، ما جعله يمتلك من القدرات التكنولوجية والأسلحة المتطورة مقادير وانواعاً تمكنه من توظيفها في ايّ مجهود عسكري للردّ على أي حربٍ قد يلجأ إليها كيان الاحتلال، وأن يحذر من احتمال أن تتطور اعتداءات كيان الاحتلال إلى حرب إقليمية شاملة، تدّعي واشنطن بأنها تعارضها وتعمل على تفاديها. بايدن لا تفوته بطبيعة الحال هذه المخاطر الماثلة. ففي غمرة الانتخابات التي يخوضها للفوز بولاية رئاسية ثانية، أصبح هامش العمل والمناورة المتاح له محدوداً، خصوصاً بعد كل ما جرى ويجري في قطاع غزة، والجبهات المساندة لمقاومته الصامدة، ولاسيما ما يقتضي أن يكون عليه مضمون «اليوم التالي». يزداد الأمر تعقيداً وصعوبة لاعتزام كلٍّ من فرنسا وبريطانيا إجراء انتخابات عامة قريبة. وإذا كان دور فرنسا ونفوذها محدودين في مشهدية الصراع العربي -الصهيوني، فإن دور بريطانيا ونفوذها وازنان. ذلك أنها تمارس حضوراً سياسياً واقتصادياً وعسكرياً في الخليج، كما في الأردن وقبرص. والأرجح ألاّ يكون في وسع حكومتها خلال فترة الانتخابات القيام بدورٍ مجدٍّ لمصلحة السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط. غير أن ثمة جانباً واعداً في هذا الصراع المحتدم بالنسبة لقوى المقاومة الفلسطينية والعربية، هو واقع الأزمة السياسية والاقتصادية والنفسية التي تتخبط فيها «إسرائيل» في الوقت الحاضر. فنتنياهو في صراع ٍ مع الجيش الإسرائيلي، الذي ترى قيادته أن الكيان في ظل حكومته حالياً بات غير قادر على الخروج بنصرٍ مقبول على «حماس» كما تعارض قيام قواته المنهَكة بشنّ حرب في لبنان على حزب الله. ومسؤول إدارة الطاقة شاؤول غولدشتين يؤكد في مقابلة إعلامية، أن الكيان سيفقد طاقته الكهربائية خلال 72 ساعة، إذا ما نشبت الحرب مع حزب الله في الشمال. ومجموعةٌ من الجنرالات المتقاعدين في الجيش والشاباك (الأمن العام) والموساد (المخابرات) يؤكدون أن الكيان في الوقت الحاضر غير قادر على الاستمرار في حربٍ على ثلاث جبهات (قطاع غزة والضفة الغربية وجنوب لبنان) ومسؤولو البنك المركزي الإسرائيلي، يكشفون ضخامة خسارة اقتصاد الكيان نتيجةَ أطول حرب يخوضها منذ عام 1948. كيف يمكن أن تغتنم فصائل المقاومة الفلسطينية فرصة الأزمة العميقة المستفحلة في «إسرائيل» لخدمة أهدافها؟
لا مبالغة في مطالبة القياديين الفلسطينيين الثوريين الجديين بإجراء مشاورات ولقاءات وترتيبات، لتسريع توحيد الجبهة الداخلية الفلسطينية وتجسيدها في مؤسسات منظمة التحرير، أو في تنظيمٍ موازٍ لها كي يصبح الشعب الفلسطيني بكل قدراته وبالتعاون مع حلفائه في عالم العرب والإسلام وفي العالم الأوسع، أقدر وأفعل في مواجهة التحديات الخطيرة الماثلة. هل كثير على قادة المقاومة الفلسطينية بعد طوفان الأقصى أن ينتدبوا أنفسهم وان يضطلعوا بهذه المهمة التاريخية؟
كاتب لبناني
[email protected]