سمعت باسم الباحث الأمريكي لأول مرة إبان الدراسة الجامعية، كان أستاذنا عبد المنعم الكاروري، أستاذ اللسانيات بجامعة الخرطوم ظاهر الإعجاب به وبكتبه، وكان لا ينهي محاضرة دون ذكر «العم تشومسكي»، كما كان يسميه.
بالنسبة لعموم الطلاب وقتها كان نعوم تشومسكي المولود عام 1928مرتبطاً بالصعوبة وبتعقيدات مادة «اللغويات»، التي كانت جامعة الخرطوم إحدى أولى الجامعات العربية، التي أفردت لها قسماً مستقلاً داخل كلية الآداب. نظريات العالم الأمريكي نقلت علم اللغة من مستواه النحوي التقليدي البسيط، إلى مستوى هو مزيج من علم الفلسفة والحساب والتنظير الاجتماعي، وهو ما ظهر بشكل واضح في ما أنتجه من مقالات وتنظير حول موضوع «البنيوية» و»النحو التوليدي»، وكيف أنه من الواجب من أجل تحليل اللغة التعمق في الصلات، التي تتشكل منها كلماتها وترتبط بها أطرافها.
قدم تشومسكي إفادات فيها كثير من الموضوعية في ما يتعلق بالنضال ضد الاحتلال، وجعله ذلك يحظى باحترام كبير بسبب شجاعته في وقت كان يندر فيه الصدح بالحق
ما سماه تشومسكي «البنيوية التوليدية»، التي ترى أن لكل لغة مستويين، بسيط وعميق، سوف تكون نظرية مهمة في مجالات التحليل اللغوي والثقافي، ولكن أيضاً في إطار البحث عن أفضل سبل تعليم اللغات الأجنبية، كما ستساهم النظرية، التي ظهرت كثورة في مجالها في تطوير البرمجيات الحاسوبية، في ما يتعلق بالترجمة، وبالتأسيس لاستخدامات ما يعرف اليوم بـ»الذكاء الصناعي». كانت «البنيوية» صرعة حظيت بالكثير من الاهتمام وأوجبت نقاشا مقابلاً مع طرح جاك دريدا حول «التفكيك»، قبل أن يصبح المصطلحان، «البنيوية» و»التفكيكية» من المصطلحات الشائعة، التي تسربت من نطاقات اللغة والأدب، لتدلف إلى نطاقات أخرى في علم الاجتماع والسياسة والأنثروبولوجيا وغيرها.
كان تشومسكي يملك عقلاً رياضياً، وهذا ما كان يجعل الطريقة التي يكتب بها تتميز بالكثير من التعقيد والبعد عن أساليب النحاة واللغويين التقليدية، كان من أكبر الأخطاء، التي وقع فيها أبناء جيلنا ممن حاولوا هضم كتبه، هو أنهم بحثوا عن ترجمات أو ملخصات لها بلغتهم. الأزمة المنهجية المرتبطة بما يتم إنتاجه باللغة العربية كانت، وما تزال، تتسبب في فوضى عارمة مرتبطة بمجال الترجمة. كانت تلك الفوضى تتمثل في تعدد ترجمات المصطلحات، حيث ينحت كل مترجم ويختار من الكلمات ما يراه أنسب للمعنى، حتى يجد المرء للكلمة أو للمصطلح الواحد ترجمات عربية مختلفة، تختلف وفق البلدان وأحياناً في البلد الواحد. سنكتشف لاحقاً أن الصبر على تنظيرات تشومسكي اللغوية، ومحاولة قراءتها بلغتها الأم هو أفضل بكثير، لمن يستطيع ذلك، من الاستسهال والبحث عن الترجمات، خاصة حين يتعلق الأمر بشروحات وأمثلة مرتبطة باللغة الإنكليزية. من الصعوبات، التي كانت تواجه تلك الشروحات هي أنها كانت تجعل المترجم يسقط في الحيرة ما بين تقديم مقابل باللغة المحلية للأمثلة المذكورة، مع ما قد يحمله ذلك من بعد في المعنى، أو إعادة ذكر الأمثلة الأجنبية على علاتها لتوضيح المقصود.
في مرحلة لاحقة تعرفت على تشومسكي الآخر، الذي لم يقم أساتذتنا بتقديمه لنا وتعريفنا به. تشومسكي المفكر السياسي، الذي بدأ نقده للمنظومة الغربية منذ نهاية الستينيات عبر مقالة شهيرة حملت اسم «مسؤولية المثقفين»، انتقد فيها التدخلات الأمريكية الخارجية، التي كانت تتم بذريعة الحفاظ على الأمن القومي. مضى تشومسكي لما هو أبعد من ذلك فكان من أبرز نقاد الاحتلال الأمريكي لكل من فيتنام والعراق، كما ألّف عشرات الكتب، التي تمحورت حول نقد الإمبريالية والليبرالية الجديدة وذراعها الأهم المتمثل في الهيمنة الأمريكية. يعرف اليوم تشومسكي كفيلسوف سياسي أكثر من كونه عالم لغة، بل يعد وصفه بأستاذ اللسانيات قاصراً وشديد الاختزال وأشبه بالاكتفاء بوصف شخص مثل إدوارد سعيد مثلاً، بأنه مجرد أستاذ للأدب المقارن. من المعروف عن تشومسكي أنه كان يهودي الأصل فهو ينتمي لعائلة يهودية متدينة مهاجرة، هذا الأصل اليهودي كان محرجاً للكثيرين، فقد كان الرجل مع نقده للهيمنة الغربية والإمبريالية الجديدة، شديد النقد أيضاً للاحتلال الإسرائيلي، الذي لم يفهمه إلا كامتداد لثقافة الاستعمار. قدم تشومسكي نقداً لاذعاً للسياسات الصهيونية وللتواطؤ الأمريكي معها، الذي رده لأسباب دينية ولسطوة المسيحية الصهيونية وسيطرتها على مفاصل صنع القرار في الولايات المتحدة. على عكس كثير ممن شاركوه أفكاره الناقدة والمتضامنة مع الحق الفلسطيني، كان من غير الممكن، بسبب دمائه اليهودية، أن يوصف تشومسكي بالمعادي للسامية، أو الكاره لليهود، وهي التهم الجاهزة، التي كان، وما يزال، يواجه بها كل منتقد للصهيونية أو للسياسات الإسرائيلية، بما في ذلك العدوان الحالي على قطاع غزة.
في العالم العربي كانت كلمات تشومسكي تقدم دليلاً على أن المعركة ليست معركة عنصرية ولا متوجهة نحو عموم المنتمين للديانة اليهودية، حيث لفتت ظاهرة تشومسكي، إلى وجود أسماء أخرى وجماعات وتيارات يهودية معادية للاحتلال الإسرائيلي وللدولة، التي قامت على أرض لا تملكها، وهو أمر يبدو اليوم أكثر جلاء في ظل تظاهر نخب يهودية رفضاً لاستمرار الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني. قدم تشومسكي إفادات فيها كثير من الموضوعية في ما يتعلق بالنضال ضد الاحتلال، وجعله ذلك يحظى باحترام كبير بسبب شجاعته في وقت كان يندر فيه الصدح بالحق بسبب الضغوط وحملات التشويه وبسبب السيطرة الصهيونية على الإعلام وعلى المساحات الاجتماعية.
لم تكن مواقف تشومسكي بلا ثمن، فصار العالم اليهودي، الذي عاصر الاضطهاد الأوروبي لليهود، والذي بدأ حياته، للمفارقة، معجباً بالفكر الصهيوني كوسيلة للخلاص، ولحل «المسألة اليهودية»، غير مرغوب فيه في الأراضي المحتلة، كما حدث في وقت سابق أن تم تصنيفه كعدو للدولة الأمريكية بعد مساندته لحركة التمرد، التي كانت تحرض على رفض المشاركة العسكرية في حرب فيتنام. كتب تشومسكي كلها مهمة للاطلاع وصادمة، وخير مثال لذلك كتابه «الدولة المارقة»، الذي سيصطدم فيه القارئ منذ الصفحات الأولى، حين يخبره أنه لا يتحدث عن دول قد تتبادر إلى الذهن، كإيران أو كوريا الشمالية أو ليبيا القذافي، وإنما عن الولايات المتحدة، الدولة الكبيرة، التي لا تخضع لأي قانون وتستثني نفسها من أي محاسبة. بالنسبة لتشومسكي فإن الولايات المتحدة هي دولة مارقة، إذا كان ذلك المصطلح يعني رعاية العنف والاضطرابات وأعمال العدوان، فهي الدولة صاحبة السجل الأكبر حينما يتعلق الأمر بانتهاكات حقوق الآخرين، أما غزو العراق، الذي لم يحظ بأي إجماع، وجاء عكس رغبات المواطنين في الداخل والغالب الأعم من دول العالم، فكان المثال، الذي يحب تشومسكي أن يمثل به على «المروق» الأمريكي.
أكتب هذا المقال اليوم ولسان عالم اللسانيات والمحاضر المفوه يفقد القدرة على النطق، فيما تعجز أجزاء من جسده عن الحركة، وسط أنباء متضاربة عن الوضع الصحي للرجل الذي يقترب عمره من سن المئة عام. حتى في أيام ضعفه هذه يبدو الأكاديمي الكبير، الذي لم يتوقف عن الكتابة وعن المداخلات المرئية والمسموعة وعن إيصال وجهة نظره عبر المنصات المختلفة، إلا بعد أن اشتد عليه المرض، يبدو شديد التفاعل مع ما يستمع إليه من أخبار، خاصة ما يتعلق بالوضع الفلسطيني.
كاتب سوداني