تجديد الأنظمة أم تجديد الخطاب؟

حجم الخط
0

عندما تكون الأنظمة الحاكمة ، هي صاحبة الرعاية المباشرة أو غير المباشرة لدعوات تجديد الخطابات على تعدد عناوينها ، الخطاب الديني ، الفكري ، العقلي ، التراثي ، أو الثقافي ، قطعا لن تكون تلك الدعوات بريئة ، هي كذر الرماد في العيون ، في محاولة منها لإنكار مسؤوليتها عما وصل إليه الحال ، وتنفيس الاحتقان الحاصل برمي الجمرات على كل الماضي البعيد والقريب والتعاطي معه بإنتقائية وتلفيقية ، وأحيانا بتشكيكية الغرض منها إثارة الفتن لإشغال الشارع بعامته وخاصته عن القضايا الراهنة التي تثير الكثير من علامات الاستفهام حول دور تلك الأنظمة في شيوع الانحطاط ، أسئلة لا تريد الأنظمة الإجابة عليها ، وهي تستبعدها بتحميل المراجع الخمسة ، التراث ، الدين ، الفكر ، العقل ، الثقافة ، المسؤولية !

أسئلة مشروعة

أسئلة بسيطة ومباشرة تدور وتجول في معظم الشوارع العربية وفي أذهان كل النخب النزيهة ، من يتحمل مسؤولية تردي الواقع العربي ؟ لماذا يكون نظام جنوب افريقيا أكثر إحساسا بالعذاب الفلسطيني من الأنظمة العربية ؟
لماذا خرج طلاب أعرق جامعات العالم وبحس إنساني طافح يطالبون بمعاقبة إسرائيل على جرائمها ، وأنظمتنا العربية تحجر على طلبتنا مجرد الخروج ، وإنهم لو خرجوا سيدخلون أبو زعبل أو ربما أبو غريب أو القناطر أو القلعة ، حيث لا ناصر ولا معين ، وربما يجري التعامل معهم كما تتعامل إسرائيل مع أسرى غزة في سجن “سيدي تيمان” ؟ لماذا يمنع الشباب العربي من التعبير عن نفسه في الدعوة لمقاطعة الشركات التي تدعم إسرائيل ناهيك عن إسرائيل نفسها ؟ لماذا تبلع أكبر دولة عربية الإهانات الإسرائيلية المتكررة لها ، هل لأن الترابط أصبح بنيويا بين النظامين ، أم أن إسرائيل خير شفيع للنظام أمام امريكا والبنك الدولي ؟
لماذا يفضل جيل المستقبل العربي المغامرة في بحر الظلمات على البقاء في دار الخراب ، وإلى أي مكان آخر بحثا عن حياة أفضل ؟ لماذا أصبحت بعض الأنظمة المتخمة بالفوائض الريعية راعية للخراب ؟ أسئلة كثيرة تعكس الهموم الحقيقية للشارع والنخب النزيهة ومن يواجه الأنظمة بها ينزل غضب الله عليه !

العيب ليس في تراثنا

ما علاقة الفساد السياسي والاقتصادي والفقرالثقافي المستشري من رأس الهرم الى قاعدته ، بالتراث ، وبالدين تحديدا ، وإذا كان الدين أحد مفاتيح التغيير المنشود فمن الأحرى التفاعل مع قياسات مقاصده الراهنة من دون عزل ، ومصادرة ، وتحميله ما لا يحتمل ، للدين عندنا مزايا عضوية أصيلة ، لا يمنع استنطاقها لبناء دول متقدمة ، إلا الاستبداد السلطوي الذي يريد شرعنة فساده دينيا وفكريا ، ما يغذي نوبات الصرع السياسي المصحوبة بفورات التطرف والتعصب التي تخدمه وتخدم اسياده !
منذ دستور دولة المدينة الذي يعتبر أول عقد اجتماعي سياسي في الإسلام حتى الفتنة الكبرى ومقتل الخليفة عثمان بن عفان على يد ثوار من بين المسلمين ، ثم تواصلها في عهد خلافة الإمام علي بن ابي طالب وبروز حزب الخوارج الذي ادعى أن الصراع على السلطة مفسدة وأصحاباها مفسدون ، ثم الحرب الداخلية بين الشرعية الممثلة بالإمام علي والانقلابية الممثلة بمعاوية بن أبي سفيان ، حتى مقتل الخليفة الشرعي على يد الخوارج وإعلان معاوية الحكم الأموي الذي خرج على دائرة الحكم الرشيد ، وأخذ الدولة إلى نظام إمبراطوري وراثي ، لم يتبلور شكل محدد للحكم الإسلامي ، فتجربة النبوة لا تتكرر أما تجربة الخلفاء الراشدين الأربعة التي تواصلت نحو ثلاثة عقود ، فهي مليئة بالدروس والعبر والإنجازات لكنها لم تترك شكلا محددا لنظام الحكم ومؤسساته وآلياته ، والمجددون والمبدعون الأوائل وأتباعهم كتبوا الأمهات في هذه الإشكاليات والأزمات ، وكانت المذاهب الإسلامية الأربعة إضافة للشيعية هي واحدة من مؤشرات التنوع والتغير حسب الزمان والمكان ، إن مقاصد العدل والمساواة والتقوى ، تقتضي أن لا إكراه بالدين ، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ، ولا فضل لعربي على أعجمي الا بالتقوى ، ولتكن منكم أمة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، والمنكر هو كل ظلم وكل جور وكل عدوان وطغيان وكل مخالفة لتعاليم السماء ، اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ،، وأنتم ادرى بشؤون دنياكم ، وإختلاف العلماء رحمة ، إن مقاصد نظام البيعة الخاصة والعامة والشورى ، تعضد انظمة الحكم الديمقراطية الحقة وآلياتها المستحدثة بحسب زماننا !
نحن في زمان فيه لكل مجتمع دولة تنتظم في معشر معلوم من الدول التي تتشابك كونيا بنسبية من الثبات في اقليمها وهناك شبه إجماع على قواعد ونظم وحقوق وواجبات كلها معنية بالالتزام بها ، وهذا لا ينافي خصوصياتها ، نتطلع لدولة كالجسد الواحد إذا اشتكى عضو فيها تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ، دولة روحها مقاصد الإسلام ، وعقلها حر مبدع يحكمها لأجل مسمى من يقع عليه اختيار الراشدين فيها ، وجسدها هو البناء التحتي بكل مقوماته التي تنشد العمل المنتج للخيرات كعبادة ، دولة للتكافل ، لا جوع ولا فقر ولا مرض ولا تبعية فيها ، فالجوع ابو الكفار ، والناس احرار في دولة حرة ، تحاجج دول الاستعباد الجديد ، بصرخة كيف تستعبدون الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا !

أمراض أنظمة الحكم القائمة

إذا كانت هناك نخبة او حركة تؤمن قلبا وقالبا بهذه الروح وهذه العقلية وهذه التطبيقية وتقاوم وتناضل بكل اساليب النضال المتاحة ، يسارية كانت أو يمينية ، إسلامية أو علمانية فهي ستسكن القلوب والعقول كما وصف هاغاري المتحدث باسم جيش الصهاينة حركة المقاومة في غزة ، هذه الوصفة هي الشافية من أمراض انظمة الحكم القائمة والتي تحارب كل مقاوم ومناضل من أجل الاستقلال والتحرر والديمقراطية العادلة ، يساريا كان أم إسلاميا !
الأنظمة مسكونة بهم البقاء على رأس السلطة ، والتعامل مع النوايا والخوف من الخروج الكبير للناس عليها ، هو دافع سعيها الخشن والناعم لشرعنة وجودها في العقل الظاهر والباطن للمحكومين ، وقطع الطريق على مجرد التفكير بأشكال اخرى للحكم تناسب التطلعات السوية للمتطلعين ، بدول محترمة ، وحرة ومستقلة شكلا ومضمونا في مجمل توجهاتها دولة الشعب ، لا دولة العائلة ، والعشيرة ، والطائفة ، والعسكر، والعسس ، دول لا يكون كرسي الحكم فيها غنيمة ، ولا بتوكيل خارجي متى ما سحب ، جلس على كرسي الحكم وكيل جديد معتمد !

الاستبداد مصنع الفساد

للأنظمة الحاكمة ، ودفوعها ، وانشغالات وعاظها وأبواقها ومقاصدها ، مستويات مختلفة من التناول ، والتركيز ، والتأويل كل بحسب حاجته ، ودرجة ما يتوجس منه عند العامة والخاصة ، ونستطيع أن نتبين خيطين واضحين تنسج حولهما لبوس البراءة السلطوية في الدعوات التجديدية على إختلاف أشكالها ، الأول محافظ ، ونقلي فيما يخص طاعة أولي الأمر ، وتحريم الاختلاف ، على اعتباره مصدر للفتن لكنه مفرط بخصوص مصالح الأمة وخاضع لأعدائها ، والثاني ليبرالي ومتسامح بكل ما ليس له علاقة بنظام الحكم ، حتى في بعض البقع الحساسة كالموقف من مساواة المرأة بالرجل في قوانين الأحوال الشخصية ، وعلمنة التعليم ، وتقزيم القيود العامة الموروثة على المعاملات والسلوكيات ، وتأويلها الى حدود شخصية لا دخل للدولة بها !
لف ودوران فحواه تحريم تغيير نظم الحكم بإرادة الأغلبية ، ومن دون النظر في الوسائل مع وجوب الطاعة العمياء لأولي الأمر ، واعتبار أي محاولة للخروج على نظام الحكم هو من الكبائر ، ومحاربة التنظيمات والنخب التي تعمل على تغيير واقع الحال ، وهذا ما يدفع بالناس دفعا للعمل السري وكبت المضمور والعمل بالتقية ، حتى أصبح رهن مستقبل البلاد والعباد للأسياد المهيمنين ، والتخادم مع شروطهم بالتطبيع مع إسرائيل أحد المحصنات لأنظمة الحكم القائمة !

كاتب عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية