أغلقت نصي وكرهت الرمز

تعودت كل يوم سبت أن أكتب نصا يختزل جولتي الصباحية في محيط منزلي في قريتي الريفية، التي يحرسها جبل بديع وتقع على منحدره بحيرة سمَكُها حلو متوسط، وعلى ضفافها وخلف الضفاف وفويقه شجر الزيتون وحقول من القمح تمضي ألوانها بين الخضرة والاسوداد والاصفرار. أخرج من بيتي صباحا لأمشي طلبا للصحة، وتفريجا عن ضيق محبس النفس، وأنسا بالفضاء المفتوح بعد أسبوع أقضيه في فضاء مغلق.
أكتب نصا يؤرخ لجولة السبت الصباحية، أكتبه على غير منهج، كما قال أبو العلاء المعري متحدثا عن بطله ابن القارح في «رسالة الغفران». الكتابة على غير منهج شيء يجد في نفسي راحة لأنه يجعلني أكتشف الفكرة شيئا فشيئا بانبلاج صبح كل حرف: إنه الإنشاء بأتم ما في هذه العبارة من معنى الخلق لكون غير معلوم.
الكيانات التي أراها في الصباح الباكر طيور أو حيوانات أليفة ترعى، أو تحرس ما يرعى؛ أما البشر فإما أني لا أراه، وإما أنه يمر برتابة لا حياة فيها لذلك لا يشدني ولا أجده موضوعا مهما. أكون في نصي سبتيا يصوم عن الكلام مع البشر ويتكلم مع كيانات الطبيعة، ويتركها تتكلم أو يصمتها في عز الكلام. لم يكن النبي سليمان يعرف لغو الحيوان لوحده، فالأساطير الكثيرة في الثقافات المتنوعة تزعم أن الحيوانات كانت تتحدث، وكان الناس يفهمونها في عصر منطق الحيوان. علماء الحيوان، يحاولون اليوم أن يفكوا شيفرات معينة لبعض الحيوانات ويزعمون أن لها «لغة « تتخاطب بها أو علامات تلغو بها. الطير لم يتكلم ثم أمسك عن الكلام ثم جعل الإشارات دليله على لغته القديمة.
في هذا اليوم وحين كنت أرى الطائر المعروف بمالك الحزين تخيلت حوارا بينه وبين ابنه وزوجه، فكتبت تحت ضغط ذلك الحوار النص التالي: «عندما تكون مسافرا من الصعب أن ترى العالم كما هو: تقول عصفورة لعصفور؛ يرفع العصفور رأسه أنْ: ما الحل؟ تجيب العصفورة: حتى ترى العالم كما هو، أقم فيه دهرا مع من أقاموا فيه فجرا بعد فجر، وشمسا بعد شمس، وعصرا بعد عصر.. أما أنا فأقول لنفسي – وقد بدأت أفهم إشارات الطير: من أين لطائر مهاجر أن يعرف قوانين المُقيمين؟ مالك الحزين بطل المشهد هذا الصباح يقول لابنه الصغير: يا مالك يا ابن مالك أرأيت بدعة أمك؟ يصاب الصغير بذهول مكتشفي الدنيا والفاشلين في الإحاطة بأسئلة أب يدعي الحكمة فيسأل أمه: وما بِدْعَتُك يا أمي؟ يقهقه مالك بصوت أجش فيه طقطقة، لكنه لا يبتسم حتى لا يخرج من ملة الحزن.. ويقول: أمك يا حبيب أبيك تطالع صفحات الكتب.. أغرمت بشيء يسميه هؤلاء الساعون كالديوك في الأرض قراءة.. ينصرف مالك الصغير إلى أكَمَة قريبة ويلعن هذه الفلسفة الزائدة.. يقول في نفسه: مالي ولهذه الأسرة الكافرة ويطير كمن يريد أن يترك القبيلة.. لكن أين تراك ترحل إن خرجت على القبيلة. أقول أنا لنفسي؟ لا بد لك من قبيلة أخرى.. لا بد أن تعرف نواميسها وسننها وعجمتها وفصاحتها وليونتها وشدتها.. السفر بين القبائل قديما أعسر من السفر اليوم من بلدان الجنوب إلى بلدان الشمال.. ستخرج من ضيق النفس إلى نفس الضيق.. سامح الله الشنفرى وخروجه المارق.. استبدل أهلا من البشر بأهل من الضواري.. عاد إلى وحشية الحياة البدائية. تقرأ حبيبة مالك الكبير أم مالك الصغير حكايات عجيبة عن كائنات أخرى من داخل الأرض وتتعجب: تقول لمالك: اسمع يا مالك يا حبيبي.. هذه النكتة: يطبخ البشر الذين يسكنون تحت عشنا السمك فيقول مالك: أعوذ بالله من عجمة البشر وما معنى يطبخون؟ قالت إنهم يشعلون نارا.. قال وما معنى يشعلون؟ سكتت حبيبة مالك الصغير عن الكلام غير المباح.. وطار مالك الكبير يتفقد ابنه الذي قريبا يصبح جدا.. أما أنا فأمر على دار هذا الصباح وأشم ريحَ شيء لذيذ.. أتقدم وأنا أنسى هويتي وأدخل بلا طرق باب وأجلس على الطاولة ولا أثير أي استغراب.. وابتسم لوجه يبتسم لي ويسألني عن السكر». هذا هو النص الذي نشرته صباح السبت في السابعة.. أكون قد عدت لتوي من رحلتي وأستعد ليوم العطلة الذي أكتب فيه أشياء كثيرة وأراقب ما يقوله القراء وأتفاعل في سياق القراءة التفاعلية.
الكتابة التفاعلية كتابة شعورية منفتحة على ما وراء الشاشة باتساع.. فأنت تكتب على جدارك نصا بخط إلكتروني، ليس هو من ماء الذهب الذي زعموا أن المعلقات كتبت به. يظل النص معلقا على حائطك ويمر القراء فمنهم من يقرأ ويصمت ومنهم من يقرأ ويستحسن ويسجل الاستحسان والاستحسان درجات ومنهم من يعلق على النص.
«غلق النص» عبارة من العبارات الجديدة التي باتت تنسجم مع بعض الأحوال من تفاعل كاتب النص المعلق على الجدار مع المتفاعلين معه. أن تغلق النص يعني أنك تعمد إلى حجبه عن القراء، وفي ذلك موقف لم يكن لكاتب النص الكلاسيكي. أن تحجب النص في سياق من السياقات، يمكن أن يكون رد فعل على أن التعليقات لم تعجبك باعتبارك كاتب النص المعلق؛ والتعليقات التي لا تعجب صنفان: صنف فيه نيل من الكاتب، وهذا لا يعنينا في هذا السياق؛ وصنف فيه نيل من النص وهذا هو الذي يعنينا.
«غلق النص» هو عبارة تدل على قدرة الكاتب على أن يحجب نصه، ثأرا له ولقلة الاحتفاء بمعانيه أو لعدم الاهتداء إلى الرمز الذي أراده منه كاتبه. حجب النص وغلقه لم يكن متاحا قبل العصر التفاعلي قديما؛ فلم يكن الكلام حين يذاع وينشر قابلا للسحب؛ لقد كان نصا يذهب في اتجاه واحد كالماء سيالا أو كالنار في الهشيم. لكن النص اليوم وهو قابل للغلق يستعيد شيئا من سلطة الكاتب وقدرته على التراجع خطوتين إلى الوراء. سلطة الكاتب ليست في الكتابة؛ سلطته هذه تفتك حين يصبح – ونصه متاح مباح – قارئا من بين القراء؛ وسلطته المسترِدة أنه يحرم الناس القراءة، بل يحرمهم التفاعل حين يشعر بأن نصه قد أسيء فهمه. وحين يساء فهم النص فثمة مشكل مشترك بين من يكتب ومن يقرأ. مشكلة من يكتب أنه لم يترك مفاتيح لقائه به يعالج رموزه. ومشكلة القارئ يكمن في أنه بات كسولا لا يصبر حتى يفك خيوط الرمز. فمثلا حين أكون أنا كاتبا لنص رقمي، وأتحدث عن مالك الحزين وعن امرأته القارئة، فجدير بي أن أترك شيئا من القرائن تعين الباحث على حل خطاطة الرمز، لكن وعي الكاتب وهو يكتب ليس مستقيما لأنه لا يفكر في مثل هذه الأشياء، إنه لا يبحث عند الكتابة عن ذلك القارئ الذي يمشي بهدايات العلامات الدالة على مكامن الرمز الحقيقي، إنه يكتب فقط ليحاور الكائنات في الكون حوارا لا تعنيه منه التفاصيل ولا الوضوح.
لكن حين يقرأ النص برده إلى الواقع وتكون تلك القراءة لا ترضي الكاتب لشعور بأن الكون الذي بناه هو شيء لا يرجع إلى الواقع، بل يتعالى عليه فإنه يشعر بأنه قادر على الرجوع خطوتين إلى الوراء، لا إلى ما قبل الكتابة فالنص قد كتب، بل إلى ما قبل النشر فيغلق النص ويحجبه، إما لأنه كأهل الكهف عادوا إلى كهفهم منكسرين، وإما لأنه نص لم يجد قارئه المتناغم مع كاتبه.

أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية