تقع مدينة مندلي وسط سهل خصب ممتد لمسافة أكثر من 100 كيلومتر حيث يبدأ من سلسلة جبال حمرين شمالا وينتهي بقضاء بدرة التابع لمحافظة واسط. وكانت تاريخيا على المستوى الإداري قضاءً تابعا لولاية بغداد منذ زمن الدولة العثمانية، لكن المدينة وبسبب ما تعرضت له من كوارث إبان الحرب العراقية الإيرانية، ونتيجة هجرة سكانها بعد أن تحولت إلى ساحة حرب، تم تغيير مستواها الإداري إلى ناحية عام 1987 وأصبحت تابعة لقضاء بلدروز، بعد أن كانت مدينة بلدروز الصغيرة ناحية تابعة لمندلي على مدى عشرات السنيين.
وزارة التخطيط العراقية أعادت مؤخرا الاعتبار لمدينة مندلي وجعلتها بمستوى قضاء تابع لمحافظة ديالى عام 2024 لكن بقيت مشكلة النزاع بين الحكومة المركزية وحكومة إقليم كردستان حول تبعية هذا القضاء ضمن أزمة ما يعرف بالأراضي المتنازع عليها.
سكان مدينة مندلي يقدرون بـ 120 ألف نسمة حسب تقديرات عام 2014 وتبلغ مساحتها 733 كيلومترا مربعا. طبيعة أراضيها سهلية وهي قريبة من سلسلة جبال حمرين. ومندلي من أهم المدن الحدودية مع إيران. وتبعد عن مدينة بعقوبة مركز محافظة ديالى مسافة 90 كيلومترا باتجاه الجنوب الشرقي وتبعد عن العاصمة بغداد مسافة 160 كم باتجاه الشرق. ويحد قضاء مندلي من الشمال قضاء خانقين، ومن الجنوب قضاء بدرة التابع لمحافظة واسط، ومن الشرق الجمهورية الإسلامية الإيرانية. أما من الغرب فيحدها قضاء المقدادية. وسكان مندلي خليط من الكرد والعرب والتركمان، لذلك تجد سكانها يتكلمون اللغات الثلاث بطلاقة إضافة إلى اللغة الفارسية كون المدينة مركزا حدوديًا مهما بين العراق وإيران. ويسكن المدينة خليط من العشائر العربية والكردية والتركمانية مثل البيات والعزة والبو جواري، والعساف، والردينية، والقرة لوس.
تحيط بالمدينة بساتين النخيل الكبيرة، كما إن 90 في المئة من أراضيها صالحة للزراعة، لكن مشكلتها الأزلية هي توفر المياه، إذ كانت المدينة تعتاش على نهر موسمي يعرف باسم كنكير، وهو نهر تتحدر مياهه من مرتفعات إيران المجاورة لمندلي والتي لا تبعد سوى خمسة كيلومترات عن مدينة سومار الإيرانية المنافسة لها على مياه الوديان ومنها نهر كنكير، ونتيجة إقامة السدود المؤقتة والدائمية في الجانب الإيراني باتت مندلي تعاني من شحة المياه منذ مطلع القرن العشرين حتى الآن، ولم تحل مشكلة المياه في هذه المدينة حلا جذريا حتى الآن.
بما أن مندلي تقع في سهل منبسط، وهي قريبة من سلسلة جبال حمرين وتحيط بها البساتين لذا نرى أن مناخها لا يختلف عن مناخ شرق العراق، فهو حار جاف صيفًا، بارد ممطر شتاءً، كما تهب على المدينة رياح جنوبية شرقية في الشتاء وتكون محملة بالغبار لانها قادمة من الصحراء الموجودة جنوب مندلي.
ولكون المدينة بوابة شرقية للعراق فإنها تاريخيا كانت مركزا تجاريا مهما للقادمين للعراق للزيارة والتجارة. لكن اقتصادها يعتمد بشكل كبير على الزراعة التي تعرضت لهزات عنيفة بسبب مشكلة المياه، وباتت تقتصر على الحبوب كالحنطة والشعير التي تزرع ديما (تسقى بمياه الأمطار). ما عدا ناحية بلدروزالتابعة لقضاء مندلي فتسقى أراضيها سيحا من جدول الروز الذي هو أحد فروع ري ديالى السفلي. لذلك نرى إن ناحية بلدروز تنتج آلاف الأطنان من الحنطة والشعير والسمسم والكتان. كما تزرع فيها الخضر مثل البامية والطماطم. ويزرع بكميات كبيرة الرز للاستهلاك المحلي في العراق. وكانت بساتين مندلي تضم قبل الحرب العراقية الإيرانية مليون نخلة تنتج حوالي 160 نوعًا من التمور أشهرها: میر حاج، الأشرسي، الخستاوي، الخضراوي، القرنفلي البريم، التبرزل، الزهدي، المكتوم. كما توجد في مندلي المحرومة من المياه بساتين كبيرة ومهمة تكثر فيها أشجار الرمان الذي يعد من أجود الأنواع المنتجة في العراق.
الاسم والتاريخ
يذكر ياقوت الحموي في «معجم البلدان» مدينة مندلي باسمها القديم فيقول: «البند نيجين: لفظه لفظ التثنية، ولا أدري ما بندنيج مفرده، إلا أن حمزة الأصبهاني قال: بناحية العراق موضع يسمى وندنيكان وعرب إلى البندنيجين، ولم يفسر معناه: وهي بلدة مشهورة في طرف النهروان من ناحية الجبل من أعمال بغداد، يُشبه أن تعد في نواحي مهرجانقذق. وحدثني العماد بن كامل البندنيجي الفقيه قال: البندنيجين اسم يطلق على عدة محال متفرقة غير متصلة البنيان، بل كل واحدة منفردة لا ترى الأخرى لكن نخل الجميع متصلة، وأكبر محلة فيها يقال لها باقطنايا، وبها سوق ودار الإمارة ومنزل القاضي، ثم بويقيا، ثم سوق جميل، ثم فلشت. وقد خرج منها خلق من العلماء محدثون وشعراء وفقهاء وكتاب».
ويذكر الموسوعي العراقي انستاس ماري الكرملي في مقال له: «الظاهر إن الاسم هو وندنيكان كأنها جمع وندنيك على الطريقة الفارسية ومعناه: الملاكون الطيبون، فظنها الناس مثنى وندنيك. أما كيف قلبت واو وندنيكان باءً عربية فهذا من باب التعريب، وهو كثير الأمثلة». ويذكر المستشرق وعالم الآثار الألماني ارنست هرسفيلد: «إن البندنيج من الفارسية القديمة وردنيكا. وهي بالآشورية دليكا أو دريكا، وذكرها هيردوس باسم أردريكا. وقال إن فيها عيون نفط». ويوجز هرتسفيلد اسم المدينة بقوله؛ أن اسم مندلي تطور من وردنيكا أو ارد ليكا أو أوردريكا إلى بندنيج، وبند نيجين، فمندلين، فمندلي وهي ما تعرف به اليوم.
ويقول عبد الرزاق الحسني في كتابه «العراق قديماً وحديثاً» عن مدينة مندلي: «تقع مندلي شرق بعقوية على مسافة 93 كيلومتراً وعلى بعد بضعة كيلومترات من جبال بشتكوه الإيرانية غرباً. وتشرف على واد فسيح فيه مياه العيون والغدران المتفجرة في الجبل المذكور فتكون نهراً يمر بالقصبة يسميه الأهلون نهر كنكير. وتنتشر في أطرافها بساتين عديدة فيها من الفواكه المنوعة، كالرمان والبرتقال والليمون ومن التمور المشهورة كالخستاوي والخضراوي والأزرق ما يجعل لحاصلاتها سمعة خاصة في أنحاء البلاد العراقية، وهي إلى ذلك عذبة الهواء حسنة العمارة، كثيرة النفوس قليلة المقاهي، ذات حدائق خاصة وواسعة وقصور للأغنياء جميلة وفيها من المباني الحكومية كالسراي والمستشفى ودائرة البرق والبريد والتلفون ومدارس البنات والبنين ما يتناسب وأهميتها، أما مياه الشرب فتجلب للبيوت بأنابيب تتصل بمشروع إسالة يأتيه الماء من بعض الآبار الارتوازية التي حفرت خصيصاً لهذا الغرض بعد أن أشرفت المدينة على الهلاك».
وفي مباحث الدكتور مصطفى جواد ذكر لمدينة مندلي، إذ يقول: «لحق الجبل، صقع من نواحي العراق الشرقية لانه في لحق الجبل كهمدان ونهاوند وما والاهما، وهو دول تلك البلاد مما يلي العراق ومنه البندينجين (مندلي) وغيرها، وفيها عدة قلاع وأهمها قلعة المشاهدين. كما وان ترشك يطلق الآن على ترساق وهي مقاطعة من مقاطعات ناحية قزانية وموقعها حصين لقربها من جبال بشتكوه».
أما المؤرخ عباس العزاوي فيذكر في موسوعته «العراق بين احتلالين» مدينة مندلي في التاريخ فيقول: «عين لإدارة بغداد وترتيب شؤونها الوزير مؤيد الدين محمد العلقمي فقد جعل وزيرا فهو آخر وزير للعباسيين وأول وزير للمغول في بغداد. واختير معه من الموظفين في الإدارة فخر الدين بن الدامغاني صاحب الديوان ونصب للديوان أيضاً. والأمير علي بهادر للشحنة، وارتاقان واوزان كمرشحين له ونائبين لقراتاي عماد الدين عمر القزويني. والأعمال الشرقية كالخالص وطريق خراسان والبندنيجين فوضعت إلى نجم الدين أبي جعفر أحمد عمران الذي كان يسمى بالوزير الصادق».
كما يذكر عباس العزاوي في الجزء الثاني من كتابه ص 239: «وجاء في تواريخ عديدة ان تيمورلنك بعد ان عزم إلى الروم ثنى عزمه إلى الشام فسخرها، ورجع إلى قلعة النجق (النجا) وكان لها عشر سنوات محصورة فتوقف هناك حتى سخرها وقتل سيدي علي الاوغل شاهي الذي كان بها. وأرسل جيشاً إلى بغداد فامتنعت عليه ووقعت الحرب بين أميرها فرخ وبينهم وجاء أمير علي قلندر من البندنيجين وغيره من الأمراء الآخرين وعبروا دجلة من قرب المدائن، وسار فرخ شاه من الحلة، وميكائيل من المسيب فالتقوا جميعاً عند صرصر، واجتمع معهم مقدار ثلاثة آلاف فارس فوقعت المعركة بينهم وبين الجغتاي حوالي عمارة أمير احمد، فانكسر الجيش العراقي». كما ذكر العزاوي مدينة مندلي في إشارته «وفي بندينجين وقفية بساتين لجامع مرجان».
آثارها ومزاراتها
أنجزت البعثة البريطانية تنقيبات آثارية في مدينة مندلي في ربيع عام 1966 بمساعدة مالية من المجمع الأمريكي للفلسفة وبمساعدة من جون سيمون، وكان البحث منصبًا على حقبة عصور ما قبل التاريخ. وقد عثر المنقبون البريطانيون في منطقة جاكامامي التي تبعد أربعة كيلومترات شمال قضاء مندلي على معالم مشاريع للإرواء تعود إلى منتصف الألف السادس قبل الميلاد ولعلها من أقدم ما عرف في العالم في هذا الموضوع. كما وجدت البعثة قنوات عديدة انشئت لأغراض الري، وأشارت مصادر البعثة إلى ان الدلائل الأولية تؤكد ان نظاما للري كان قائما في تلك الحقبة من الزمن التي تسمى عصر سامراء القديم.
كما عثر في منطقة مندلي على أوان فخارية تعود لما بعد الميلاد ولكنها على أنواع مختلفة. إذ أن التلال المحيطة بالمدينة تعود إلى ما قبل التاريخ بصورة عامة عدا مجموعة تقع عند النهاية الغربية للسلسلة والتي ترجع إلى العصر العباسي المتأخر. ومن هذه السلاسل تمرخان، وهو أكبر التلال وقد ظهرت فيه أشياء غير متوقعة عند الكشف والتنقيب لأن جرار الصوان والأحجار الزجاجية السوداء والأواني الصخرية التي اكتشفت تشير بوضوح إلى أنها أقدم من تلك التي اكتشفت في جارمو في كردستان. والاكتشاف المهم الثاني هو أن الأواني الفخارية في مندلي لها شبه بتلك التي عثر عليها في الماضي في مواقع آثارية في سومر وفي رأس الاميبة القريبة من كيش. والفخار من هذا النوع ثبت بأنه شائع في منطقة مندلي وهناك تل صغير قرب تمرخان عثر فيه على فخاريات من النوع الذي عثر عليه في أريدو. وفي تل منخفض آخر إلى الشمال من تمرخان عثر لأول مرة على فخار له علاقة تاريخية بما عثر عليه في سامراء.
وهناك مجموعة من التلال التي مسحت وتقع في منطقة النفط خانه على بعد خمسة كيلومترات إلى الشمال من مندلي في منطقة هزاركري حيث يقع فيها أكبر تل أثري مسح أيضاً، وهذا التل معروف محلياً باسم جيجاكان وقد عثر فيه على مواد ولقى آثرية يعود أغلبها إلى السلالات الأولى من حضارة لارسا وبعضها يعود إلى اوروك.
وفي هذه المنطقة أيضاً وجد تلان يحويان على مواد مثيرة ومدهشة كما أظهرتها التنقيبات. وأكبر هذين التلين هو جكامامي حيث وجدت في هذا التل كسرة فخارية أثرية ملونة تشير إلى أنها تعود إلى ما قبل التاريخ، وإن النقوش الموجودة على هذه الكسرة الفخارية تشبه النقوش الموجودة في لقى وجدت في تل حسونة وألوانها حمراء وسمراء ورمادية: والدلائل تشير إلى أن هذه المنطقة كانت تحت سيطرة جارمو.
وإلى الجنوب من مندلي هناك تل ساساني يدعى قلعة سفيد وقد عثر هناك على فخار عباسي مع قليل من بقايا شفرات المناجل وكذلك كسر فخارية تعود لعصر العبيد، وهذا يدل على أن القلعة الفارسية بنيت على هذا الموقع حيث التل الأثري الذي يعود لما قبل التاريخ، ولا توجد تلال أثرية لما قبل التاريخ مجاورة لهذه المنطقة. كما إن هناك أربعة تلال أثرية فارسية تعود لحقبة سابقة للتاريخ الإسلامي. أما التلال الأثرية في غرب مندلي فلم يجر مسحها لحد الآن.
كما تضم مدينة مندلي مزارات مقدسة بينها مرقد الإمام كرز الدين (عز الدين) يقع ضريحه في الضفة اليسرى من وادي حران في مقاطعة الدحلة، واسمه الحقيقي السيد أحمد، وقد غلب لقبه عليه وسمي بكرز الدين أو عز الدين. وهو أحمد بن محمد بن اسحق بن علي الزيني عبدالله الجواد بن جعفر الطيار بن ابي طالب. وقد اعترض المؤرخ العراقي الدكتور مصطفى جواد على هذه المزارات فقال: «لا صحة لما ذكر عن مزارات الأئمة في مندلي، إذ إن مقابر الطالبيين معلومة ومعروفة ومدرجة في كتب كثيرة». لكن مؤرخ مندلي عمران موسى البياتي يذكر في كتابه «مندلي عبر العصور»؛ «إن هذا المزار معتبر من القديم، وأن المندليين لهم زيارة خاصة في الخريف لصاحب هذ المرقد، وقد توارثوا ذلك عن الآباء والأجداد. وإن مراسم زيارته تطول في مندلي مدة أربعة أسابيع من شهر ايلول/سبتمبر حتى تشرين الأول/اكتوبر من كل سنة وإن الجميع يزورون هذا المرقد ويحلفون به، وهو محترم من جميع السكان. وقبل مدة أصاب بناء المرقد تصدع أدى إلى انهدام البعض منه، وقد جدد بناء الضريح وقبته عن طريق التبرعات بفضل المساعي التي قام بها المرحوم السيد باقر الطالقاني عالم قزاينة. وقد بني حول الضريح الطارمات الواسعة ونورت القرية بالكهرباء وفيها بئر ارتوازي ومدرسة ابتدائية تبرع ببنائها السيد باقر الطالقاني وسميت المدرسة بالأحمدية».
وفي مندلي مزار الحاج يوسف ويلقب أبو الحية ويقال أنه من أحفاد الإمام الحسن السبط (ع). وهو مدفون قرب نخيل النقيب ويطل على أراضي الفهيدي الصحراوية وله مقبرة خاصة بأسمه يدفن فيها أموات عشيرة ساعدة والبوجواري والحامد وغيرهم الساكنين في الطحماية. مزاره وقبته فوق تل كبير وقد ظهر إن هذا التل له قيمته التاريخية، وتقرير مديرية الآثار يخبرنا بوجود آثار ما قبل التاريخ في هذا التل. ومن تحت التل وفي أسفل المزار منبع عين ماء معدنية من الكبريت تفيد المرضى من المجذومين وذوي العاهات المزمنة يأتون إليه ويبقون فوق هذا التل مدة من الزمن يغتسلون بهذا الماء ويشربون منه ويطينون جسدهم من طينه وبعد عدة أيام من شفاء مرضهم يصبح لزاما على كل واحد منهم وعلى أهليهم زيارة هذا المرقد في كل سنة أيام الربيع أو الخريف، وعند زيارتهم يجلبون له معزة يذبحونها في الحضرة ويقسمون اللحم على الفقراء الساكنين هناك. وسدنة المزار هم بيت يوسف عباوي ومجيد عباوي ومسعود الأعرج الذين يشتركون السدانة ويتقاسمون النذور.
كما تشير كتب تاريخ مندلي إلى الشيخ مندلي المدفون في محلة السوق الصغير ويقابلة جامع ومصلى. واسمه سيد رحمن ويقال أنه من نسل الإمام زين العابدين علي بن الحسين (ع) وقبره ظاهر ويزار منذ زمن الحكومة العثمانية، إذ كان يعطي لمتوليه خمسة فدادين من الزراعة يصرف على مرقده، ثم الغى ذلك في زمن الحكومة الوطنية. وله مواسم خاصة لزيارته في أيام الأعياد، وفي محرم الحرام يزدحم الناس في حرمه وله مقبرة خاصة وتسمى باسمه. وقد تم ترميم المزار في عهد الرئيس العراقي أحمد حسن البكر الذي تبرع بمبالغ مالية لتعمير المرقد على أحسن ما يرام. كما تضم مندلي مزار عون بن علي المدفون ضمن بساتين علي جادر آغا وهو من المزارات التي يزورها الكثير من أهالي المدينة الذين يقدمون النذور للتبرك بصاحب المزار.
حكاية عروس مندلي
عروس مندلي، فتاة أصبحت رمزا لحكاية من الحكايات المأساوية التي عاشتها المدينة إبان الحرب العراقية الإيرانية. بطلة الحكاية هي فتاة في التاسعة عشرة من عمرها اسمها لميعة مراد علي القرةلوسي وهي من سكان مندلي استشهدت نتيجة القصف الإيراني لمدينتها عام 1983. يقول زوجها جلال برهان البياتي في لقاء متلفز معه بعد أربعين عامًا على المأساة: «لا هي شبعت مني، ولا أنا شبعت منها فقد استشهدت بعد تسعة أيام فقط من زواجنا». ويسرد جلال ذكرياته عن المأساة فيقول: «أحببتها وأحبتني وصارت القسمة، خطبتها وتزوجنا. عملنا حفلة العرس بالبيت، وبعدها ذهبنا لبغداد لقضاء يومي عسل. ورجعنا عند أهلي بمندلي. كنت جنديا، فتركت عروسي والتحقت بموقعي في جبهة القتال في القاطع الشمالي. بعد تسعة أيام بالضبط من العرس سقط صاروخ إيراني على البيت، أصيبت لميعة وأخوها عدنان. بترت أطرافها الأربعة واصيبت إصابة بليغة في رأسها، وأستشهد أخوها. وتم نقل لميعة للمستشفى «.
يكمل جلال سرد حكايته الموجعة فيقول: «أُبلغت في وحدتي العسكرية إن أهلي اتصلوا هاتفيا، ومنحت إجازة قصيرة للاطمئنان على الأهل دون أن يبلغني أحد بما حدث لعروسي. ذهبت إلى مندلي، وصلت البيت فوجدت المدينة مهجورة بعد تعرضها لموجة قصفٍ وحشي أجبر من تبقى من سكانها على الهرب. بقيت في البيت الموحش حتى الصباح حيث رأيت رجلًا عجوزًا من سكان حينا، حكى لي المأساة التي حدثت، وقال إن زوجتك نقلت لبعقوبة. ذهبت إلى هناك مسرعا، فوجدتهم قد نقلوها من مستشفى بعقوبة إلى مستشفى الجملة العصبية ببغداد بسبب خطورة إصابتها. وهنا وقعت علي الصاعقة عندما رأيتها وقد بترت أطرافها الأربعة وكانت في حالة غيبوبة بسبب إصابة في الرأس نتيجة شظية تسببت بكسر عظم الجمجمة، وقد اجريت لها عدة عمليات، ليتم نقلها لمستشفى في منطقة العطيفية حيث بقيت في قسم العناية المركزة».
ينتقل جلال البياتي إلى لقاء العرسان في ظل المأساة، فيقول: «أتذكر عندما أفاقت لميعة من الغيبوبة واكتشفت إن أطرافها قد بترت أصيبت بصدمة وقالت لي بذهول: جلال كيف سأخدمك بعد الآن. فأجبتها، لا تهتمي يا حبيبتي ساكون يديك ورجليك. بقيت خمسة عشر يوما بهذا الوضع. وفي هذا الوقت أخذت قصتها صدى إعلاميًا، فكتبوا عنها كثيرًا في الصحف العراقية، ونشرت لها صورة وهي ترفع يديها الاثنين وهي مبتورة، فتحولت الصورة إلى أيقونة. توفيت لميعة في المستشفى وتم نقلها ودفنها في مقبرة النجف».
ضج العراق من أقصاه إلى أقصاه. الحكومة نعت الشهيدة وأقيم لها تمثال كبير في مدخل مدينة مندلي، كما سميت ساحات ومدارس وشوارع باسم عروس مندلي، وتم إنتاج فيلم عراقي عن الحدث باسم «عروس مندلي» أخرجه محمد شكري جميل عام 1988. كما خصصت إحدى قاعات قبو نصب الشهيد في قلب بغداد لعروس مندلي حيث وضع في غرفة في المتحف أثاث عرس لميعة مراد، وفستان زفافها الملطخ بدمها، وقفازات يديها أيضا، بالإضافة إلى تمثال نحاسي صنع لها بعد استشهادها.