التاريخ ما هو إلا حقب متتالية شبه متطابقة، وفي كل حقبة يصل فيها الإنسان لقمة من التقدُّم والازدهار، التي لن تصبح، للأسف، بداية لدروب أفضل لمسيرة الحياة البشرية، تتحوَّل إلى نقطة انطلاق لانهيار إنساني غير مسبوق من شأنه تمهيد الطريق لحقبة أخرى تصير أكثر تقدُّما ورفاهية. أمَّا الخسائر البشرية والنفسية والاجتماعية التي تتكبدها البشرية حينئذٍ، فلا تفيها صفحات التاريخ ذكرا، بل تسطر ما حدث في اقتضاب وتركِّز على دروب التقدُّم حديث النشوء. وقد لاحظ الفيلسوف والمفكِّر الفرنسي ميشيل فوكو Michel Foucault (1926-1984) ما يطرأ على مسيرة التاريخ، ووصف إيَّاها بأنها حلقات مفرغة من القوَّة epistemes of power تشبه الزنبرك، إلَّا أن هذا الوضع من الأحرى وصفه بأنه حلقات من الانتخاب الطبيعي لن ينجو منها إلَّا من يكن مفعما بقوَّة ذهنية تؤهِّله لبلوغ المرتبة التالية من الانتخاب الطبيعي الذي يفرضه التقدُّم.
وتغزو العالم في الوقت الرَّاهن تغيُّرات عنيفة على جميع الصُّعد، سواء أكانت اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية، ولربما كان السبب الرئيسي في ذلك هو النهضة العلمية غير المسبوقة، متمثلة في ما يطلق عليها مجازا «الثورة الصناعية الخامسة» وبطلها في هذه المرحلة هو الذكاء الاصطناعي.
وما أشبه اليوم بالبارحة، فقد ولد الفيلسوف والمفكِّر والكاتب ومؤلِّف الموسيقى الفرنسي الأصل والجنيفي المولد جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau (1712-1778) في حقبة سادتها تغييرات عنيفة في كل المناحي، فقد كان العالم يسير إزاء الثورة الصناعية الأولى، التي غيَّرت تاريخ البشرية، التي مهَّد لحدوثها تغيير المنهاجية الفكرية الشعبية، التي كانت خانعة لنفوذ كل من الملك والكنيسة؛ ففي خضم الصراع الفكري الذي يسود أوروبا، بدأ العامة في مساءلة الكنيسة ودورها، ومن ناحية أخرى مساءلة شرعية الملك، وتضمن ذلك رفض سلطته بأنه ممثل الخالق على ظهر الأرض، وقد ساهم في إزجاء ذاك الصراع الفكري الانفتاح على ثقافات أخرى من خلال التوسُّع التجاري الذي أضحى بمثابة نشر ثقافات جديدة. وفي نهاية القرن الثامن عشر، اجتاحت الثورة الصناعية الأولى جميع أرجاء أوروبا، فزادت من حدَّة نشوب الصراع الفكري الذي كان مصدره القلق من تفوُّق الآلة على الإنسان، والذي قد يُفضي الاعتماد عليها تقليص دور البشر، وبالتالي بروز خطر فناء البشرية. لكن، ذلك أفضى في الوقت نفسه إلى التفكير في صيغة للتكيُّف مع تلك المتغيِّرات للاستفادة من التقدُّم العلمي، ما دفع البشرية نحو حقب تالية أعنف تقدمّا وأشدّ قسوة.
ومن أوائل المفكرِّين الذين تم نعتهم بالحداثيين في فجر التقدُّم البشري كان الفيلسوف جان جاك روسو، الذي كانت أفكاره لا تتبع النمط الفكري السائد حينذاك، بل كانت تقدُّمية لدرجة ترقى لانتمائها إلى قرن لاحق من الزمان. ولعل أبرز ما أثرّ في تكوين شخصيته وأفكاره نشأته ورحلة حياته منذ الطفولة، فقد ولد في مدينة جنيف، التي أصبحت عاصمة السلام في سويسرا في الوقت الحالي، لكنها كانت حينذاك بعيدة عن التقدُّم والرفاهية. وروسو ابن الطبقة المتوسطة، كانت والده يعمل صانعا للساعات، وبحثا عن حياة أفضل، انتقل إلى فرنسا بينما كان روسو لا يزال في الثانية عشرة من العمر فقط. لكن الطفل اليافع منذ ذاك الحين أصبح مراقبا لذلك المجتمع الجديد، الذي انتقد ما يسوده من سطحية فكر وتفاهة، والانغماس في الرفاهيات والملذَّات، فكان ذلك مؤشرا لضعف النمو الفكري في المجتمع الفرنسي؛ لأنه كان يظن التقدُّم العلمي يصاحبه تقدُّم في عقلية المجتمع، وليس فراغا وتفاهة اجتماعية أدَّت إلى اختفاء الرحمة وتحجُّر قلوب جميع طبقات المجتمع، ما جعل روسو، مؤمنا بأن التقدُّم يبتلي المجتمع بعواقب سلبية. شغل عقله التفكير في إيجاد سبب لذاك التأثير السلبي للتقدُّم، خاصة أن البشر فطروا على حب الخير وطيبة القلب. ولتفسير ذاك التحوُّل استخلص أن الإنسان مجبول على ما يسمى «اعتبار الذَّات» amour de soi وفي تلك المرحلة يحاول إرضاء متطلباته الذَّاتية، لكنه في الوقت نفسه يتعاطف مع الآخرين. لكن نهج «اعتبار الذَّات» غير قادر على مجاراة التقدُّم والمتغيِّرات المتلاحقة، مما يصيبه بالضعف وأحيانا بالشلل، وعندها يتحوَّل إلى «حب الذَّات» amour propre الذي ينشأ بسبب التقدُّم والازدهار التكنولوجي. فما يحدث أن الإنسان تكسوه قشرة خارجية تزداد صلابتها وسمكها مع محاولة مجاراة الآخرين وتقليدهم، والتسابق معهم من أجل تحقيق الثروة وبلوغ مناصب رفيعة، علما بأن ما يطرأ على الفرد من تغيُّرات هي بالفعل ظاهرية وقشرة خارجية تتوافق مع الأولوية الأولى للمجتمع المتقدِّم؛ وهي تفوُّق المظهر والبعد عن مساعدة الآخرين، مما يساعد على توحُّش الأنانية، ولذلك أطلق «روسو» على تلك الطبقات «النبلاء المتوحِّشون».
ولحل تلك المعضلة نشر روسو كتابه «العقد الاجتماعي» Contract Social في عام 1762، الذي ألَّفه ليكون بمثابة ميثاق لتنظيم الحياة الاجتماعية في ظلّ التقدُّم العلمي والمتغيِّرات المصاحبة، التي تكون بمثابة سلاسل تستعبد الإنسان الذي خُلِق حرّا، لكن تحيله المتغيرات إلى تابع خانع، أو كما يقول: «ولد الإنسان حرّا، لكنه في كل مكان يجرّ سلاسل الاستعباد». ولطالما أكِّد أن القوَّة السلطوية لا تؤتي ثمارا حميدة، فمبدأ البقاء للأقوى يفتح المجال للكثير من الصراعات والمزيد من «حب الذَّات». وعلى عكس معاصريه، كان يسعى لوجود طبقة حاكمة لا تكون القوة الغاشمة شيمتها، بل تكون قادرة على مراعاة تقلُّبات البشر المتناقضة التي تشبه الانتقال من الريف للمدينة، والعكس. ولهذا السبب، أكَّد أهمية كتابة ما يشبه «العقد» ليكون وثيقة اجتماعية تنظِّم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، تتم فيها حماية الفرد والملك بطريقة يشعر فيها الفرد بالانتماء للمجتمع، وأن يخدم طوعا الآخرين، دون أن يتنازل ولو عن ذرة من حرِّيته. وبالتأكيد، تلك معادلة صعبة تشغل المفكِّرين والفلاسفة من الماضي وحتَّى وقتنا هذا. لكن حلّ تلك المعادلة الصعبة بالنسبة لروسو، كان يقتضي أن يقدِّم الفرد كل ما لديه لأصحاب الأمر حتى لا يُثقل كاهل أحدهم بالهموم ويتجرَّع القسوة، بينما يرفل آخرون في النعيم، ثم يدع الأمور في يد أصحاب الأمر لتنظيم خطوط المستقبل؛ لأن الفرد هو جزء من المجتمع، والمجتمع لا يمكن أن يصبح كينونة دون الفرد، فكلاهما يكمل الآخر. وبالتأكيد، ذلك يتطلَّب قوَّة إرادة وعقلية متينة راقية. والتسليم لأصحاب الأمر هو الاعتراف بدورهم حينما توضع مجموعة من القوانين الثابتة التي تتحرى الدِّقة لتحقيق العدالة بين الناس. لكنه حذَّر من مغبَّة إجبار الفرد لأن يصبح حرّا، وذلك يحدث حينما لا يستطيع التوافق مع التغيرات السائدة في مجتمعه.
وبالنظر إلى المجتمع في صورته الحالية في ضوء نظرية «العقد الاجتماعي» التي نادى بها روسو، يلاحظ أن الإنسان أصبح حرّا، ولعل وسائل التواصل الاجتماعي تؤكِّد ذلك؛ والسبب عدم توافر قواعد وقوانين تنظيمية رادعة على الصعيد العالمي تنظِّم العلاقة بين الفرد والعالم الافتراضي، التي تنعكس بدورها على علاقة البشر مع بعضهم بعضا، فتفشى قانون الغاب، وأصبح مبدأ البقاء للأقوى سائدا. وعلى الرغم من ذلك، أصبح الفرد تابعا لكل مستحدث وصار من الصعب إرضاؤه والوفاء بتقلُّباته بين عالم الواقع والعالم الافتراضي الذي أضحى ستارا كثيفا من الزيف. وبالنسبة للذكاء الاصطناعي، فهو يشكِّل مرحلة جديدة من الحُرِّية القسرية والتبعية لنظام رقمي قد تجسَّد في شكل آلة.
التقدُّم ضرورة حتمية، لكن يجب وجود عقد اجتماعي لتنظيم العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والإنسان، لضمان عدم رفض الإنسان للتقدُّم الذي قد يجعل منه تابعا لا يستطيع الفرار من سيطرة الآلة، رغم أن البشرية تؤكِّد بلوغها أعلى مراتب الحرِّية.
كاتبة مصرية