قالها بلينكن قبل أكثر من سنتين ومن العاصمة الجزائرية بالذات: «نناشد الجزائر الحد من العلاقات مع روسيا والتطلع إلى تحسين العلاقات مع جارتها المغرب». لكن لا وزير الخارجية الأمريكي ولا إدارته فعلا ما يكفي لحث الجزائريين والمغاربة على وضع حد للقطيعة الدبلوماسية الطويلة نسبيا بين بلديهما، وهذا ما طرح علامة استفهام كبرى حول حقيقة ما تريده واشنطن في الشمال الافريقي بالذات؟
وربما قد يقول كثيرون، من المؤكد أنها ترغب طبعا بتعزيز وجودها في ذلك الجزء من العالم، وحماية مصالحها من جهة، ومحاصرة التغلغل الروسي والصيني المتصاعد في المنطقة من الجهة الأخرى. وهنا هل أن الإبقاء على الوضع القائم حاليا بين أكبر بلدين في تلك المنطقة، أي وضع النزاع الصامت والمفتوح على كل الاحتمالات، يبدو مناسبا ومفيدا لتحقيق تلك الغاية؟ لا شك في أن الجارتين المغاربيتين تتسابقان بضراوة منذ عدة عقود، لكن هل أنهما تلاحقان في النهاية وهما وسرابا؟
لعل الأمر يبدو للبعض أشبه ما يكون بذلك، غير أن آخرين قد يعتبرون تلك الصورة مضخمة ومبالغة بعض الشيء. وقد لا يرى هؤلاء في الأصل أن هناك سباقا لا ظاهرا ولا خفيا بين البلدين، بل تنافسا حتى إن كان حاميا وداميا مرات فإنه يظل عاديا. غير أن السؤال الذي يطرح نفسه في تلك الحالة هو، لأجل ماذا ينفق المغاربة والجزائريون إذن ملايين الدولارات سنويا لشراء وتكديس ترسانات ضخمة من الأسلحة؟ ولماذا يجوبون مختلف العواصم العالمية سعيا لتوطيد علاقاتهم بالقوى الكبرى، وتوسيع وتنويع دائرة شراكاتهم وتحالفاتهم؟ ألا يكمن في جزء من كل ذلك على الأقل بحث الشقيقين التوأمين، مثلما وصفهما العاهل المغربي ذات مرة، أي الجزائر والمغرب عن الفوز بسباق الزعامة في الإقليم؟ وهنا من المؤكد أن الجزائريين يقولون ومن غيرنا أهل لكسبه؟ فيما يرد المغاربة بدورهم ومن سوانا أجدر بالظفر به؟ ومن الواضح أن الطريقة التي سيحسم بها الجدل القائم منذ عقود بين البلدين المغاربيين الكبيرين، حول أيهما يبدو جديرا بالريادة في المنطقة تبقى مفتوحة على عدة فرضيات.
الأمريكيون ينظرون إلى الزعامة الإقليمية بين المغرب والجزائر بشكل وظيفي وبنظرة مجتزأة ومحدودة للغاية تكاد لا تخرج عن نطاق المصالح الآنية والعاجلة لهم في المنطقة
ولم يكن مفاجئا في هذا الصدد أن ترى صحيفة جزائرية قبل أيام، أن الأمر قد حسم تماما بعد أن دخل الأمريكيون بقوة على الخط. فقد اعتبرت جريدة «الشروق» المحلية في مقال نشرته السبت الماضي، أن واشنطن اختارت أن تمنح ذلك التاج الفخري، الذي لطالما أجج الصراعات والعداوات بين الجارتين، للجزائر. أما كيف حصل ذلك؟ فكل ما قالته الصحيفة هو، أن العملية تمت من خلال رسالة التهنئة التي توجه بها الرئيس الأمريكي إلى نظيره الجزائري بمناسبة عيدي الاستقلال والشباب، اللذين صادفا الجمعة الماضي وتضمنت الفقرة التالية: «لعبت الريادة الإقليمية للجزائر دورا حاسما في حل أشد المشاكل إلحاحا في العالم، على غرار الجريمة العابرة للحدود والتطرف وعدم الاستقرار والنزاعات»، ما يعني وبالاستناد دائما إلى المصدر نفسه، أن كلمة الريادة الإقليمية للجزائر «تشير إلى أن واشنطن ترى وتتعامل وفق منطق مفاده، أن الجزائر دولة ريادة في محيطها الإقليمي. وأن هذا الإقليم يمكن ضبطه انطلاقا من حدوده الممتدة من المنطقة المغاربية شمالا إلى قلب القارة الافريقية في منطقة الساحل جنوبا، وفي حوض البحر الأبيض المتوسط من أقصى شرقه إلى أقصى غربه، بحدود بحرية تتجاوز الألف ومئتي كيلومتر»، لكن هل يفكر الأمريكيون حقا على ذلك النحو؟ وهل ينظرون إلى الجزائر بالمنظار الذي قدمته تلك الصحيفة؟ وبأي شيء ترتبط الزعامة أو الريادة الإقليمية؟ وهل إنها، أو المقاييس التي تجعل في الأصل دولة تملك الريادة الإقليمية؟ هل هي القوة العسكرية، أو الثقل الاقتصادي، أو الجغرافي أو الوزن السياسي؟ أو كل ذلك معا؟
لقد اكتفت رسالة بايدن بالإشارة فقط إلى ما سمته بالدور الحاسم للجزائر «في حل أشد المشاكل إلحاحا في العالم»، ولم تكن القضية الفلسطينية مثلا على رأسها، ولا كان أبرز وأهم ملف إقليمي لا يزال يعطل تحقيق التقارب والاندماج بين الشعوب المغاربية، وهو ملف الصحراء، واحدا من بينها على الأقل. وفي المقابل فإن الإدارة الأمريكية، فضّلت أن تكون الإشارة الوحيدة إلى تلك المشاكل في تلك الرسالة مقتصرة على «الجريمة العابرة للحدود والتطرف وعدم الاستقرار والنزاعات». وهذا ما يعني أن الأمريكيين ينظرون إلى الزعامة الإقليمية بشكل وظيفي وبنظرة مجتزأة ومحدودة للغاية، تكاد لا تخرج عن نطاق المصالح الآنية والعاجلة لهم في المنطقة. إنهم لا يطلقون كما يخيل للصحيفة ربما، كلاما معسولا بالمجان نحو الجزائر بقدر ما يتطلعون لتحميلها مسؤولية ما، في الاضطلاع بدور يصب في خدمة أهدافهم ومشاريعهم. ومن المؤكد أنهم يعرفون جيدا مقدار التغلغل الروسي والصيني في ذلك البلد بالذات، ويقدرون تبعاته وانعكاساته المحتملة على المنطقة. وقد سبق لوزير خارجيتهم أنتوني بلينكن عندما قابل الرئيس الجزائري قبل أكثر من عامين أن قال للصحافيين ومباشرة بعد انتهاء تلك المقابلة «إن الصراع في أوكرانيا يجب أن يدفع جميع الدول إلى إعادة تقييم العلاقات مع روسيا والتعبير عن دعمها لوحدة أراضي الدول الأخرى»، قبل أن يضيف «أعلم أن هذا الشيء يشعر به الجزائريون بقوة». وكان من الواضح أن أهم نقطة حرصوا على التركيز عليها في هذا المجال هي دعوة الجزائر إلى ضخ كميات أكبر من الطاقة في الأسواق العالمية لتعويض النقص الذي سببه الحصار الغربي لروسيا. وكانوا يعلمون بالطبع أن ذلك سيعزز من وضع الجزائر داخليا وخارجيا. لكن هل كان ذلك العرض بمثابة الهدية المسمومة؟
لا شك في أن رفض دول البريكس للطلب الجزائري بالانضمام لتلك المجموعة قد يعكس وإلى حد ما ذلك، غير أن تصريح وزير الخارجية الروسي الذي سبق الرفض بأيام وقال فيه، إن معايير توسيع البريكس «تضمنت وزن وهيبة الدولة ومواقفها على الساحة الدولية»، ربما أربك كثيرا من الحسابات الجزائرية وأعطى لواشنطن بالمقابل مجالا أوسع للمناورة وسمح لها بالاقتراب أكثر من الجزائر. وهنا هل كان الاتفاق الضمني بين الجانبين هو أن يحافظ الأمريكيين على الوضع القائم في المنطقة، وأن لا يمضوا بعيدا في تكريس إعلان إدارة ترامب عن اعترافها بمغربية الصحراء؟ من الواضح أن الإدارة الأمريكية الحالية فضلت اللعب على الحبلين المغربي والجزائري، فالموفدون الرسميون لم يترددوا غالبا في إعطاء تصريحات متضاربة في العاصمتين ومحاولة مسك العصا من الوسط بالحديث عن الدعم الكامل لجهود الأمم المتحدة لحل المشكل الصحراوي. لكن هل حاول الأمريكيون استخدام نفوذهم لحث البلدين على التقارب؟ من غير المؤكد أنهم فعلوا ذلك. لقد بقيت كلمة السر هي المصالح الأمريكية في المنطقة، وليس ثابتا حتى الآن أن الحفاظ عليها يمر عبر عودة الدفء للعلاقات الجزائرية المغربية.
كاتب وصحافي من تونس