رواية اللعنة: بين سطوة السلطان وأهوال الحرب

حجم الخط
0

تسير الرواية في زمنين يتناوبان الحضور، أحدهما في زمن السلطان العثماني سليم، المتعطّش للحكم والقتل، حسب ما في الرواية، وثانيهما فترة متأخرة في زمن الحرب العالمية الأولى. وهناك بطلتان: «رميا» التي سرعان ما أُلحقت، على إثر سبيها، بحريم السطان سليم بن بايزيد؛ والثانية «حمامة» التي معها تبدأ الرواية ومعها تنتهي، وهي ولدت في إحدى قرى النصيرية العلوية، لتبدأ حياتها بمجزرة حاقت بقومها، أو بطائفتها، فنقرأ قيامها من بين الرؤوس المقطوعة والأجساد الممزقة أشلاء في فصل الرواية الأول، بل في صفحتها الأولى، ما يجعلنا نظن أننا، في تلك البداية، في وسط عمل روائي أو في ختامه، وإذ يُرجَع بنا بعد ذلك إلى ولادتها، نقرأ عن تلك الوحمة في جسدها الصغير، ما جعل قابلة القرية تنذر أمّها بما قد يكون شيطانيا في المولودة.
الأنثيان مع ذلك أُعطيتا موهبة استشراف ما سيأتي، والعلم بما لا يعرفه من جاء، من حيث جيء بكل منهما. فرميا عارفة بالتصوّف وبالتاريخ، وكذلك بالحكمة. أما حمامة فبالحدس والتوقّع اللذين ظهرت علامتهما مرّة واحدة، لتعود بعدها طفلة بين أيدي المشعوذين والخائفين من حلول اللعنة بينهم. لم يفدها حدسها وعلمها بالغيب في حماية نفسها مما حدث، بل في ما تلا من سيرتها، كانت أضعف وأقل حيلة من أن تدفع عن نفسها الاعتداء والخطر. كانت لها في الرواية محطات انتقال وإقامة، فيما ظلّت الأخرى، رميا، ماكثة في المكان السلطاني الذي جيء بها إليه، ولم تغادره إلا إلى حافة خليج البوسفور، مغطاة الرأس بكيس خشن، لترمى هناك شأن كثيرات قبلها في أجنحة الحريم السلطاني.
مع ذلك هي تحولات قليلة، بالمنحى الروائي، وإن اختلف ما بينهما. ذاك أن الخلفية التاريخية، التي ميزتها الحرب والنزاع والقتل شديدة الحضور، إلى حد أننا، في محطّات كثيرة من الرواية كنا كما لو أننا نقرأ تاريخا خالصا. وفي محطّات أخرى، كنا نقرأ نصا صوفيّا، أو شعريا مصاحَبا باستشهادات من الشعر العربي، يجري على لسان رميا، التي من المفترض أنها لم تنشأ في بيئة عربية، أي أن كل ما يجري للأنثيين مكتنَف بالتاريخ وحروبه ومجازره، وبالحكمة التي يُستذكر أعلامها من متصوفة وشعراء. في طليعة هؤلاء شيخ المتصوّفة ابن عربي، والشاعر أبو نواس الذي جرى رفعه في الرواية إلى مصاف العالم الحكيم.
وفي ما خصّ الجانب التاريخي جمعت الكاتبة الزمنين المتباعدين في سياق واحد، فكلاهما يحكي عن البطش السلطاني، وما يتبعه من وحشية الإنكشارية والعسس (ودائما حسب رؤية الكاتبة) وإن من مكانين مختلفين. فرميا، المحظية، اختصت بوصف القسوة والدسائس الجارية في القصر، وكذلك الظلم الذي لا يتردّد السلطان في أخذ الأثيرة من بين حريمه إلى هاوية البوسفور، دون التحقّق من ظنّه، بل دون ما يدعو إلى الظنّ أصلا. ما فعلته رميا هو ذكرها لبيتين من الشعر (العربي أيضا) دفعا السلطان إلى اتهامها بالخيانة. أما حمامة فهي شهيدة حيّة على كل ما جرى من اقتلاع بشر من أماكنهم وملاحقتهم بالسيوف القاطعة. وهذا الجور يُروى مختصّا بالعلويين، حيثما وُجدوا، مكانا وزمانا. ففي الرواية الجارية في كنف التاريخ، المازج الحقيقي بالمتخيّل، نقرأ عن الاغتيال والملاحقة، التي تعرّض لها العلويون والإثنا عشريون في محطات مختلفة في العصرين الأموي والعباسي، وما تلاهما وصولا إلى سقوط السلطنة.
إزاء ذلك ما تسعى إليه حمامة ليس نصرة طائفتها، بالأخصّ، فهي شأن شريكتها في البطولة، أكثر وعيا، مما يؤدي إلى الانتماء للأقوام المتنازعة في بلاد وُصفت في الرواية على أن لا شيء يجري فيها إلا البطش والقتل. فكلا البطلتين ترى أبعد مما تعيشانه. كأنهما تعيشان أفكار الزمن اللاحق على وجودهما، زمن ما بعد زمنهما حيث بدأ الناس يتنصّلون من معتقدات ضربت عميقا في التاريخ، مستعصية على التحوّل والتغيّر. حمامة التي أدت بها وقائع حياتها إلى العيش في كنيسة لبنانية أرادت الرحيل والتخفف من سجن الرهبنة، الذي ألحقت به. كنا، فيما نقرأ، نظن أن هذه الإقامة شكلّت خلاصا لحمامة المعذّبة، لكنها ولم يكن قد مضى زمن كاف على إقامتها، قرّرت الخروج، غير هاربة كما سابقات لها، حسبما تقول الرواية.
مصيران مختلفان انتهتا إليه كل من رميا وحمامة. الأولى قضت غارقة في مياه البوسفور، والثانية أوصلها الهرب من البلاد التي عاشت فيها إلى أمريكا. نهاية سعيدة لإحدى بطلتي الرواية.

«اللعنة» رواية سها مصطفى صدرت عن دار نوفل في 174 صفحة سنة 2024.

كاتب لبناني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية