الكتابة الملعونة

لا أحد يعرف شيئا دقيقا عن تاريخ الكتابة المفصل وما الذي دار في خلد من رسم لأوّل مرة رسما على كهف أو على لوحة لا ليرسم لمجرد الرسم، بل ليحكي بالرسم عن شيء آخر. أوّل أحوال الكتابة كانت رسما، لكنّه كان رسما لا يحاكي مرجعا، بل به يحكي الرسام/ الكاتب عن شيء اسمه الفكرة. أن يرسم طفل صغير يحب القطط قطة على ورق أو على جدار فإنه يحاول برسمه أن يحاكي قطه المرجعي وهذا هو الخارج. صحيح أنّ الطفل من الممكن أن يلتقط له صورة بالهاتف لكنّ الرسم أنفع له في التفاعل مع القط المرجعي وتمثله أو تمثيله بالرسم. لكنّ الرسم والصورة كليهما هما من الأيقونات لأنّهما علامتان تربطهما بالقطّ المرجعيّ علاقة تشابه. فمهما كان الرسم غير دقيق فسيحوي عناصر مشابهة لتلك التي تبني في الواقع هيئة القط مثل أذنيه وذيله ورأسه وعينيه المميزتين.
الكتابة بالرسم لا تجعل من الرسم أيقونة، لأنّها تفقده (بما هو رسم) علاقته الدلالية بما يمثله. لنأخذ مثالا على ذلك الكتابة الهيروغليفية القديمة التي تزدان بالرسوم والصور، الصور في هذه الكتابة ليست تمثيلات للأشياء المرجعيّة، بل هي تمثيلات ليس الغرض منها بناء علاقة تشابه مع الموجودات المرجعيّة التي فيها؛ على العكس من ذلك تستعمل الصور في الرسوم لتدلّ على أفكار ولا تدلّ على الموجودات. حين تستعمل الرسوم لتمثيل الأفكار تكون الرسوم قد فقدت علاقة الشبه التي تجعل منها أيقونة فتتحوّل إلى رمز.
إنّ نقل الرسم من التمثيل الأيقونيّ إلى الرمز، ومن المحاكاة إلى الحكي والحديث يعدّ في تاريخ التفكير البشري مرحلة مهمة لأمور عدة، نقتصر فيها على أمرين، أوّلهما أنّ الرسّام بات كاتبا، وثانيهما أنّ الكاتب بات مفكرا يريد أن يرسم بالخطوط كلاما هو في الأصل أصوات مندثرة تذهب مع الريح أو تندثر في الكائن الصاخب أو الصامت. لكن أن يصبح الرسام كاتبا فذلك حدث مهمّ يعني أنّه قرّر أن يستخدم الرسوم في تدوين الأفكار ونقلها عبر الرسوم إلى غيره أو إلى نفسه القادمة من بعيد أو من قريب.
هناك شيء حدث للكتابة جعلها ترتبط باللعنة، وتستحق أن تسمّى كتابة ملعونة. الكتابة الملعونة هي كتابة ضلّت طريقها وانحرفت عن أصولها التي لأجلها جيء بالكتابة. كانت الكتابة سرّا وطلسما ولم تكن تعرض على جميع الناس، كانت رموزا لا تقدر على قراءتها إلاّ الجماعة المعلومة التي تواضعت عليها. إنّ أقرب شكل لهذه الكتابة هو شيفرة مورس Morse code .
اللعنة تصيب أي شيء قابل لأن يحمله اللاعنون، خزيا وعارا واللعنة شيء من الغيب حتى وإن نسبناه إلى الكيانات التاريخية. أكثر الكيانات الملعونة في الثقافة العربية الإسلامية هو الشيطان، وهو لعين الله ولعين الناس؛ ولذلك كان لمعنى اللعن شيء من الشيطنة والدنس، اللذين انتقلا إلى أيّ شيء ملعون بالوراثة. تبدأ اللعنة مع الكتابة حين تحمّل طلاسم من السحر يراد بها أذية الآخرين. ما زال الناس يستعملون في السحر كتبا صغيرة، يرمى بها في الأماكن التي يريد من يرمي بها أن يصاب الناس بالشرّ. اللعنة ليست في الكتابة وإنّما في طلاسم الكتابة وما يمكن أن يقرأ من قبل الكيانات التي يعتقد أنّ سحر القراءة يصيبها بمجرد أن يقرأ، أو قل بمجرد أن تلمح عيناه خطوطا مبهمة. الكتابة اللعينة هي كتابة فيها يكون الرمز مضاعفا: إنّها كتابة تعتمد الرمز الذي تعتمده الكتابة العادية مع رمز آخر هو رمز اللعنة.
أذكر أنّي وجدت وأنا تلميذ كتابا ملفوفا في خرق ذات طبقات في فتحة حائط باب من جدران متداعية للسقوط في حارتنا؛ لم أكن أعرف الكتب التي من هذا النوع، فتحته فوجدت فيه بعض الخطوط العربية التي تشبه كتابة سيدي المؤدب، وكانت فيه رسوم لأشكال من الأبواب أو البيوت العجيبة ذات الأقواس أو الأهرامات، نسيت، وفي الكتاب كتابة يدار فيها الخط على هيئات مختلفة، أذكر أنّ منها ما كان حلزونيا. أخبرت جدتي بأمر «الكتاب» وهي من أخبرني باسمه هذا؛ وكانت لا تعرف القراءة والكتابة وأخبرتني، رحمة الله عليها، أن هذا (حرز) أي تميمة. وأمرتني بإرجاعه حيث كان… وحين عاد جدّي مساء قال إنّه ليس تميمة، بل هو على الأرجح كتاب سحر ولعنة، وجعل يقرأ عليّ أورادا كثيرة، ويتمتم حتّى أصبت بشيء من الريبة من أنّ حروف ذلك الكتاب السحرية قد سكنتني شياطينها. الكتابة الملعونة بدأت بالحديث عن الملاعين، أو بالإيقاع بهم. لا شكّ في أنّ مخترعي الكتابة كانوا يستخدمونها لأغراض سلمية في الأصل، ولكنها انقلبت لأغراض أخرى تماما، مثل الأسلحة كانت أولى أحوالها سلمية حتى صارت تقتل. هذه الكتابة تستعمل بنية إيقاع الأذية بالبشر، لقد استطاعوا أن يخلقوا رموزا خفية بحروف الكتابة المتواضع عليها. خلف كل كتابة ملعونة روح شيطانية هذا لا شكّ فيه، ولكنّ الذي يهمّ أكثر من ذلك أنّ لدى مستخدمي الكتابة في أغراض اللعنة اتصالا بهذه الكتابة مع العوالم الشيطانية. الأرواح التي تسكن مجاهل الوجود والتي يصنع معها السحرة رباطات ويوهمون الناس، أو يوهمون أنفسهم بأنهم يتواصلون معهم تستعمل لها لغة وتستعمل لها خطوط معلومة. لقد بدأت الكتابة الأولى رسوما تريد أن تقول أفكارا، ولكنّها انتقلت مع أصحاب الكتابة الملعونة إلى ضرب من الألغاز والطلاسم التي لا تقول أفكارا، بل تخفيها، وهي ليست أفكارا إنما هي أوراد أو أدعية، أو سحر، أو أيّ كلام يراد به أن يجلب خيرا لأشخاص أو شرا لغيرهم.
الأرواح المخاطبة بتلكم الحروف هي أرواح ينبغي أن تتقن كلّ الكتابات، ولذلك يمكن أن تعود للأشكال رمزيتها الماورائية، وتعود للخطوط طلاسمها الأولى التي لا يعرفها أحد، ثم اقرأ أنت ما تريد أن تقرأ غير أنّك لن تفهم. وأنا أقرأ تفسير المفسّرين لقوله تعالى في سورة العلق (اقرأ باسم ربك الذي خلق) أشعر وكأن هناك وعيا جنينيا وأحيانا ضبابيّا بأنّ الدعوة إلى القراءة هي دعوة إلى فكّ طلاسم ما، لخطّ سريّ ما مكتوب في إطار مقدس ما؛ وأنّ على الرسول المختار وهو حديث عهد بالرسالة أن يفكّ شيفرته بشكل ما. الخبر المتواتر في الحوار بين جبريل والرسول في قوله (ما أنا بقارئ) التي فسرت على أنّ الرسول كان أمّيّا لا يعرف القراءة والكتابة قبل أن يدحض ذلك في كثير من الأخبار والسير. (ما أنا بقارئ) يمكن أن تفهم في هذا السياق في معنى ما أنا بقادر على فك طلاسم حروف لا أعرفها. هناك وحي ملائكي يوحى، ويرسل بخط يمكن للرسل أن يطلعوا عليه. هذا الضرب من الخط هو خطّ مبشّر بالرسالة، وهو نقيض مطلق للخط الملعون الذي في القراءة الملعونة.
القراءة الملعونة ليست شيئا مرتبطا بالمدنّس، الذي له مقابل مقدّس؛ بل هي قراءة يمكن أن تكون تاريخية حين ترتبط مثلا بالأعراض والأغراض. أشهر القراءات الملعونة ارتبطت في التاريخ الأدبي العربي القديم بالشعر، حين قيل عن الشعراء إنّهم يتواصلون مع الجنّ، جنّ لطيف يوحي إليهم بنسمات الأدب، كي يقرضهم الشعر أو القدرة على قوله. في هذه الحالة كان لا بدّ من لغة وسطى بينهما، حتى ينقلوا بها إلى اللغة التي يفهمها الإنس ما قيل لهم بلغة الجن. نشأ الشعر بأغراض فيها من الكتابة اللعينة الشيء القليل أو الكثير، ارتبط بمعنى شيطاني هو العُري: عري المرأة في الغزل، وتعرية الرجل في الهجاء، أمّا عري النفس في المديح فتبدو شيئا مخفيا لأنّها تُغطّى بالمعاني الكثيرة حتى لا يظهر القبح ويكون ذلك في المدح وفي الفخر.
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية