«السّوري»… الوعي البريء بالقومية

تقفز الذاكرة في لحظة معيّنة لتوقظ في الإنسان الوعي بوجوده في الحياة ضمن حالات معيّنة تكرّس انتماءه وتمنحه المعنى الذي ربما ظلّ لفترة يبحث عنه في أضمومات وجودية لا علاقة لها بما يؤهل كينونته لكي تكون هي، فقط هي في ثنايا عالم تتصادم فيه الهويات وتتناقض فيه المفاهيم، ومن ذلك، شكلُ المعلّم «السّوري» الذي رأيته في مدرستنا الابتدائية وطاف بخيالي لحظة قطيعة في نسيج جسد الأمّة/القوم الواحد.
في الذاكرة وما حولها سوري من زمن المدرسة:
في نهاية الستينيات والحركة القومية العربية في أشدّ عنفوانها، كانت خطواتي الأولى في المدرسة، وما زلت أذكر ذلك الوجه المحمر الذي يكاد الدم ينضح من خلاياه الرّقيقة لشدّة بياضه، بقامته القصيرة المتناسقة في بدلة رمادية غامقة، هو معلم سوري، لم أذكر اسمه ولكن كنّي بموطنه العربي، لم نكن نفقه كأطفال ما معنى «سوريا» ولكن كنّا ندرك بأذهاننا الصافية من كدر الحدود أنّ «السّوري» قريب منّا، يتكلم لغتنا ويعرفنا، ولولا معرفته بنا لما وجد بيننا، تماما كما الزائر بيتنا. كان هناك معلم آخر، تونسي، اسمه «مبروك»، أما مدير المدرسة فكان فرنسيا، فحداثة العهد بالاستقلال لم توفّر بعد للمدرسة آنذاك جزائريتها الخالصة، إذ كأي حالة خروج من الاستعمار، ظلّ المجتمع حينها محتاجا إلى أطر الإدارة والتّسيير والإعداد، ومن هنا كانت البعثات العربية في مجال التّعليم كدعامة لتمتين عرى «القومية».
كان الإحساس الطفولي بـ»القومية» شبيها بالإحساس بالأبوة، أو تلك المشاعر الإنسانية والأخوية النّابعة من التّاريخ واللغة المشتركة والدّين والمصير، أو ما أدركته برهافة وضعي الوجودي كطفل، «المعرفة»، يكفي أنّ الآخر العربي يعرفنا ولهذا هو في الوطن الصغير كتعبير – لم أكن على وعي بفقهه – عن تلاحم أعضاء الوطن الكبير.
في بيت الوطن خارج «القومية» السياسية:
لا أريد أن يُفهم من حديثي عن القومية، أنّني أعني المعنى «القومجي» الذي أودى بنا كعرب في «ستّين داهية» على رأي إخواننا المصريين، ذلك المعنى الذي تبنّته ثلة ممّن احتكروا السلطة واستولوا عليها بالقوّة، ومن ثمة بدت لهم الرّؤية الممتدة في الوطن العربي باعتبار مفهوم القوم الذي تشكله القبيلة، لكن بصراعاتها وجروحها التّاريخية، فراح كل واحد من هؤلاء ينظر إلى الأمّة من شرفة حدوده بوعي «داحس والغبراء». هذه القومية المركّبة انتجت تناقضا رهيبا في واقع الأرض والسياسة العربيتين، فهي من جهة غذّت الصراعات بين المتنافسين حول زعامة «الدولة العربية الموحدة»، ومن جهة أخرى ألهمت خيال ذوي السلطة كيفيات هشّة في بناء كيان عربي موحد.
هذه القومية ليست هي التي أتحدّث عنها، إنّها تلك التي عرضت لي كطائف من حلم في مدرستي الابتدائية، وأدركتها بوعي البراءة الطفولية. كان وهج «السّوري» يلمع في بريق وجهه الأحمر، وفي براءة ما نتعلّمه منه من مفردات اللغة التي تجمعنا إليه، لأنّ المفارقة التي ربّما جعلتنا لا نشعر بعظيم فرق بيننا وبينه، وحدة اللسان، تلك التي تفعل أفاعيلها في نظام اللغة ذات الرّنين الإيقاعي.
كان مدير المدرسة فرنسيا، متوسط القامة مكتنز الجسم تحيط وجهه لحية دقيقة، بعينين ذواتي نظرات حادّة تمتلك بريقا ذا طبيعة غريبة، كان يتحرّك في الباحة لحظة الاستراحة حاملا بيديه قطعة أنبوب مطاطي لتخويف التلاميذ، في تلك المرحلة كان يبدو لنا كشبح رهيب علينا أن نتحاشاه تجنّبا للسعة السوط، لكن الآن أدرك أنّه كان استمرارا للوجود الاستعماري المتعالي استقواءً بالسلطة (إدارة المدرسة) والجبروت (السوط)، ترسيما لحدود النّتشوية في «إرادة القوة» و»الإنسان الأعلى»، وكنّا كما القطيع يسيّره وفق رغبته، فهو مهما فعل لا يستطيع أن ينسى لحظة الهيمنة التي كان فيها سيدا على البلاد والعباد، ومن هنا كان «السّوري» خلافا لكل هذا يمثل امتدادا للحظة العربية البريئة من السلطة والجبروت، والمتودّدة بوحدة اللسان، حيث يكشف عن عنصر مهم من عناصر الوحدة العربية القائمة أساسا على اللغة، كان فضاؤه «غرفة الدّرس»، وهو فضاء منظّم دال على التلاقي والتوجيه والتعليم، خلاف الساحة الدالة على الفوضى والانفصال.
«السّوري» العائد والقومية البائدة:
لم يبق شيء من أطياف الذّاكرة سوى صورة ذلك «السّوري» المُسمّى دون اسم، فلماذا استولت علينا كأطفال الكنية إلى الأرض دون التأكيد على الاسم؟
كان سهلا علينا أن نسأل عن اسمه، أو ربّما يكون قد أخبرنا به إلا أنّنا أهملنا تعريفه به، أكيد أنّنا بوعي الطفولة لم نكن نعي معنى الكنية إلى «سوريا» كوطن، لكن أفاعيل اللاوعي والبراءة القومية المتحرّرة من «داحس والغبراء»، كانت تشبع فينا ما وسعها من العطش إلى الوطن الكبير الممتد الذي نكتشفه في أناشيدنا البسيطة، كان اللسان السّوري يوصل إلينا تيارا من الوجدان القريب في مستويات النطق وفق اللهجة السورية، التي اكتشفنا معها أنّنا على بساط القومية الطائر، نستنشق عبيرا مختلفا، لكنّه واحد في اتجاه الذّات التي لا تُخْلف مواعيدها الجغرافية ولا التاريخية.
في ظلال القومية الوليدة في المدرسة كان طيف «السّوري» طقسا متجدّدا مع كل صباح، حضر فيه إلى القسم أو غاب، وهكذا تحوّل الغياب إلى حضور في حضرة البراءة القومية من وهاد الفرض السلطوي لها، الحضور كالغياب، يجعل من «السّوري» حالة مستمرة في الوعي ليس باعتباره شخصا، ولكن بتمثلاته الجغرافية التي تجعل منّا كأطفال أطيافا ترقص على بسط الرّيح الطائرة بين قزعات الغيم في سماوات قريبة من الحلم. لقد كان هذا المفهوم للقومية ببراءتها الطفولية أشدّ عمقا من كل معاني القومية التي تنادت بها الحناجر من على منصّات الخطابة السياسية، لأنّ القومية الأولى تشكلت طواعية وبعفوية الإدراك لمعنى امتداد الذات في آخرها الذي يماثلها، أمّا الثانية فتشكلت وفق هوى سياسي مبني على مصلحة السلطة والتسلط، ولهذا نفر وعينا الطفولي من المدير لأنّه يحمل «ذاكرة السوط» واقترب من «السّوري» لأنّه يحمل «ذاكرة اللغة»، باعتبارها مجمع البراءات المثالية التي تمتلك تمرير التّاريخ والجغرافية في سلاسة الإدراك الطفولي البسيط.
«السّوري» الوجودي في الرّاهن العربي:
هل يمكن أن أتصوّر لقاء ذلك «السّوري» بهندامه وقامته ووجهه الأحمر الآن؟
يستحيل ذلك، لكن أتمنى لو يتحقّق اللقاء، لأنّ تلك لحظة تستعيد فيها الذاكرة أوج اللقاء البريء الأوّل والتّعريف بعنوانٍ للقومية مختلف عن قومية «الستين داهية»، التي ألحقت بنا هزائم سياسية وعسكرية أرّخت لتاريخ الخروج من التاريخ نفسه، لقاء ذلك «السوري» معناه لقاء ذاتي التي كانت مجرّد حلم يمثله طفل وهي الآن تحاول تفكيك ذلك الحلم. صعب أن أجد إجابات لرؤيا الطفولة وأمانيها العذبة والصّعبة، لكن استرجاع «السّوري» قد يفحم منطق التلاشي الوجودي الذي نعيشه بمجرّد منطق اللغة التي جعلتنا ندرك بطفولتنا البريئة، أنّه منّا ولولا ذاك لما كان بيننا، نفهم منه وعنه ويفهم منّا وعنّا.
امتدّ العمر التربوي بي وانتقلت إلى المرحلة الإعدادية والثانوية، والتقيت أساتذتي السّوريين بأسمائهم، الأستاذ جمعة كوردو والأستاذ عبد الغفار والأستاذ الحلبي والأستاذ نزار، وازداد الوعي بـ»القومية البريئة» التي يعلنها اللسان المتعدّد في لهجاته والموحّد في فصحاه، واكتشفت سوريا التّاريخ والإبداع الأموي، موطن الفينيقيين والآراميين. كان العراقي والمصري والسّوري جميعهم يشكّلون جوقة الحلم العربي المتكتّل في بوتقة الجغرافية الواحدة والموحّدة تحت ظلال الرّوح الجماعية العربية، التي كانت المدرسة أساسا للقائها، فالقومية البريئة خلاف القومية السياسية، هذه هدفها السلطة وأساسها زيف الخطاب، أمّا تلك فهدفها اللقاء وأساسها الشعور بوحدة اللسان، وما يصدر عن اللسان في فضاءات اللقاء يحمل ذاكرة القصيدة الأولى التي كانت إذا قيلت امتدّت في شرايين «القبيلة» لتشكل ذيوعها الجمالي على مستوى الفضاء العربي القومي.

 كاتب جزائري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية