استعادة البياتي بعد غياب

حجم الخط
0

غادرنا الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي قبل ربع قرن، ولكنه لا يزال بيننا نحن الشعراء والأدباء ومعشر النقاد، فهو الرقم الأبرز في جيل الرواد الأوائل، وهو خير ممثل للشعر الحديث وتجلياته الفنية، تلك التي تمثّلت في تجاربه التجديدية على صعيد القصيدة بسياقها اللغوي الجديد والواضح، ذي المسحة الراديكالية، المتسمة بالبساطة والتكثيف التعبيري والتنوير الخفي، المتشح بالضوء اليساري.
لم تخلُ مراحل البياتي، وهو يخوض غمار تجربته الحديثة مع الشعر من المنافسة، والملابسات والمعضلات اليومية، مع خصومه من الشعراء والنقاد، وحتى الكتاب من قصاصين وروائيين وصحافيين، فرغم أن مسيرته كللت بالاحتفاء الدائم، وصاحبها كمٌّ من الأقلام، وهي تكيل المديح وتُطري مساره الشعري الرائد، إلا أن النقد المحايد والصامت كان يراقب البياتي ذاته، كيف كان يغذّي هذه المسيرة النقدية، ويُدير شأنها من أجل فنّه، بقوّة شخصيته المنشقّة إلى قسمين، قسم ودود ومسالم، وقسم غاضب ومحارب، ومن هنا وعلى مدار مسيرته المتوّجة بأكثر من خمسين عاماً من الشعر، كان البياتي يعرف كيف يحارب، وكيف يداهن ليجعل الريح رخية وهادئة.
عرفت البياتي حين كنت شاباً مفتوناً بشعره القريب من القلب، لفتى يساري حينذاك، يهمّه الشعر الذي يخاطب الفقراء والمظلومين، ويخاطب الثائرين والثوار في العالم، فضلاً عن حداثته الشعرية، فهو لم يكن من طينة الشعراء المتحذلقين، ولا الغامضين عن عمد وجهل كذلك، فهو شاعر مطبوع، سليل تجربة حياتية صقلتها المنافي باكراً، وهو بغدادي صرف، ومن بيئة بغدادية صرفة، وهذا ما ميّزه في مطلع شبابه الشعري عن السيّاب الريفي ومنافسه الأبرز.
لم ينتمِ البياتي إلى حزب يساري كالسيّاب، فهو كان أذكى من ذلك، ولكنه عرف كيف ينفذ إلى اليسار من دون بطاقة حزبية، فقط قدّم معرفته الحمراء للشيوعيين، لا ليكون البديل الشعري للسيّاب، بل ليكون الوافد الجديد القائل بالواقعية الشعرية، والميّال إلى التطريز اليومي للاشتراكية، المُرحَّب بها حينذاك وبصانعيها وقادتها وثائريها، بعد أن تمادى السياب كثيراً في سفح خبايا وأسرار تجربته الشيوعية أمام الملأ، وبالخط العريض، مدفوعاً بحسّه القروي وثوريته الجريحة.
يحلو لي الحديث عن البياتي، الذي تعرّفت عليه شاباً في بداية مشواري الشعري في بغداد، وامتدت الصلة إلى باريس خلال زياراته إليها في نهاية السبعينيات من القرن المنصرم، حيث كنت أقيم . ولكي أتجنب ذكرياتي معه، فإنني أسجل هنا ذكريات بعض أصدقائه ومعجبيه وتلاميذه ونقاده ودارسيه، في كتاب جمعهم وهم يتحدثون بحب مستفيض عن تجربته، إنهم مجموعة من نقاد وشعراء وباحثين، باحوا ما في قلوبهم وأقلامهم تجاه شاعر مجدد، غيّر الكثير في مسيرة الشعر العراقي والعربي.
الكتاب موزّع إلى ثلاثة محاور وحمل عنوان «عبد الوهاب البياتي ـ دراسات ـ شهادات ـ وحوارات»، جمعها وقدّم لها الناقد الأكاديمي سعد التميمي، وقد ساهم فيه كلّ من الكتّاب أناهيد الركابي، بشرى موسى صالح، حاتم الصكر، خالد سالم، سعد التميمي، علي شلاه، عبد الرزاق الربيعي، محمد تركي نصار، محمد عبد الرضا شياع، محمد مظلوم، وهادي الحسيني. يوضح الناقد سعد التميمي في مقدمته الموجزة، الأسباب التي دعت إلى صدور هذا الكتاب، وهي مبادرة تعاون عليها جمْع من الكتّاب بعد إحياء ذكرى البياتي الخامسة والعشرين في مؤسسة ثقافية في أمريكا، ثم تكفّل الشاعر علي شلاه بتبني هذه المبادرة الكتابية النقدية لإصدارها في كتاب خلال أيام «مهرجان بابل للثقافات العالمية» الأخير، وقد صدر الكتاب عن دار «أبجد»، وهي دار ناشطة في مجال نشر الكتب الإبداعية.
يستهل الناقد حاتم الصكر الكتاب بمقال عن ميزة البياتي الشعرية التي خطّها باكراً في دواوينه المتلاحقة، بعد تطور وعيه الأدبي والشعري، من الرؤية الواقعية إلى ميله باتجاه الرؤيا بمفهومها العميق. ثمة الصوفية ورموزها، متخذاً منها سبيلاً لعمله الشعري، في تأمّل الحياة والوجود، وقد تجسّد ذلك حسب الصكر في دواوينه «سفر الفقر والثورة « و»الذي يأتي ولا يأتي» وقد تطور كذلك في دواوين «قصائد حب على بوابات العالم السبع» و» قمر شيراز» و»بستان عائشة».
أما الناقدة بشرى موسى صالح فترى أن البياتي بصناعته للمقدس، اعتمد على البناء الأسطوري، عبر اطلاعه على المنجز الثقافي الغربي النقدي للأساطير، وليس الاطلاع على الأساطير وحدها. بينما الناقد محمد عبد الرضا شياع، يرى أن هناك شخصيات أدبية وتاريخية وفكرية وفلسفية ونضالية عالمية تركت بصمات واضحة على شعره، ذاتاً وموقفاً وإنجازاً فتفاعل البياتي مع جيل الأدباء ذوي الميول اليسارية، الذين كان يرى في آثارهم الإبداعية رؤية مستقبلية. في حين يشير الناقد سعد التميمي إلى فلسفة الرفض في الرؤية الشعرية عند البياتي «كونه ينطلق من رؤيا فلسفية للواقع، إذ يؤكد في سيرته أن السبيل للثورة على الواقع عملية تتجاوز رفض الواقع، إلى محاولة تقويض وبناء عالم جديد». ويرى أنه من خلال فلسفة الرفض هذه رفض البياتي كذلك البناء التقليدي للقصيدة فقدم نموذج القصيدة الحديثة مبشراً بسياق شعري جديد. غير أن الناقدة أناهيد عبد الأمير الركابي أشارت في دراستها إلى عالم التهميش الذي ورد في شعر البياتي، وترى «أن التهميش في هذا المضمار يعني غياب الاعتبار وغياب المعنى وغياب القيمة لجماعة ما»، لكنها تقع في خطل فني بائن وهي تتحدث عن التهميش، ولاسيّما تهميش المرأة في عالمنا العربي، فهي حين تصل إلى شرح إحدى القصائد لا تستطيع فهم معنى القصيدة، وهي قصيدة جد واضحة وبسيطة فنياً، مثل قصائد البياتي بمجملها، مستخدمة هذا المقطع الشعري للتدليل على الصورة المهمّشة للمرأة في المجتمعات الشرقية: « في وجه المدن الخائنةِ ـ المومسِ أرمي قنبلةً وأحزّ بسكيني رأسَ الملكِ الطاغيةِ الجزار».
لتضيف هنا الناقدة أناهيد رأيها النقدي: «فالمومس الشخصية الاجتماعية المهمّشة يصبح دورها أساساً، حين ترمي قنبلة بوجه الخونة، أو تحز رأس الملك الطاغية، ثم تتوالى الصور الكنائية لتحقق تلك الدلالات في وصف الشخصية المهمّشة»! مطلع القصيدة واضح جداً وهو أن الشاعر هو من يقوم برمي قنبلة في وجه المدن الخائنة، تلك التي يشبهها بالمومس، ومفردة المومس هنا هي صفة للمدن الخائنة. أما الخطل الفني الثاني الذي لم تحسن الناقدة قراءته، فكان في قصيدة أخرى جاءت بها كمثال دال لدراستها: «أشعلُ باسم الإنسان المفعم موتاً ثورة إبداع في الإبداع
رجل وامرأة وقطار في ليل الأناضول»
ثم تردف هذا المقطع بمقطع آخر: «مدن وقرى وذئاب تعوي جائعة تحت الثلجِ ودخان الأنفاق الملتوية وسعال الأطفال، ليل ينذر بالزلزال».
بعد إيراد هذين المقطعين تقول: «في هذين النصّين إشارة إلى الأكراد، حيث تتراكم الصور الكنائية لتحقق صوراً شعرية»ّ!
سيدتنا الناقدة تصوّرت أن الأناضول هي جغرافياً بلاد الأكراد، ففي النصّين المقتبسين ليس هنالك ذكر البتة للأكراد، والأناضول كما هو معروف هي البلاد التركية، أو آسيا الوسطى، تلك التي تغطي البلاد التركية.

٭ شاعر عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية