أتابع أحياناً ما ينشره بعض الشباب العرب، وما تنشره بعض الشابات العربيات على شبكات التواصل الاجتماعي. ولشعوري بأن الكثير منه هو عبارة عن نتف من الأفكار، أو ردود الفعل أو الاختلافات المتناثرة وغير المترابطة، التي لا تشير إلى عقيدة أو استراتيجية متكاملة في الأهداف وفي المبنى، سأحاول في مجموعة من المقالات تقديم ما أعتقد أنه ضروري كمنهج يتبنّونه، ويؤدّي إلى مساهمة شابات الأمة وشبابها في دفع هذه الأمة، بل وقيادتها بكفاءة، للخروج من الوضع الذي تعيشه. ولنسير حسبما يفرضه المنطق، القائل بضرورة التخلص من الكثير من مسلّمات المنهج القديم، كتمهيد لتبنّي أي منهج جديد، دعنا نقوم بتحليل ونقد وتجاوز بعض أفكار وممارسات العصر الذي نعيشه.
لأسباب تاريخية فإن الحداثة، وما بعد الحداثة الغربية، كأفكار وسلوكيات وأنظمة وقيم، يهيمنان على العالم، ومن ضمنه الوطن العربي
أولاً، لأسباب تاريخية فإن الحداثة، وما بعد الحداثة الغربية، كأفكار وسلوكيات وأنظمة وقيم، يهيمنان على العالم، ومن ضمنه الوطن العربي. ومع أن في الاثنتين الكثير من الجوانب الإيجابية، إلاّ أن مسيرتهما أظهرت أيضاً الكثير من الانحرافات والجوانب السلبية. من هنا الأهمية لنقد وتجاوز مبكرٍ لتلك السلبيات من أجل الانتقال إلى العمل على بناء وممارسة حداثة وما بعد حداثة العرب الذاتية المستقلة، ولكن المتفاعلة مع الآخر ومع حضارة العصر. وهو ما سنطرحه في مقالات مستقبلية.
ثانياً، وكتتمّة لما جاء في أولاً من نظرة عامة، هناك جوانب محدّدة وذات أولوية قصوى في ثقافة العصر تستحق أن يركّز عليها. بعضها له تأثير سلبي هائل والبعض الآخر يمثّل بعض الإجابات على تلك التأثيرات السلبية. وكمثالين على التأثيرات السلبية، مثال الأيديولوجية النيوليبرالية الرأسمالية العولمية المتوحّشة، وما فعلته بالاقتصاد العالمي من أزمات، أو مثال ممارسة الديمقراطية، التي بسبب التعامل معها كلعبة سياسية في يد قلة، انتهت إلى أن تكون ألعوبة فاسدة في يد أصحاب المال وأساطين الإعلام المتعاونين معهم، بل تراجعت مؤخراً حتى في معاقلها المشرّفة تاريخياً مثل، السّويد وبقية بلدان الشمال الأوروبي. لكن هناك في الجانب المعاكس المراجعة الجديدة الجادة الإيجابية للماركسية، كفكر فيه الكثير من إمكانيات تصحيح نقاط الضعف، في حقلي الاقتصاد والديمقراطية السياسية. وهذا فكر بدأ مؤخراً الكثير من الأقلام الغربية مراجعته، وإبعاده عن المماحكات والتطبيقات الخاطئة أثناء فترة الصراع ما بين المعسكر الغربي من جهة، ومعسكر الاتحاد السوفييتي سابقاً من جهة أخرى.
ثالثاً، وبالطبع هناك فصل جديد في كتاب حداثة وما بعد حداثة الغرب، كتبته التطورات الهائلة، الإيجابية والسلبية منها، في شتى حقول البحوث العلمية والبيولوجية والتكنولوجية. وهو فصل يُستُغلّ إلى أبعد الحدود، من قبل بعض الأوساط لإدخال انحرافات وأنظمة وقوانين لتشويه القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية، التي أسستها وآمنت بها البشرية عبر القرون الطويلة الماضية.
رابعاً، وفي السنين الأخيرة تبين أن ما سمح به العالم سابقاً من وجود دولة أو كتلة تدور في فلك تلك الدولة، تدّعي حقها في أن تكون لها كلمة الفصل في كل شؤون العالم، وبالتالي لها الهيمنة وسلطة السماح أو الرفض في أمور مثل، رفع شعار نهاية التاريخ، أو رفض مبدأ وجود أيديولوجيات.. إن ما سمح به العالم قاد إلى فوضى دولية، وانتهاكات صارخة لحقوق هذا الشعب، أو ذاك، واستعمالات انتهازية لأصوليات دينية، في سبيل مصالح هذه الدولة المهيمنة، وقد قاد كل ذلك إلى التهميش الممنهج للمجتمع المدني الشعبي العالمي، في أمور مثل الحرب والسلام والعدالة وحماية البيئة. وهذا ما يطرح أسئلة بالغة الأهمية وينتظر أجوبة من الجميع. وهو أيضاً يطرح أسئلة بشأن الحاجة لإصلاحات جذرية في طرق أعمال مؤسسات هيئة الأمم المتحدة.
تلك المراجعة الموضوعية الذاتية المستقلة تكوّن مدخلاً ضرورياً ومنطقياً للانتقال إلى نهضتنا وحداثتنا الذاتية، وإلا فان شبابنا وشاباتنا سيظلون يدورون في حلقات التخبط الحضارية، التي أدخل الغرب العالم كله فيها طيلة عدة قرون ماضية، وبالتالي يدخلون حركاتهم النضالية في صعود ونزول كما رأينا عبر العشر سنوات الماضية.
كاتب بحريني