جمعتني الصدفة بمحسن، فقد كنت أسكن في بيت الطلبة في لافبرا، وهو بناء من طابقين، قريب من الكلية وداخل الحرم الجامعي. وميزته التكاليف المتهاودة.
لم أكن بحاجة لمواصلات كل يوم. التدفئة على نفقتهم. بالإضافة لوجود هاتف وتلفزيون في الصالة. مع اشتراك يومي بجريدة «الغارديان». وهذه نعمة لا يقدرها إلا المحروم منها.
وكان محسن يسكن في سوتون بوننغتون، وهي قرية على أطراف لافبرا. لا يوجد فيها أي شيء. مجرد بيوت أشبه بصخور سقطت من السماء. ولكن في وسطها دير للراهبات. ولا أعلم هل كان يلبي بهذا الاختيار نداء روحه الضائعة.
كان في حياة محسن فراغ أو الأصح ثقب أسود، وربما تخلف عن جرح لا يريد أن يقر به. وكنا كلنا نعلم أنه حائر دائما، مضطرب ومزاجي. أحيانا أكون معه في المطعم، وفجأة يقول: عن إذنك خمس دقائق. ثم يذهب ولا يعود. وأحيانا نكون في سيارة عامة، وفي منتصف الطريق ينظر إليك بوجه جامد ويقول: عفوا. تذكرت. عندي موعد. ويغادر دون أي توضيح. وفي بعض الأوقات يزورني ولا يرد أحد، فيجلس أمام الباب. وإذا عدت في وقت متأخر، أرى رأسه على الجدار، وهو يغط بالنوم رغم البرد، آخر مرة غطت رأسه قشرة من الجليد.
قلت له: هل هذا معقول؟ ماذا لو أنني مسافر؟
قال وهو ينفخ على يديه: الحقيقة جلست لأرتاح من الطريق، وغلبني النوم.
وأردف وهو يتبعني: أسرع وحضر أي شيء ساخن قبل أن نموت من البرد.
أدهشني استعمال نون الجماعة. لم أكن أعاني من التجمد مثله. كنت في المكتبة أبحث عن جواب لمشكلة في سلم التطور. وورد في ذهني أنه فجوة في هذا السلم، لا يمكن أن يكون من النمط الطبيعي للبشر، ولا بد أنه طفرة، مثل عجوز ماركيز، الذي له أجنحة ضخمة على ظهره.
في النهاية ضجرت منه، لم أكن مرتاحا لهذه المقالب، وأن تكون تحت رحمة مزاجه كأنك معلق وسط الفراغ بخيط رفيع، ولذلك قررت أن أختصر علاقتي به. أول الأمر امتنعت عن الرد على مكالماته. وعندما يأتي ويدق الباب أطلب من جاري الماليزي أن يجد أي عذر. مثلا أنني في الحمام أو غير موجود، وأشياء من هذا القبيل. وكان يقول له: حسنا. سأنتظره في الردهة أو المطبخ. ثم فاض بي الكيل وقلت للماليزي: أتوسل إليك. أرجوك. تدبر أمره.
رد مع ابتسامة خبيثة: حاضر. وبعد ذلك توقف عن زياراته المزعجة، ولا أعرف ماذا قال له بالضبط. كنت مؤمنا بالحكمة المعروفة: العبرة بالنتائج.
كان الماليزي شابا طيبا، بمعنى أن قلبه أبيض، وإن كان يرتدي قبعة باكستانية سوداء، إلا في أيام الجمعة يذهب إلى الصلاة بقبعة بيضاء مطرزة. وكان جدي يرتدي مثلها تحت المنديل والعقال. سألت الماليزي عن السبب. نظر لي بتعجب وقال: سنة النبي يا أخي. المفروض أنك تعرف، ولكن حسب علمي أن النبي كان مثالا للتقشف والصبر، وفي أيامه لم يكن يوجد غير العمائم. بحثت في الإنترنت لأتأكد من تفكيري. ورأيت أكثر من دليل أن القبعة بدعة مثل حكاية تعطير نقود الزكاة وبيت العنكبوت على الغار يوم الهجرة وغير ذلك. خيال غايته شد انتباه المستمع.
ارتحت من محسن لعدة شهور، حتى اجتمعنا في سفارتنا في لندن. كنت أنا في اللجنة الثقافية، ومحسن في اللجنة المالية، وهذا جانب آخر محير من شخصيته، فهو يدرس علوم الأحياء، والمفروض أن يختار لجنة البيئة. وكانت لديه في بيته مكتبة اقتصادية عجيبة. لا تجد فيها كتابا واحدا لكينز أو ميلتون فريدمان أو آدم سميث. ولكن مؤلفات أقرب للدجل والشعوذة، منها على سبيل الذكر لا الحصر: كيف تربح مليونا في شهر. دليلك لتنمية حسابك المصرفي. كيف تكون رب عمل ناجح، وهكذا. بعد الاجتماع رافقت رئيس اللجنة إلى مكتبة الفويلز لنطلع على أحدث الإصدارات. وفي الطريق أخبرني أن محسن يغتابني بلسانه. لم أستغرب منه هذا التصرف، وأيضا لم أحمّله أكثر مما يجب، وقلت له بلا مبالاة: هذا شأنه.
همس في أذني: ولكنه شوه سمعتك تماما.
سألته: مثل ماذا؟
وبدأ ينقل لي جزءا من كلامه، وكله اتهامات باطلة لا تصمد أمام المنطق، منها أنني متكبر ومغرور وأناني.
قلت له: أناني!؟
أضاف: وفارغ مثل الطبل.
وكأنه ألقى حجرا ثقيلا في ماء راكد. لم أكن صاحب مزاج سوقي وشعبي على شاكلته، وسألته باستهتار: وبرأيك هل كلامه صحيح؟
قبل أن يرد كنا قد وصلنا إلى الفويلز، وقلبنا صفحة محسن، ودخلت في متاهة الإصدارات الحديثة، ورأيت بينها تشكيلة واسعة من الأدبين الروسي والصيني. وانتبهت لاهتمام الطرفين بمشاكل ما بعد الحداثة، وخفوت صوت البروليتاريا، وازدياد الاهتمام بالخيال العلمي ونداء الغرائز. أو بتعبير آخر صوت الروح والجسد على حساب السياسة والمجتمع. ثم اقتنيت عدة مؤلفات لفلاديمير سوروكين ومو يان ووي هواي. ووسط هذه المعمعة فقدت أثر زميلي. وقفت أنتظره أمام المكتبة حتى هزمني البرد. فبرد لندن أصعب من شتاء سيبيريا الدائم.
وصلت إلى لافبرا والبرد ينخر في عظامي، وحالما فتحت الباب رأيت جاري الماليزي. كان بثوبه المنزلي الفضفاض، عاري الرأس، وبقايا شعره يلتصق بجمجمته الآسيوية.
وبمجرد آن رآني قال شيئا بصوت خافت.
قلت له: عفوا. لم أسمع.
رفع صوته وأخبرني أن صبية حسناء جاءت لزيارتي، وعندما أفسح لها الطريق وجد صاحبي معها.
لم أعرف الصبية، ولكن حزرت الآخر بالحال.
قلت له: تقصد صبية ومعها محسن؟
هز رأسه بطريقة رواقية وخجولة.
وكانت هذه آخر خدعة أو فعلة شائنة أضيفها لمساوئ صديقي اللدود محسن.
التستر وراء امرأة ليعود إلى حياتي.
نصيحة من شخص مجرب.
احذر ممن لا تعرف لتأمن شر من تعرف.
كاتب سوري