هذه الأيام، يكثر الحديث بشدة عن موضوع السرقات الأدبية، بعد أن تم اكتشاف سرقات عديدة لكتب ومقالات وقصائد، ونشرها على أنها نتاج للشخص الذي قام بسرقته.، بعض هذه السرقات شديدة الوطأة، حيث تم نقل المادة كما هي في الأصل، أي نشر النص الأصلي من دون أي إضافة أو حذف، وبعضها فيه بعض الذوق، حيث يضيف الشخص الذي استلف المادة وأضاف اسمه إليها، بعض الأشياء، أو يحذف أشياء أو يستبدلها بجمل مختلفة، وبذلك يضيف لسرقة النص، بصمة لكن مهتزة، لا تصمد أمام من اعتادوا على متابعة النصوص، وتحليلها، ونسبها إلى مبدعيها الأصليين.
ولأن السوشيال ميديا، باتت مرآة عاكسة لأي نشاط، سواء أن كان مستقيما أو مختلا، فإن ظهور هذه السرقات، يحدث ضجيجا عاليا، يشارك في إشعاله مهتمون، وغير مهتمين على حد سواء.
السرقات الأدبية بكل تأكيد، ليست بدعة في هذا الزمن الذي كثرت فيه البدع، ولكنها كما أرى تقليدا راسخا، يلازم الكتابة الإبداعية منذ وجدت، وحتى في أيام الشعراء والكتاب التاريخيين، حيث يوجد دائما موهوبون، يستطيعون الكتابة في أي شيء، وغير موهوبين يتمنون لو كتبوا شيئا، أو يتحرقون شوقا للكتابة ولا يقدرون، ولذلك يحومون حول الإبداع والمبدعين، يسرقون ما يستطيعون سرقته، ويتباهون بما اقترفوا، إلى أن تأتي لحظة انكشافهم ويختفون تماما بعد ذلك.
أذكر أيام كنت أكتب الشعر العامي أو الغنائي، وأنا طالب في المدرسة الثانوية، أن تعرفت إلى شاعر جميل جدا، كانت قصيدته مليئة بالصور التي تمثل الزهور والغيم الماطر، والعطور، والعيون السود، وأفراح الحبيبة وأحزانها، وكثيرا من المفردات الاجتماعية التي كنا نراها ونسمعها، ونتجول فيها ولم يخطر ببالنا أن نكتبها. كنا نجلس ساعات طويلة إلى ذلك الشاعر، نستمع إلى قصائده، التي يبدو أنها لا تنتهي، ونتساءل دائما، لماذا هو محلي في مدينة إقليمية، ولم ينطلق إلى العاصمة، حيث يتغنى بإبداعه مغنون أكثر شهرة ولمعانا؟ كنا نسأله في ذلك، فيجيب بأنه شاعر يحب مدينته، وأبناء مدينته، وفناني مدينته، ولن ينزح بشعره بعيدا.
أيضا تلك القصائد الجميلة، أغرت بعضنا، نحن الشعراء المبتدئين الذين يكتبون تجارب ساذجة وبسيطة، بالبحث عن تلك الملهمة التي تمنح الشاعر كل ذلك البهاء الكتابي، وجرهم البحث إلى اكتشاف حقيقة كانت صادمة، فالشاعر العظيم لم يكن شاعرا على الإطلاق، كان يملك جرأة، وكراسة مليئة بالقصائد، التي جمعها من نتاج غيره من الشعراء، وقدمها باسمه، وحين قدم أحد فناني المدينة مرة قصائده في حفل في العاصمة، اكتشف أنه يغني أشعارا مغناة بالفعل، لفنانين مغمورين، كتبها شعراء آخرون، موجودون ويكتبون بكل جمال. الذي حدث أن الشاعر اختفى بعد ذلك، لم يعد موجودا في محيط الفن، يقرأ قصائده بصوته القوي المتمايل، ولا في الندوات الشعرية التي كنا نقيمها من حين لآخر، وسمعنا أنه ترك المدينة، وذهب لمكان آخر لا أدري ليبدأ من جديد أكذوبة الشعر، أم انزواء من فضيحة سرقاته؟ وبعد سنوات من ذلك، صادفته في المستشفى، كنت أعمل في قسم الطوارئ، وجاء على مقعد متحرك، كان قد شاخ، تساقط شعره، وابيضت لحيته، وأخبرني أنه أصبح جدا لأطفال يشبهون القصائد، ويشكلون عالمه الآن.. سألته تلك القصائد التي كنت تكتبها؟
قال بضعف شديد: كنت أستعيرها لأنشر الجمال فقط. لا تلمني على ذلك.
في تلك الفترة أيضا، كان يوجد شاب، لديه إعاقة بسيطة في الحركة والكلام، كان يأتي إلى مواقع الكتابة والفن باستمرار، يحوم حول الشعر والشعراء، ويطرب بشدة حين يسمع شعرا جميلا مليئا بالصور الغريبة، لم يكن أحد يعرفه جيدا، وقيل هو شاعر خجول ليس إلا. هذا الشاب طلب مني مرة أن أكتب له إحدى قصائدي التي ألقيتها في ندوة شعرية، في دفتر كان يحمله باستمرار، كتذكار مني، وكتبتها له بالفعل لأفاجأ بعد عدة أشهر أن قصيدتي تلك، تغنى في الحفلات والمهرجانات وتقدم باسم ذلك الشاب، لكني لم أقل شيئا، اعتبرته نجاحا للقصيدة، وانتهى الأمر، كنت ألتقي الشاب من حين لآخر، لقاء عاديا بلا أي حرج منه، ولا غيظ مني.
كذلك يتحدثون كثيرا حتى في الغرب، عن سرقة نصوص روائية، سرقتها إما كأفكار أو مقاطع من الروايات، وأحيانا روايات كاملة، ويمكن كذلك سرقة مقال أدبي ممتاز، أو دراسة جامعية، أو تحويل فيلم سينمائي يشاهده شخص ما، إلى رواية لا يبدعها قطعا، وإنما مجرد تحويل للفيلم إلى تلك الرواية، وإذا كان الكاتب عربيا ويقرأ بلغة أخرى، قد يأتي بالدرر الغربية مترجمة إلى العربية، ومنسوبة إلى اسمه.
أنا أتساءل دائما في هذا الموضوع عن فائدة السرقة الأدبية، وكما يقولون: إن سرقت أسرق جمل، فأين الجمل في الكتابة الإبداعية أو الأدب عموما خاصة في هذا العصر؟
تحدثت كثيرا وتحدث غيري عن عدم الفائدة من الكتابة، إنها في الغالب محنة، يلتزم بها من ابتلي، ولكن لماذا من لم يبتل، يبحث عن ابتلاء زائف، يضع فيه اسمه؟
لا أعتقد من أجل الشهرة، فالشهرة نفسها لم تعد متوفرة كثيرا، مع ازدحام الأجواء بالكتاب والشعراء، والنقاد والمحاضرين، ولا من أجل المال، لأن لا مال سيأتي، ولا من أجل الجوائز أيضا، لأن الجوائز محدودة جدا، وحتى لو استجابت، لن تذهب لنص مسروق بكل تأكيد، هناك دائما من يقرأ النصوص جيدا، ويقارنها بنصوص أخرى مشابهة.
كاتب سوداني