كثيرًا ما تسعى دوائر الإعلام الغربية إلى تصوير الصهيونية على أنها هي اليهودية، فيكون الحديث عن شعب يهودي، ودولة يهودية، وقومية يهودية، أمرًا مبررًا وطبيعيًا. وهذا خلاف الواقع التاريخي والديني والجنساني والأنثربولوجي والميثولوجي واللغوي لمعنى (اليهودية). ذلك أنّ اليهودية ديانة سماوية نزلت تعاليمها في صحف إبراهيم وموسى، وفيها وردت بشارة اليسوع عليه السلام وختام النبوة برسولنا الكريم محمد صلى الله وعليه وسلم. أما الصهيونية فحركة عنصرية وسياسة استعمارية، تسم اليهود بصفتين متضادتين: 1/تفوقهم على الناس 2/اضطهاد الناس لهم، مستندة إلى كل ما هو باطل ومزيف، بدءًا من نصوص التوراة المحرَّفة لأغراض دنيوية، مرورًا ببروتوكولات حكماء صهيون، وانتهاءً بآخر مشاريع الدوائر الامبريالية الراهنة.
ومن يعد إلى التاريخ العربي الإسلامي، فسيجد أن موقف العرب والمسلمين من الديانة اليهودية كان إيجابيًا، وأن التعايش المشترك والاحترام المتبادل كان هو السائد فيما بينهم سواء في مشرق البلاد العربية أو مغربها. وما جرى للمسلمين إثر سقوط غرناطة بيد الإفرنج من قتل وتهجير وعداء عنصري وطائفي، كان قد جرى مثله على اليهود أيضا، تشهد على ذلك أجيال الموريسكيين المتعاقبة.
واستمر العرب المسلمون في العصر الحديث يجاورون اليهود ويقيمون معهم علاقات شتى، سواء في ما قبل قيام الحركة الصهيونية أو بعد أن برزت أصوات مؤسسيها أواخر القرن التاسع عشر أو في مراحلها اللاحقة في القرن العشرين حين ثبتت دعائم مشروعها الاستعماري في فلسطين. وهذا أمر لا ينكره المؤرخون والمفكرون العرب ولا اليهود. ونذكر منهم المصري إسرائيل ولفنسون «أبو ذؤيب» بكتابه «تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام» وصدر عن لجنة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة عام 1927. وهو في الأصل أطروحة نال عنها شهادة الدكتوراه من الجامعة المصرية، وفيها عمل أستاذًا للغات السامية بكلية دار العلوم.
ومن المدهش أن يكون المشرف على الأطروحة عميد الأدب العربي طه حسين، وإليه أهدى ولفنسون كتابه، واصفًا إياه برجل اليوم وصاحب النبوغ النادر المثال في النقد (إلى حضرة الأستاذ الكبير والنقادة الشهير الدكتور طه حسين). ولقد أخذ ولفنسون عن العميد منهجه التاريخي في استقراء الأخبار وتحليل الوثائق، منطلقًا من الشك الديكارتي. ولقد أشاد العميد بالباحث ولفنسون، قائلا: «لقد كان يختلف إلى دروسي في التاريخ القديم، فكان يعجبني منه ميل ظاهر إلى البحث وحرص شديد على الإجادة والإتقان ونشاط غريب إلى القراءة والاطلاع. وكنت أرى فيه عناية خاصة بكل ما يتصل باليهود في عصور السيطرة اليونانية والروحانية على العالم القديم فرأيت أن أوجه بحثه هذه الوجهة وأشجعه على المضي فيها».
ولقد طرح العميد في المقدمة أكثر من رأي، من ذلك رأيه أن وجود مستعمرات اليهود في الحجاز قبل الإسلام، أثرت تأثيرًا قويًا في الحياة العقلية والأدبية للجاهليين. ولكن هذا الرأي يدحضه قول ولفنسون: «لم يظهر شيء من النبوغ والعبقرية في يهود بلاد العرب ولم تشتهر من بينهم شخصية واحدة في كل عصورها بالرقي الفكري، وإن كان اليهود بوجه عام أرقى وأقرب إلى المدنية من بقية العرب».
أما رأي العميد أن الخصومة كانت عنيفة أشد العنف بين الإسلام وبين يهودية هؤلاء اليهود، وأنها قد استحالت من المحاجة والمجادلة إلى حرب بالسيف، انتهت بإجلاء اليهود عن البلاد العربية، فإن ولفنسون نظر من زاوية أخرى فوجد «أن الخسارة التي لحقت يهود بلاد الحجاز ضئيلة بالقياس إلى الفائدة التي اكتسبها العنصر اليهودي من ظهور الإسلام. فقد أنقذ الفاتحون المسلمون آلافًا من اليهود كانوا منتشرين في أقاليم الدولة الرومية. وكانوا يقاسون ألوانا شتى من العذاب.. واتصال اليهود بالمسلمين كان سببًا في نهضة فكرية عظيمة عند اليهود، بقيت آثارها في تاريخ الآداب العربية والعبرية زمنا طويلا». ويرى ولفنسون أن العلاقة بين العرب واليهود تغيرت تغيرا جوهريا بعد أن انتهت الخصومة السياسية بين الرسول وبطون يثرب. وشرع اليهود ينظرون بعيون الإكبار والاحترام لجيوش المسلمين. وفي العراق كان اليهود يخرجون لاستقبال جيوش المسلمين بالحفاوة والإكرام. وازدادت الروابط حين دخل اليهود في جيوش المسلمين، ليقاتلوا معهم في أقاليم الأندلس.
ولعل أهم محصلات ولفنسون أن لا تاريخ معروفًا لهجرة اليهود، وكل الذي يمكن للباحث أن يعتمد عليه مجموعة أخبار يرويها القصاصون بغير تحفظ. وأن اللغة السامية ليست رهينة باليهود، بل عرفتها (أمم سامية قبل بني إسرائيل بآلاف من السنين) وكانت لغة أهل فلسطين الكنعانية ثم صارت لغة كثير من القبائل في طور سيناء وشرق الأردن. وفيما بعد حلت اللغة الآرامية محلها ثم انكمشتا وتضاءلتا أمام اللغة العربية. وهذا يعني أن لا اللغة العبرية ولا القومية السامية ولا بلاد فلسطين كانت مخصوصة ببني إسرائيل أو كانوا مختصين بها دون سواهم.
وعلى الرغم من أن ولفنسون يهودي وكتب بحثه في وقت كانت فيه الصهيونية قد بلغت شأوًا مهمًا في مشروعها الاستيطاني في فلسطين، فإن ذلك لم يمنعه من أن ينظر إلى اليهود نظرة موضوعية، فيرى أن بعض القبائل الآرامية والعبرية اضطرت إلى أن تختلط بالعنصر العربي الأصلي وتندمج فيه شيئا فشيئا، فاكتسب العنصر اليهودي من ظهور الإسلام كثيرًا. وكذلك تأكيده أن اتصال اليهود بالمسلمين في الأقاليم الإسلامية كان سببًا في نهضة فكرية عظيمة عند اليهود بقيت آثارها في تاريخ الآداب العربية، وأن المستشرقين وفقوا في دراسة اللغات السامية بعض التوفيق «لكن أخطأتهم الإصابة في كثير من الأحيان، لأن حظهم من الثقافة العربية السامية لم يكن يعادل حظهم من القدرة على استعمال مناهج البحث».
وتشي إحالات ولفنسون إلى المصادر والمراجع أنه كان يتمتع بروح علمية مجردة من العواطف الدينية والقومية. وما يحسب له توغله العميق في علم الأنساب أو الجينالوجيا، بحثًا عن نشأة بني إسرائيل، ليجد أن أمم بني آدوم وعمون ومواب وقبائل عماليقية ومديانية واسماعيلية سبقت ظهور بني إسرائيل. وأن تاريخهم في بلاد العرب ينقسم إلى طورين؛ الأول بطون بائدة تعود إلى نهاية القرن الخامس قبل الميلاد كانت تعبد الله وتقدس بعض الأصنام إلى أن تأثرت العقلية اليهودية بالشريعة الموسوية، فبدأ الطور الثاني بعد رجوع اليهود من السبي البابلي 538 ق. م وقد تزوجوا من الآشوريين والآراميين وصاروا في فلسطين خليطًا من الشعوب وبقايا يهود. وبعد اضطهاد الرومان لهم، هاجروا، وجاء قسم منهم إلى الحجاز وتكلموا العربية ونظموا الشعر ومن شعرائهم السموأل.
واعتمد ولفنسون التمحيص المنطقي في تحليل نصوص العهد القديم والتشكيك بروايات بعض المستشرقين. فرفض الرواية التي تقول إن بني شمعون حازوا على اثنتي عشرة مدينة في جنوب فلسطين، لكون الرواية تتضارب مع أخرى تقول بهجرة بني شمعون من فلسطين طلبًا للمرعى. ومع أنه تساءل مستنكرًا: «كيف تنزح جميع بطون شمعون من فلسطين تاركة مدنها وثرواتها إلى بلاد ليست أخصب من بلادهم ثم لا يعودون إلى بلادهم مطلقا؟!» فإنه لم ينفِ وجود علاقة متينة بين بلاد فلسطين والجزيرة العربية وأن فلسطين قنطرة تربط بلاد العرب وسوريا من جهة ومصر والعراق من جهة أخرى. ليس ذلك حسب، بل بحث في أسباب هجرة اليهود إلى الحجاز، فوجد أنها الحرب التي قامت بين اليهود والرومان عام 70 ق. م وانتهت بخراب بلاد فلسطين، فتشتت اليهود في أصقاع العالم، وقسم منهم سكن الجزيرة العربية بسبب أنظمتها البدوية الحرة، وأرضها الرملية التي تعيق سير القوات الرومانية، فبنوا مستعمراتهم وحصونهم وأقاموا الأسواق.
إن في كتاب «تاريخ اليهود في بلاد العرب» أدلة قاطعة على دجل الصهاينة في ما يزعمونه من أباطيل عنصرية وطائفية، يوهمون بها العالم أن بين اليهود والعرب عداوة تاريخية، ويمررون من خلال ذلك مشاريعهم الاستيطانية في استلاب فلسطين من أهلها الأصليين، متخذين (اليهودية) ذريعة لادعاء السامية، ودريئة بها يسبغون الاضطهاد على أنفسهم، ويَتهمون بالعنصرية غيرهم. وهذا ما ينبغي العمل على تجليته عبر التفريق بين اليهودي والصهيوني؛ فاليهودي حقيقي وموجود على وفق شريعة اليهود السماوية، والصهيوني انتهازي عنصري مجرد من أي وازع ديني وليس لديه أي إحساس إنساني كما لا شرعية قانونية له.
*كاتبة من العراق