قال صندوق النقد الدولي أن التحول نحو التنويع الاقتصادي الذي يقوده القطاع الخاص في قطر يتطلب استمرار التقدم بثبات على طريق إصلاحات طموحة، تقوم على أساس «استراتيجية التنمية الوطنية الثالثة» (2024- 2030) التي تم إطلاقها في كانون الثاني/يناير من العام الحالي. وأكد أن المبادرات الجريئة التي رافقت إطلاق الاستراتيجية الثالثة، من شأنها تعزيز إنتاجية القطاع غير الهيدروكربوني، وتمكين النمو بقيادة القطاع الخاص، ودعم الاستدامة المناخية. وسيؤدي استمرار المنهج الحذر في إدارة سياسات الاقتصاد الكلي والقطاع المالي إلى تدعيم قدرة قطر على الصمود في ظل ارتفاع مستوى عدم اليقين العالمي، وتفاقم التوترات الجيوسياسي. كذلك سيؤدي تعجيل الإصلاحات الهيكلية، استرشادا باستراتيجية التنمية الوطنية الثالثة إلى إطلاق إمكانات النمو في قطر وتعزيز الاستدامة المناخية.
ويظهر تحليل صندوق النقد الدولي أن برنامج الاستثمار العام ساعد في دفع محركات التنويع الاقتصادي في قطر على مدى العقد الماضي، حيث ساهم في المتوسط بنسبة 5-6 نقاط مئوية سنويا في نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي غير الهيدروكربوني. ومن الآن فصاعدا، يمكن الاستفادة من البنية التحتية التي تم إنشاؤها حديثا لتوليد وظائف، وأعمال، وفرصا جديدة في قطاعات تتجاوز صناعات النفط والغاز، وتحقيق مزيد من النمو الاقتصادي.
آفاق نمو إيجابية
ومن المتوقع أن يتباطأ النمو الاقتصادي في المدى القصير ليصل إلى معدلاته الطبيعية عقب استضافة كأس العالم لكرة القدم عام 2022. لكن آفاق المدى المتوسط تبدو أكثر إيجابية، حيث من المتوقع أن يرتفع معدل النمو إلى نحو 4.5 في المئة، مدفوعا بالتوسع الكبير في إنتاج الغاز الطبيعي المسال، وبداية تحقيق مكتسبات من تنفيذ «استراتيجية التنمية الوطنية الثالثة» في القطاعات غير الهيدروكربونية حيث قام البرنامج الضخم للاستثمار في البنية التحتية العامة منذ عام 2011 ببناء كل شيء من الموانئ والطرق إلى المترو والمطارات. وردا على مزاعم الإسراف في اقامة الملاعب الرياضية قال الصندوق أن تكلفتها تعادل حوالي 5 في المئة فقط من إجمالي استثمارات البنية التحتية.
وقد تركت هذه الاستثمارات أثرا مباشرا على قطاع السياحة، إذ بلغ عدد الزوار الوافدين إلى قطر في عام 2023 ضعف مستويات ما قبل الوباء تقريبا، ووصلت السياحة هذا العام 2024 إلى آفاق جديدة. وبالنظر إلى المستقبل، لا يزال التحدي الرئيسي الذي تواجهه قطر هو الانتقال من النمو الذي يقوده القطاع العام، إلى نموذج أكثر تنوعا يحركه القطاع الخاص، على النحو المتوخى في رؤية قطر الوطنية 2030. ويتطلب تحقيق هذا التحول إصلاحات جريئة لتعزيز الإنتاجية، وتعزيز بيئة أعمال أكثر ملاءمة، والاستفادة من التقدم المحرز في الرقمنة، والإجراءات المناخية، وفقا لأحدث مراجعة اقتصادية سنوية لصندوق النقد الدولي.
وتحدد استراتيجية التنمية الوطنية الثالثة لدولة قطر (2024-2030) التي أطلقت في كانون الثاني/يناير 2024 الأولويات الأساسية بما يتماشى مع مشورة الصندوق النقد الدولي، بما في ذلك حماية حقوق العمال الأجانب، الذين يمثلون حوالي 95 في المئة من القوى العاملة. وكانت قطر أول دولة في مجلس التعاون الخليجي تلغي نظام الكفالة، وهو نظام يحد من حرية حركة قوة العمل بين قطاعات الأعمال المختلفة. كما نفذت الحكومة مبادرات لتحسين كفاءة الأعمال، وجذب الاستثمار الأجنبي المباشر. علاوة على ذلك، عززت قطر جهود الرقمنة بشكل كبير، حيث احتلت المرتبة 16 من بين 198 دولة في مؤشر البنك الدولي لنضج التكنولوجيا. ويشير تحليل صندوق النقد الدولي إلى أن الإصلاحات الرامية إلى اجتذاب المزيد من العمال الأجانب المهرة، وتيسير حصول المشروعات الصغيرة والمتوسطة على التمويل، وتشجيع المنافسة والتجارة، يمكن أن تحقق أكبر مكاسب في النمو. وتشير عمليات المحاكاة ونماذج النمو إلى أن حزمة شاملة من إصلاحات سوق العمل وبيئة الأعمال يمكن أن تعزز النمو السنوي غير الهيدروكربوني بنحو 3 نقاط مئوية على المدى المتوسط. ولتعظيم هذه المكاسب، ينبغي للسلطات أن تضمن تسلسل الإصلاحات التكميلية بشكل صحيح، واتساقها مع قدرة البلد على التنفيذ.
ما بعد العصر الهيدروكربوني
وكانت ران بي نائب رئيس إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي قد قامت بزيارة قطر في الفترة من 30 نيسان/ابريل إلى 9 أيار/مايو 2024 لجمع بيانات عن أحدث التطورات في القطاعين الاقتصادي والمالي، وآفاق الاقتصاد المتوقعة، وإجراءات السلطات وخططها بشأن السياسات. وبعد تحليل البيانات التي تم تجميعها، تم منذ أيام إصدار ورقة تتضمن الاستنتاجات الرئيسية بالنسبة لتقييم الوضع الاقتصادي الحالي في قطر، والتحديات التي يواجهها وهو على طريق الانتقال من اقتصاد يعتمد أساسا على النفط والغاز المسال، وسيطرة الدولة، إلى اقتصاد أكثر تنوعا يتمتع فيه القطاع الخاص بدور رئيسي متزايد.
واعتمادا على ورقة عمل أصدرها فريق من خبراء صندوق النقد الدولي في أواخر اذار/مارس الماضي فإن اقتصادات الدول المصدرة للنفط تواجه خطر تسارع عملية التحول في مجال الطاقة، من الوقود الهيدروكربوني التقليدي الى مصادر الطاقة الجديدة والمتجددة الصديقة للبيئة. ويتطلب النهج اللازم لمواجهة هذه المخاطر، الاستعداد العاجل لعصر ما بعد النفط، من خلال تنويع الصادرات، وتحويل نموذج النمو السائد إلى الطاقة الخضراء. وبناء على ذلك، رسم الخبراء ملامح ومبادئ للسياسة الصناعية المطلوبة لتحقيق هذا الهدف، استنادا إلى تجارب المعجزات الآسيوية. كما اقترحوا رسما تخطيطيا للاستراتيجية اللازمة لتحويل هذه المبادئ إلى ممارسة. ويتمثل العنصر الرئيسي في الاستراتيجية، في اختيار القطاعات التنموية الجديدة استنادا على معيارين. المعيار الأول هو القرب من هيكل الإنتاج الحالي، تجنبا للصدمات غير الضرورية. والمعيار الثاني هو مجموعة القدرات والطاقات المتاحة فعلا داخل الإطار الزمني لتحقيق النتائج. ورسمت ورقة العمل ثلاث استراتيجيات لتحقيق ذلك، أطلقت عليها أسماء هي «الزحف الحلزوني» و«القفز السريع» و«الانطلاق نحو القمر». وطبقا لتوصيات خبراء الصندوق، يتعين على قطاعات التنمية المستهدفة أن تحقق تحفيز النمو وضمان استمرارية السياسات ــ أي «المكاسب السريعة» في الأجل القصيرــ والمساعدة على خلق نموذج جديد للنمو ــ أي «المكاسب التحويلية»، في الأجل الطويل. وعلى أساس هذه الاعتبارات، لا يتم تعريض الاقتصاد لتضحيات غير ضرورية في الأجل القصير، بل تحقيق مكاسب سريعة، مع ضمان التحول لعصر ما بعد الاقتصاد الهيدروكربوني في الأجل الطويل.
دور الصناعات التحويلية والخدمات
وبتطبيق هذه المعايير فإن الاستراتيجية الوطنية الثالثة للتنمية، يجب أن تركز على دعم صادرات القطاعات المتطورة في كل من الصناعات التحويلية والخدمات، مع الاستفادة من المهام والأنشطة المعقدة في الصناعات القائمة، وأهمها صناعة الغاز المسال والصناعات البتروكيميائية المرتبطة بها. ولكن يجب في كل الأحوال، ترك القطاعات غير المتطورة مثل السياحة والخدمات، والأنشطة غير القابلة للتداول للقطاع الخاص.
وتتيح «استراتيجية التنمية الوطنية الثالثة» برنامج عمل يحدد الأولويات والإصلاحات الاستراتيجية اللازمة في السنوات القادمة (2024-2030). وتقوم الاستراتيجية على تقييم صريح للتقدم المحرز والدروس المستخلصة، بما يسلط الضوء على الحاجة إلى التحول من نموذج النمو المكلف، أي كثيف رأس المال، الذي تموله الحكومة، إلى نموذج أكثر ديناميكية وأقل تكلفة، يقوده القطاع الخاص، على أن تصبح الدولة عاملا تمكينيا في هذا السياق. وهناك مبادرات جريئة مقترحة للتعجيل بتنويع الاقتصاد، وإعطاء دفعة للإنتاجية والتنافسية، وتعزيز الاستدامة المناخية. وهذه الاستراتيجية الشاملة والطموحة جديرة بالترحيب، كما أن تركيزها الاستراتيجي متسق مع المشورة السابقة من الصندوق.
صمود أمام التوتر الجيوسياسي الإقليمي
ولا تزال قطر تبدي قدرة كبيرة على الصمود في مواجهة عدم اليقين العالمي والتوترات الجيوسياسية. ولم يكن للصراع بين إسرائيل وغزة أي تأثير ملموس على قطر، رغم الدور السياسي الحيوي الذي تلعبه في الأزمة. كما أن التوتر الذي يشهده البحر الأحمر لم يؤثر على صادرات قطر من الغاز الطبيعي المسال، إلا لفترة مؤقتة، نظرا لقيامها بتحويل المسار البحري لناقلات الغاز. وتتمتع قطر بوضع متميز باعتبارها من البلدان القلائل التي قامت وكالات التصنيف الثلاث برفع تصنيفها الائتماني السيادي في الفترة الأخيرة. كذلك أكدت المؤشرات الرئيسية للأسواق المالية قدرة قطر على الصمود.
وقد استمرت عودة معدلات النمو إلى وضعها الطبيعي بيسر ومن دون صدمات، عقب استضافة كأس العالم لكرة القدم، حيث يُقَدَّر نمو إجمالي الناتج المحلي الحقيقي بنحو 1.3 في المئة في عام 2023. ومن المرجح أن يستقر النمو على انخفاض في المدى القصير ثم ينتعش بالتدريج إلى 1.75 في المئة عام 2024-2025 حيث يتلقى نمو الناتج غير الهيدروكربوني الدعم من استثمارات القطاع العام، ومكتسبات مشروع التوسع الجاري في إنتاج الغاز الطبيعي المسال، وحركة السياحة القوية. وتبدو آفاق المدى المتوسط أكثر إيجابية، إذ يُتوقع أن يصل النمو المتوسط إلى نحو 4.5 في المئة على أثر التوسع الكبير في إنتاج الغاز الطبيعي المسال، عند استكمال مشروعي التوسعة الشرقي والجنوبي لحقل الشمال، وكذلك زيادة قوة النمو غير الهيدروكربوني عند البدء في جني الثمار الأولى لتنفيذ استراتيجية التنمية الوطنية. وتشير التوقعات الحالية إلى أن قطاع الغاز الطبيعي المسال سيحقق زيادة بنسبة إضافية قدرها 20 في المئة بحلول عام 2030 ما يؤدي إلى مزيد من التحسن في آفاق النمو في المدى المتوسط. كذلك من المتوقع أن يتراجع التضخم الكلي إلى 2.6 في المئة في العام الحالي، وأن يقترب بالتدريج من 2 في المئة على المدى المتوسط. ومن المرجح أن يستمر تحقيق فوائض في الحساب الخارجي، وحساب المالية العامة على المدى المتوسط، مع افتراض ارتفاع أسعار الهيدروكربونات، واستمرار حصافة إدارة المالية العامة. وتتسم المخاطر التي تواجه آفاق النمو بالتوازن على وجه العموم.
وقد استطاعت السياسة المالية في قطر الحفاظ على الانضباط المالي، بينما يجري العمل على تنفيذ العديد من الإصلاحات الهيكلية على مستوى المالية العامة. ومن المقدر أن ينخفض دين الحكومة المركزية بحوالي 3 نقاط مئوية إلى أقل من 40 في المئة من إجمالي الناتج المحلي. وتحتوي ميزانية 2024 على مزيد من التخفيضات في الإنفاق مقارنة بنتائج عام 2023، مدفوعة في ذلك بالإنفاق الرأسمالي. وقد تم تحديث الميزانية متوسطة الأجل (2024-2026) لتعكس تمويل مبادرات الإصلاح في إطار استراتيجية التنمية الوطنية الثالثة. وبالإضافة إلى ذلك، فإن هناك عدد من الإصلاحات الجارية على مستوى المالية العامة، بما في ذلك تحسين عملية إعداد الميزانية، وتعزيز كفاءة الإنفاق، وتدعيم الشراكة بين القطاعين العام والخاص. وقام مصرف قطر المركزي بتحسين إدارة السيولة من خلال عملية مدروسة لإصدار أذون الخزانة، مما ساهم في تعزيز انتقال أثر السياسة النقدية إلى بقية مجالات الاقتصاد. وبدعم من المساعدة الفنية التي قدمها الصندوق، يتطلع مصرف قطر المركزي إلى زيادة تحسين إطار إدارة السيولة. ولا يزال القطاع المصرفي يتمتع بمستوى جيد من الرسملة والسيولة والربحية.
وقد سجلت القروض المتعثرة ارتفاعا طفيفا إلى 3.8 في المئة من اجمالي القروض القائمة في الربع الثاني من 2023 (من 3.6 في المئة في نهاية 2022) غير أن هناك مخصصات مقابلة كافية لمواجهتها. وكانت نسبتا تغطية السيولة وصافي التمويل المستقر، مرتفعتين (174 في المئة و140 في المئة، على الترتيب، في الربع الأول من 2024). وأدت التدابير التي اتخذها المصرف المركزي للحد من عدم الاتساق بين الأصول والخصوم الأجنبية قصيرة الأجل إلى تشجيع التمويل المحلي بآجال استحقاق أطول. وتهدف استراتيجية القطاع المالي الثالثة التي أُطلِقت مؤخرا إلى تعميق الأسواق المالية، وتشجيع الادخار، وإتاحة فرص للاقتراض والاستثمار، وتطوير قطاع التأمين، وتعزيز التكنولوجيا المالية، وتحقيق درجة أكبر من الشمول المالي.
وفي مجال العمل وتنمية المهارات البشرية، تهدف قطر إلى جذب المواهب، ودعم سوق عمل أكثر ديناميكية، عن طريق استحداث برامج جديدة لتأشيرات الدخول، واعتماد ساعات عمل مرنة، وإطلاق برامج لتعليم مهارات متقدمة. وهناك مبادرات متنوعة جارية لتعزيز الابتكار، ودعم المشروعات الرائدة، وتشجيع مشاركة القطاع الخاص. ويُبرِز إطلاق «استراتيجية قطر الوطنية للطاقة المتجددة» طُموح قطر للاستثمار في الطاقة المتجددة واستخدامها.
وتحدد الأجندة الرقمية 2030 التي صدرت مؤخرا أهدافا طموحة وأولويات استراتيجية لتحقيق مزيد من التحول الرقمي في الدولة، اتساقا مع أهداف «استراتيجية التنمية الوطنية الثالثة». ويمثل إنشاء «المجلس الوطني للتخطيط» و«مركز الإحصاء الوطني» خطوتين تحظيان بالترحيب من أجل تعزيز التخطيط والرقابة الاستراتيجيين، استنادا إلى بيانات أكثر شمولا. وقد أعرب الصندوق عن استعداده لدعم الجهد القَطَري من أجل تحسين جمع ونشر بيانات الاقتصاد الكلي والقطاع المالي.
ومع الاتجاه إلى تركيز الاستثمارات العامة في القطاعات كثيفة رأس المال، التي قد لا يستطيع القطاع الخاص حاليا الدخول فيها أو المنافسة. فإن قطر في الوقت نفسه تفسح المجال له للعمل في قطاعات أقل كثافة في رأس المال، مثل السياحة والخدمات الملحقة بها، ومجالات الأعمال الصغيرة والمتوسطة، سواء داخل شبكات وسلاسل الإمدادات المتصلة بقطاع النفط والغاز أو خارجه، بما يقيم توازنا نموذجيا بين دور الدولة في استمرار تنمية القطاع النفطي، ودورها في تعزيز قدرة القطاع الخاص على اقتحام مجالات التحول التكنولوجي.