من أبرز الاستعارات التي يمكن أن تستخدم للمعاني استعارة (المعنى ثوب) وفيها نجد عبارات من نوع (فلان يحسن حياكة المعاني) أو (لقد كسا معانيه ووشاها وزخرفها) والمقصود بالزخرفة زخرفة اللباس، الذي يخلع على أجساد المعاني وفي لهجتنا التونسية نقول عن الشخص الذي يحسن الحديث إنّه (يطرز) أو عن الشخص الذي يبني الأكوان كما يراها هو زورا وبهتانا إنّه (يفصّل ويقيس كما يريد هو). ما يعنينا في هذا السياق هو أنّنا سنتعامل في هذا المقال مع ظاهرتي اتساع المعنى وضيقه داخل استعارة (المعنى ثوب) لكي نبيّن أن المعاني يمكن أن تكون في أصلها متسعة ثمّ تضيق تماما كلباس يعجبك فتشتريه، وهو متسع وتحمله إلى الخيّاط كي يضيق فيه فيكون على مقاسك. صحيح أن المعاني كالأثواب يمكن أن تقبل التضييق، ولا يظهر عليها أيّ خلل لكنّ من المعاني ما لا يقبل التضييق، لأنّه جعل لكي يكون فضفاضا واسعا.
معلوم أن الناس تشترك في اللغة وفي وحداتها على سبيل شيء اسمه المواضعة والاصطلاح، وهو أن يوافق فرد جماعته اللغوية على الأسماء التي تطلقها على الأشياء والأفكار؛ وليس من حقه أن يطلق ما شاء من الأسماء على ما شاء من المسميات، كأن يسمي القلم قرطاسا مثلا والقرطاسَ هاتفا والهاتف عشقا (لك أن تتصور كيف أن اسم الهاتف المحمول سيحمل بهذا الصنيع اسم العشق المحمول). ففي العربية فإنّ اسم (قلم) هو اسم مشاع بين كل من يتكلم العربية وكذلك (هاتف) و(عشق). يتفق الناس على أن يسمّوا الأشياء بالأسماء ذاتها، وهو اتفاق ضمني يكون عبر تعلم مفردات اللغة.
الحقيقة أن المواضعة وما شابهها في اللغات الأخرى ليست مفهوما دقيقا، على الرغم من رسوخ قدم هذا المفهوم في الاستعمالين النحوي واللساني. فحين نقرأ أقدم النصوص النحوية عن المواضعة، نجد فيها أفكارا لا تقبل اليوم لا عند العلماء ولا عند كل من له تجربة مع تعلم اللغة. يقول ابن جني وهو يتحدّث عمّن اعتقد أن أصل اللغة اصطلاح: «ذلك أنهم ذهبوا إلى أن أصل اللغة لا بدّ فيه من المواضعة، قالوا: وذلك كأن يجتمع حكيمان أو ثلاثة فصاعدا؛ فيحتاجون إلى الإنابة عن الأشياء المعلومات، فيضعون لكلّ واحد منها سمة ولفظاً، إذا ذكر عرف به ما مسماه؛ ليمتاز من غيره، وليغني بذكره عن إحضاره إلى مرآة العين». (الخصائص 1/ 44). ما يلفت الانتباه هنا في حديث النحوي هو اعتباره أن الاصطلاح يتم على يد حكيمين (أو أكثر) هما العالمان بالمُعجم وبأحوال توزيعه على المسمّيات. والحكمة فيه أن هناك تناسبا بين الأسماء والمسميات، ولذلك تقتضي الحكمة أن نسند لفظ القلم مثلا، دون غيره إلى أداة الكتابة. وينبغي أن يجتمع الحكيمان على الاتفاق على توزيع الأسماء على المسميات، كي تتواضع العامة اللغوية على أن تتّبع ما تواضع عليه الحكيمان أو الحكماء. الحقيقة أن الحكمة ليست في هذا فقط بل في ابتداع التسمية، وفي إسنادها إلى الأشياء لكي تنوب الأسماء حين تنطق عن استحضار المسميات؛ فيكفي أن تقول قلم، لكي أعرف ما تقصد فلا تحتاج أن تستجلبه لكي أراه فأعرف أنك تريد القلم. وإن كان للقلم أن يستجلب فكيف يمكن أن تجلب كيانات ضخمة: هل عليّ مثلا أن أقتلع شجرة أو أحملك أنت إلى الغابة كي أريك إيّاها؟ الحكمة تقتضي أن تنوب العلامة عمّا تدلّ عليه إنابة نطق ورسم وكتابة. الحكمة إذن في اختراع العلامات بما هي نائبة عن المسميات المرجعية، وفي ما سمّاه أفلاطون دقة الأسماء: إنّها دقيقة في تعيين الأشياء التي تعينها. كان كراتيل يدافع في محاورته الشهيرة على أن الأسماء مضبوطة بالطبيعة، بينما كان هرموجين يرى أن دقة الأسماء نابعة من المواضعة. لكنّي على اعتقاد أن ابن جني، أو من روى عنهم الرأي القائل بالاصطلاح قد وصلتهم بعض الآراء عن هذه المحاورة فأعيدت صياغته بالطريقة التي عرضت في كلامه، وبدلا من أن يحيل بصراحة على محاورة الفلاسفة عبّر عن ذلك باجتماع الحكماء لا للجدل حول أصل اللغة، بل من أجل ابتداع طريقة للمواضعة. تضيع كثير من الحقائق وراء الجهل بأصل مصادرها الفكرية.
المواضعة ليست دليلا على أنّي أوافقك على أن تسمي القلم قلما والقرطاس قرطاسا؛ المواضعة في أصلها جبرية: ليس لي أن أكون إلاّ مجبرا كي أتبع في التسميات طريقة من كانوا قبلي، وأن أمشي على الطريق التي عبدت من قبلي، وليس لي أن أختار طريقا في التسمية جديدا. كذلك الشأن في المواضعة العقلية أو الإعرابية أو التركيبية: هناك طريقة في بناء الجمل عليّ أن أتبعها لكني أعمد داخلها إلى ضرب من التلاعب بالمواضعة. إنّ تضييق المعاني هو ضرب من التحايل من داخل قانون اللعبة لكي تساق مساقا خاصّا. حين تقول لي إن القلم هو التسمية التي اتفق حولها العرب، لكي يسموا أداة الكتابة، وأنّ الحمار هو الذي اتفقوا على أن يطلقوه على ما نعرفه من الدواب فهذا أوافقك عليه، لكنّي أبحث في كلّ مرّة على أن أضيق هذه التسمية الشائعة لتصبح خاصة فأنا في الحياة لي قلمي المميز الذي يختلف بما أعلمه عنه عن بقية الأقلام، فهو مثلا هدية من ولدي الذي اشتراه لي من مدينة مينشن الألمانية وطلب مني ألا أكتب به إلا لأمه. سيرى الناس القلم لكنّهم سيعتبرونه قلما لأنّ فيه خطاطة الأقلام، وحين أخرجه من جيبي بعد أن أسأل: لكن أين قلمي؟ سيعلم الناس أن ذلك القلم هو قلمي أنا. لقد ضيقت التسمية باستعمال النسبة أو الإضافة التي في ياء (قلمي) أو التي في كاف (قلمك) لمن سألني عنه. النسبة هي أقدم أشكال تضييق الدلالة، لأنّها تخرجها من شيوع اللفظ العام إلى التملك الذاتي. النسبة التي هي الإضافة تعني نزوعا لغويّا إلى إدراك تملّك شيء بنسبته إلى صاحبه. كان القلم قبل أن يشتريه ولدي لي معروضا في مغازة الأقلام الفاخرة، حتى اقتناه ولدي ووهبني إيّاه. أتصوّر أنّه قال للبائع: (هلاّ ناولتني ذلك القلم؟) ثم يضيف: (لا ليس ذاك، هذا الذي في الصف الثالث.. نعم هو ذاكǃ). هذه جمل كلها تسعى إلى تمييز القلم من المجموعة بأن تخرجه من المتشابهات، أو المتخالفات التي يعرض فيها.
لا تضيق اللغة بما هي وحدات معجمية إلا بالتركيب؛ حين تكون الوحدات المعجمية مفردة تكون شائعة شيوعا عاما، لكنّها حين تدخل والتركيب تتخصّص حتى لو ظلت عامة. عادة ما يميز النحاة بين التعريف الذي يفيد تعييننا لكيان بعينه من نوع القلم في (ناولني هذا القلم) أو التعريف الذي يترك الأشياء على عمومها، والتي تدخلها لام تسمى لام الجنس التي في قولنا (القلم في الكتابة خير من الريشة) لام الجنس تترك المسميات على شيوعها، ففي المثال السابق تحدثنا عن القلم بما هو جنس شائع لكنّنا رغم ذلك خصصناه في عمومه تخصيصا ضيقنا فيه من اتساعه الذي يمكن أن يكون له فمعلوم أن القلم تسمية تشمل حقل الكتابة وغيرها، والقلم في المثال هو ذلك النوع الذي يستعمل في الكتابة وليس في التجميل مثلا (قلم الشفاه).
إنّ الأصل في المعاني أن تكون مشاعة، ثمّ تضيق بالتركيب وتضيق بالمقام وتضيق بالتمثل والتصوّر. حين تستمع إلى قوله تعالى في سورة الأعراف الآية 176 (فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث) فإنّ الكلب مخصص ذهنيا في تمثيلك له، على الرغم من أنّه اسم مشاع يستغرق كل الكلاب. في تمثلاتنا لا نتصور الكلب خطاطيا، بل نتصوّره على هيئة ولون وحركة نتصوره وهو يلهث؛ وحين نفعل ذلك نخرج من دائرة الشياع إلى دائرة التضييق والتقييد. ومتى تمثلنا الكلب في هيئة من يجعله يلهث، حين يحمل عليه من يحمل عليه، نكون قد تمثلنا الكلب في وضعية مخصوصة، وكانت له هيئة مخصوصة وبناء عليه فإنّ المشهد التصوري الذي نبنيه بالجملة، وباللغة لا يجعلنا إزاء كائن خطاطي، بل إزاء كائن له صفات مخصوصة هذا التخصيص المطلوب هو ممّا يشرّع لوجود المفسرين.
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية