يمرُّ العالم في الوقت الحالي بمرحلة من التقدُّم المذهل، التي من شأنها إحداث تغييرات جذرية في شكل ومضمون الحياة على كوكب الأرض حاليا ومستقبلا، من ناحية وضع ودور الإنسان في خضم هذا التقدُّم، وكذلك من حيث تعامله مع ما حوله من موجودات؛ تماما كما فعلت الثورة الصناعية الأولى بالإنسانية. فقد كان وقع الثورة الصناعية الأولى على الإنسان في نهاية القرن الثامن عشر (1784) مريعا، لدرجة جعلت الكثيرين يجنحون إلى القيام باحتجاجات ضد التكنولوجيا المطروحة، والإقدام على تحطيمها لكونها تلغي وجود الإنسان. ومن المثير للدهشة أن هذا المشهد عينه يتكرر حاليا، وإن كان بصورة أكثر شراسة؛ حيث إن الثورة الرقمية كوَّنت ما قد يُطلق عليه مجازا ثورة صناعية رابعة تندمج فيها العلوم السيبرانية مع الفيزيقية؛ علما أن الإنسان يقع في مقدِّمة الأجسام الفيزيقية التي سوف تندمج مع العالم السيبراني الرقمي.
والمثير حقّا للدهشة في الأمر، معرفة أن هذا التقدُّم المُذهل كان يسير وفق مخطط ذي خطى وئيدة، وإن كانت حثيثة التطبيق، وليس مجرَّد وليدا لصيرورة الأحداث التي نجم عنها تقدُّم علمي وفق صدفة غير محسوبة؛ فالغرض من التقدُّم الرقمي الذي نشهده هو إحداث تحوُّل غير مسبوق في تاريخ البشرية. ومن الجدير بالذكر أن القائمين على تطوير التقدُّم الرقمي، الذي أفرز الذَّكاء الاصطناعي، أصابتهم الصدمة جرَّاء التطوُّر الذين تشاركوا في تنفيذه وأصبحوا غير قادرين على استيعاب عواقبه.
فقد عبَّر إيلون ماسك Elon Musk صاحب شركة «سبيس إكس» Space X عن ذلك بقوله: «سوف نعيش في عالم غريب»، ودعا إلى تأجيل طرح الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته تجاريا، على الأقل لفترة ستَّة أشهر؛ من أجل تدريب الكثيرين عليه وإيجاد الاحتياطات اللازمة لتكبيل عواقبه غير المحمودة؛ لكيلا تخرج عن السيطرة. أمَّا جيفري هينتون Geoffrey Hinton، الذي يعد الأب الروحي لتطوير الذكاء الاصطناعي، فقد استقال من منصبه في شركة غوغل Google، واصفا الذكاء الاصطناعي بـ»المخيف»، ما دفعه إلى أن يحاول أن يتنصَّل من العواقب خشية أن تلعنه البشرية على ما فعل بها من دمار، كما نال صنيع الفيزيائي الأمريكي روبرت أوبنهايمر Robert Oppenheimer من سباب ولعنات لكونه من أشرف على برامج تطوير السلاح النووي، واستخدام القنبلة الذريَّة في الحرب العالمية الثانية. وبالنسبة لجيفري هينتون، الذكاء الاصطناعي، الذي يعد الوليد المدلل للتقدُّم الرقمي، بمثابة قنبلة ذريَّة أخرى تم إلقاؤها على العالم؛ لمحو جميع مظاهر العالم القديم، ووضع أسس عالم جديد برواسٍ غير مسبوقة.
هذا النظام الجديد المخيف جعل إيطاليا تحجب استخدام الـ»تشات جي بي تي» ChatGPT داخل إطار الدولة، وحثَّ المفوَّضية الأوروبية على أن تستصدر بيانا بمنع استخدام الذكاء الاصطناعي، لأنه يهدد مصير الأمم وشعوبها؛ حيث أنه يقضي على الغالبية العظمى من الوظائف، وأن لاستخدامه عواقب غير محمودة.
التقدُّم الرقمي أفرز الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته وأفضى إلى تحديث نسخه المطروحة في وقت وجيز جدا؛ فقد تمَّ طرح التحديث الرابع لـ»تشات جي بي تي» في أقل من أربعة أشهر فقط، وسوف تكون المفاجأة الأكبر هي طرح شركة غوغل، بإمكانياتها الكبرى لامتلاكها حدود الشبكة العنكبوتية، نسختها من الذكاء الاصطناعي تحت اسم «غوغل بارد» Google Bard. ويؤكِّد هذا الوضع الملتبس أن التقدُّم مقبل، لا محالة، بطريقة تشبه الطوفان العظيم، وأن من سينجو هو من يستطيع الصعود إلى متن سفينة نوح، أو بالأحرى من تتولَّد لديه المقدرة على أن يسيطر على طوفان التقدُّم قبل أن يمحي وجوده.
ومن المذهل أن الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه Friedrich Nietzsche (1844-1900م) تنبأ بهذا الوضع، وحاول أن يرسي القواعد الأخلاقية لنظام العالم الجديد بشكل براغماتي. وقد عاصر نيتشه نفسه بوادر قاطرة التقدُّم الطاغي عندما لمس ما يحدث من تغييرات اجتماعية بعد الثورة الصناعية الأولى (1784) والثورة الصناعية الثانية (1870)، وحاول أن ينبَّه إلى أن القواعد الأخلاقية سوف تتغيَّر جذريا، كما حدث في السابق ـ كما ذكر في كتابه «علم أصول الأخلاق» On the Genealogy of Morality (1887) مؤكِّدا أن أخلاقيات العالم القديم التي تشرَّبنا بها يجب أن يصيبها التطوير، وإلا لن يجد الإنسان مكانا ملائما لنفسه، ومن ثمَّ يسقط في هوَّة العدمية ويكون مصيره الزوال. وتأكيد نيتشه ذلك الوضع، هو تمهيد للتنبؤ بظهور جيل من الـ Übermensch، وهو المصطلح الذي يعني حرفيا «من يفوق الإنسان»، أو كما ترجمه البعض «الإنسان الآلة» أو»السوبرمان» أو»الجبابرة». وبالتدقيق في المعنى الذي يقصده نيتشه من صياغة ذاك المصطلح، يلاحظ أنه يقصد ظهور إنسان بمميِّزات وقدرات متفوِّقة ومتطوِّرة تؤهله لأن يكون متميزا في عالم يقصد أن يقسِّم البشرية إلى أسياد وعبيد، أو بمعنى آخر، إلى راعٍ وقطيع، والمقصود من القطيع هنا من ليس لديه القدرة على أن يسوس ويكون سيِّد قراره.
وقد بلور نيتشه مفهوم «الإنسان الآلة» أو «السوبرمان» في كتابه «هكذا تكلَّم زرادشت» Thus Spoke Zarathustra الذي صدر في أربعة أجزاء ما بين (1883-1885)، ووصفه، كما كتب عليه كعنوان فرعي: «كتاب للجميع وليس لأي فرد»، وذاك العنوان صادم وملغز، لدرجة أن المترجمين يحتارون حتى الآن في كيفية ترجمته أو تفسيره، فليس من الواضح ما إذا كان المقصود أن الكتاب موجَّه للمجتمع، أم أن الكتاب يعني القلَّة القليلة التي سوف تفهم مغزاه، أم هو كتاب لم يعتنِ نيتشه بمن سوف يوجهه له؛ لأن القادر على إدراك معناه الحقيقي هو من تحرر من الوهم، وأصبح على أعتاب التحوُّل إلى «الإنسان الآلة» أو»السوبرمان».
ومن الجدير بالذكر أن كتاب «هكذا تكلَّم زرادشت» لم يحظَّ بالاهتمام المطلوب عندما كان نيتشه على قيد الحياة، تماما كما حدث مع زرادشت عندما سخر منه العامة قائلين: «لنترك لك الإنسان الآلة يا صاح»، فتركهم زرادشت، لإدراكه أن الناس غير مستعدَّة بعد لسماع تلك الحقائق، قائلا: «لست الفمّ الذي يصلح لهذه الآذان». ويؤكِّد نيتشه أن زرادشت علم في تلك اللحظة أن تلك الحقائق يجب عدم قولها للقطيع، بل للقلَّة القليلة المستعدة للخروج من القطيع؛ فالتطور لم ينته بعد، والإنسان الأعلى سوف يوجد عاجلا أم آجلا.
لقد كان كتاب نيتشه بمثابة وثيقة فريدة، تم استغلالها لأقصى حد من قبل النازيين إبَّان الحرب العالمية الثانية؛ فكان هتلر يحرص على توزيعه على الجنود حتى يصمدوا ويستبسلوا في المعارك. وعلى الأساس نفسه، استبسل العلماء الألمان في التطوير والاختراعات والاكتشافات في جميع المجالات العلمية والتكنولوجية، بل الفكرية أيضا، رغبة منهم في الوصول لمرتبة «الإنسان الآلة» أو»السوبرمان». ويكفي القول إنه بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، قسَّم الحلفاء الاكتشافات العلمية والتكنولوجية الألمانية كغنائم، ومعها توارثوا نبوءة نيتشه على لسان زرادشت.
والخطير في التقدُّم التكنولوجي الرقمي وعلى رأسه الذكاء الاصطناعي أنه سوف يسرع من وتيرة تقسيم البشرية إلى راعٍ يكون «إنسانا آلة» وقطيع مصيره العدمية والفناء، من خلال طرح تحدٍّ غير مسبوق من التقدُّم التكنولوجي من يتبِّعه ويكون مجرَّد مستخدم، لسوف ينمحي وجوده؛ لأنه سوف يصير مجرَّد تابع متلقٍّ وسوف يصل إلى مرحلة لن يستطيع بعدها استخدام العقل البشري بالطريقة الصحيحة، علما بأن ذاك العقل نفسه استطاع من قبل تطوير الآلات والتحكَّم فيها. وعلى هذا من يجاهد ضد هذا التيار العتيد ويستطيع ركوب موجة التقدُّم ويتحكَّم في مسارها، هو من سيصبح السيِّد أو القائد في النظام العالمي الجديد، أو بمعنى آخر سيرتقي ويصبح «إنسانا آلة» (سوبرمان).
كاتبة مصرية