خطورة الصهيونية أن تتحوّل إلى مادة أدبية، وإلى مرجعية فكرية تنطلق منها أفكار ومعالجات، هي في جوهرها مادة أيديولوجية تتكرّس عبرها أطروحات الكراهية والعنف والتعالي، وتجعل من منطق الاختلاف بين الأفكار وجدلها، منطقة لتأويل تلك الكراهية، تحت يافطة «معاداة السامية» وهي وهم ميثولوجي، أكثر منه تاريخيا.
ما تشهده وقائع الصراع العربي الصهيوني، وتغول «الكيان» عبر تغويل ميثولوجيا وجوده، يدفع باتجاه إعادة قراءة المرجعيات المُؤسِسة لأطروحاته الأدبية، لاسيما تلك التي تتعلق بالسرديات، في سياقها التخيّلي، أو سياقها التاريخي، وبقدر ما يكشف الاشتباك بين التاريخي والتخيلي من «مساحات سردية» تتبدى من خلالها مظاهر وصراعات، لها أحداثها وشخصياتها، فإنه يكشف أيضا عن تمثلات لأسطرة وجودها عبر أسطرة الأيديولوجيا ذاتها، بوصفها مجالا لتسويغ الحديث عن هيمنة مركزيات متخيلة، وربما عن كثير من «القصص المتخيلة» بما فيها «قصص المقدس» التي تحولت إلى دعامات خرافية لإنشاء «الكيان الصهيوني» مثل حكاية الهيكل، وحكاية «هدم المعبد في القدس على يد القائد الروماني تيتوس عام 70م» وتوظيف شخصيات «العماليق» و»شمشون» الميثولوجية في صناعة سرديات البطولة، وغيرها.
تعبئة الذهنية الصهيونية بهذه الخرافات، تحولت إلى دافع نفسي في كتابة كثير من سرديات المكان، ومن سرديات الشخصية، إذ تحولت إلى مرجعيات تسويقية في الصناعات الأدبية والسينمائية، التي عدّها البعض مجالا «شعبويا» للترويج إلى ما سمّي بالبطولات والأساطير السياسية التي دخلت في إشهار خطاب «العقل الصهيوني» مثلما وظّفها بعضٌ آخر في تأسيسات الفلكلور الصهيوني، وفي الترويج للأسفار المقدسة، والعنصرية، وهو ما تباهى به دافيد بن غوريون أول رئيس لوزراء الكيان الصهيوني بـ»أن الأسطورة يمكن أن تصبح حقيقة، إذا آمن الناس بها بما يكفي من القوة. وقد استخدم بحذق ومهارة، خفة اليد الثقافية، لكي يتلاعب باحتراف بقصص التوراة، بحيث تناسب المزاعم السياسية للصهيونية على الأرض الفلسطينية» (أساطير صهيونية/ جون روز/ ترجمة: قاسم عبده قاسم).
النشوء العنصري والدراسات الثقافية
لا شك في أن الفكرة الصهيونية ومشروعها السياسي، وحتى التاريخي، ليسا بعيدين عن أطروحات المركزية الكولونيالية، ولا عن أطروحات «التابع» التي صنعت لها تمثلات في الدراسات الثقافية، وفي السياسات، والحكايات، حيث جعلت من الهيمنة العنصرية تمثيلا سيميائيا للقوة، وللبطولة وللقصص التي تقوم على موضوع «قهر الآخر» وتحويل الانتصار السياسي والعسكري إلى انتصار مثيولوجي ومقدس، وتعبيرا عن صراع حضاري شديد التماهي مع الأساطير البائدة. ما تقترحه الدراسات الثقافية من مقاربات تنطلق من طبيعة المخاطر، التي تُشكّل أنساقها الظاهرة «الصهيونية»، عبر علامات الصراع، ومظاهر العنف والتكفير والكراهية والاستحواذ وإقصاء الآخر، فهذه العلامات لا تتبدى إلّا عبر مظاهر ثقافية، وعبر قصص وحكايات، حيث تؤسس لها أسفارا وهجرات وبطولات وشخصيات ميثولوجية، استثمرته الصهيونية العالمية في الترويج لمشروعها الأيديولوجي/ التخيلي، حيث عبّر صنّاعه عن تمثلاتهم لـ»المقموع والمسكوت عنه» في تلك القصص، وفي قصصها المتخيلة، بدءا من كتاب موسى هس «روما والقدس» 1862، وكتاب «التحرير الذاتي» 1882 لليو بنسكر وكتاب» الدولة اليهودية» لهرتزل، حيث تم التمهيد لبدء الهجرات الواسعة إلى فلسطين، في نهاية القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين.
ثقافة «الهجرة» تحولت أسطوريا إلى «ثقافة العودة»، وهذا التحوّل صار أخطر مظاهر التمثيل الثقافي للمشروع الصهيوني في فلسطين، ولتقويض فكرة الشرق القديم، إذ سيكون الاستيطان «اليهودي» تمثيلا لصناعة فكرة الهيمنة، وللتطهير، ولربط الأساطير المقدسة في فلسطين بالمخيال اليهودي فقط، كجزء من أيديولوجيا هيمنة ومركزية الغرب، السياسي والتبشيري، حيث تمّ التسويق لها منذ ما سُمّي بعصر النهضة، وظهور فعاليات الاستشراق كشكلٍ ثقافي لتوصيف الهيمنة، ولتسويق صورة ذهنية عن الشرق، وإخضاعه إلى قراءات جديدة، أسطورية ودينية وسياسية، انتهت ببدء عصر الاستعمار، الذي وضع فلسطين تحت الوصاية البريطانية.. تأسيس الكيان الصهيوني عام 1948 ليس بعيدا عن هذا التاريخ، إذ ارتبطت شرعنة وجوده، مع نشوء البنية الثقافية الاستيطانية لمشروعه الدولتي والأيديولوجي، فلا يمكن تخيل الكيان، دون وجود الهجرات والاستيطان، الذي يعني، أسطرة الأرض وأسطرة الهجرة، مثلما هي أسطرة الحدث الميثولوجي كما في «حكاية الماسادا»، التي تحولت إلى أسطرة تقوم على طرد الآخر.
تمظهرات هذه الثنائية تغولت لتبدو أكثر مظاهرها عنفا، من خلال تقديس الأسطرة ذاتها، وشرعنة سياسات الطرد، واستعادة «الغيتو» حيث تبدت تمثلاته الثقافية من خلال تسويق مصطلح «نفي المنفى»، الذي روّج له بن تسيون دينابيرغ المؤرخ الصهيوني وعضو معهد القدس، ووزير التعليم لاحقا، بوصفه مفهوما مركزيا في سرديات «الثقافة الصهيونية»، وفي تأسيس الوعي التاريخي الصهيوني، وتجاوز العقدة القديمة لصورة «اليهودي التائه» (سيف دعنا/ الصهيونية الثقافية/ موقع الجزيرة).
ما تطرحه الدراسات الثقافية تجد مرجعياتها عبر دراسة الأنساق المضمرة للخطاب الصهيوني، حيث تغويل الأيديولوجي والعنصري، وحيث كراهية الآخر، وحيث الإيهام بالنقاء العنصري، وحيث المغالاة بالطقوس والعادات والتهويد، مثلما يجد تمظهراته عبر دراسة العلاقة المضطربة بين أزمة الوجود، والمفاهيم المؤسِسة، كالهوية، الدولة، اللغة، الأسطورة، السرديات، الأسفار، وعبر ما ارتبط بها من تمثلات مأزومة، حيث الصراعات، والاستيطانات، والإبادات العنصرية، التي تبقى «الإبادات الثقافية» من أكثرها خطورة بتوصيف منير العكش، لأنها تُكرّس لا وعي طرد الآخر ومحوه أنطولوجيا وتجريده من التاريخ..
الصهيونية وسرديات الخطاب الروائي
نشر غسان كنفاني كتابه «في الأدب الصهيوني» ليطلّ من خلال التجربة الروائية للروائي الإسرائيلي عاموس عوز، على سرديات الفكر الصهيوني، وعلاقة هذه السرديات بالحروب والصراع التاريخي، وبالسياسة والفكر الصهيوني، وصولا إلى التعرّف من خلالها على الانساق التي تُخفيها تلك السرديات، وتمثلاتها في الأيديولوجيا وفي ميثولوجية «اليهودي التائه»، وهو ما برز في بعض رواياته التي لم تغب عنها الأساطير والصراعات الدينية العميقة، لاسيما رواية «أسطورة عن الحب والظلام» ورواية «يهوذا». كما تعدّ قراءات غالب هلسا لـ»الأدب الصهيوني» مجالا للتعرّف على جوانب غائرة وعصابية في الشخصية الصهيونية، من خلال سردياتها وأوهامها، ومقاربة القضايا التي يطرحها الفكر الصهيوني عبر الروايات، لاسيما ما يتعلق بالشخصية العدوانية، وبذاكرة العنف والكراهية، ففي رواية «حب متأخر» لعاموس عوز، تبدت صورة اليهودي الذي تساكنه شهوة الانتقام، وكراهية الآخر، ورغم أن عوز حاول أن يُخفف من سرديات العنف، ومن رفض الغلو العنصري، حيث أبرز في روايته «تل المشورة» قلق بطلته في المكان الاغترابي/ الدوستوبي، ومحاولتها الهروب، والعودة إلى مكانها الأصلي، عبر إقامة علاقة جنسية مع شخصية مسيحية. روايات عاموس عوز لم تكن بعيدة عن الأيديولوجيا، ولا عن صورة «اليهودي النمطي»، الذي يجد أن ذاكرته ونشأته لم تتخلص من عقدة «الشتات» ومن رهاب «الشخصية الضالة» الباحثة عن سرديات الأصول، والهوية، التي تتحول إلى شخصية عصابية، متوترة تعمل على استعادة وجودها عبر العنف، وعبر فرض عدوانيته الخاصة على الآخرين، وعبر أدلجة الصراع من خلال الإيهام بـ»القوة» و»التفوّق» وهو ما تجسّد في رواية عاموس عوز «في مكان آخر»، حيث يتحوّل «الشتات» إلى مجال لتمثيل أزمة الشخصية، وأزمة علاقتها مع المختلف، فعبر رغبة بطلته بالهروب من الكيان الصهيوني، لترتبط برجل من الشتات، لا تستحضره الرواية إلّا بوصفه مهرجا.
لم تشأ السرديات الصهيونية إلّا أن تقدم خطابها بوصفه تمثيلا للفكرة والشخصية الصهيونيتين، ولميثولوجيا العودة، فاحتشدت تلك السرديات بكثير من الأشكال الغرائبية للعنف وللكراهية، ولتقديس «الغيتو» والأيقونات والعلامات، بما فيها اللغة، والرمز الديني، وصولا إلى طرد الآخر، بوصفه من الأغيار الذين يدخل طردهم واغتصاب أرضهم في سياق ميثولوجيا التطهير العرقي والعنصري، حيث تمارس «الحكومة الصهيونية» رهابها على الأرض، وعبر القتل الممنهج، والسياسات الاستيطانية، وعبر عنفٍ عنصري فائق الكراهية، تتجذّر أطروحاته عبر العودة إلى الميثولوجيا، وإلى ربطها بالقوة المفرطة، وإعطاء المتطرفين الصهاينة مثل بن غفير و بتسلئيل سموتريتش» حافزا لكي يكرسوا خطابهم عبر مشروع «دينية الدولة»، الذي يحمل معه أيديولوجيا التطهير والعزل والسيطرة على الأرض، كجزء من تكريس الهوية والمقدس..
الصهيونية والتمثيل الثقافي
صناعة الخطاب الصهيوني ليست بعيدة عن صناعة مركزية الخطاب الكولونيالي ولا عن تمثلاته الثقافية، إذ إن أيّ مراجعة لهذا الخطاب ستجد لها صدى في اشتغالات المؤسسات الغربية، بوصفها تعكس مدى شراهة المركزية الغربية في لاوعيها «الاستعماري» لكي تؤكد أثرها عبر اللغة، أو الذاكرة، أو لكي تمدّ وجودها، عبر نصوص وممارسات وهيمنة، وعبر كيانات تؤدي وظائف تقويض المركزيات المضادة، فعبر الاستشراق لا نجد خطابا بريئا عن الشرق، ولا عن تمثلاته الثقافية، في مجالها الأنثربولوجي أو السسيولوجي، إذ تتحول قضايا الشرق إلى تهويمات سحرية، وربما إلى ثقافات محلية، يكون فيها النقد خافتا، أو مضللا، حيث يكون التاريخ جزءا من لعبة التمركز، وأن رواته شفاهيون، وحكاؤون، من الصعب وضع التاريخ الذي يتخيلوه داخل الوثيقة، وهذا ما جعل الغرب الاستعماري، الذي ترك المنطقة، يرسم مخططا سريا لصناعة «تاريخات» مضللة في المنطقة، تبدأ من توسيع مساحات الاستشراق والاستكشاف، وفك أسرار كثير من الآثار والمخطوطات، مقابل إعادة إنتاج ميثولوجيا غائرة فيها، ومن أثرها خطورة، كانت حكاية اصطناع «الوطن اليهودي» عبر حكايات وأحداث وتخيلات وسرديات اشتبك فيها الديني بالأسطوري، وهذا ما جعل «القراءة الضد» لأدوارد سعيد في كتابه «الاستشراق» تتحول إلى قراءة في نقد العصابيات المؤسِسة للخطاب الصهيوني، ولربط هذا الخطاب بمركزيات الغرب الاستعاري والتبشيري والاستشراقي والعولمي، وعلى نحوٍ تكون أطروحات «ما بعد الكولونيالية» وكأنها ترسيم ثقافي لمواجهة غير متكافئة- رغم صخبها- مثلما بدت الأقرب إلى محاولات في التطهير والاعتراف، وفي إعطاء النقد قوة للمراجعة، حيث إعادة الحديث عن التمثلات الثقافية، وعن التاريخ الذي تصنعه، وعن التحديات التي تواجهها، وعن مظاهر الصراع الاستلاب الجديد الذي تنهض باسئلته، وتكتب كثيرا عن أسفاره ومراثيه.
كاتب عراقي