يتخبط الإعلام العالمي على وقع تطورين أمنيين لا يقلان أهمية لا في المكانية ولا في الزمانية، لاسيما أنهما يتربطان بمحور أخذ على عاتقه التموضع إلى جانب التصميم الروسي والصيني في إحداث التغيير في النظام العالمي القائم.
لا يتردد كل من الرئيس الصيني شي جين بينغ والروسي فلاديمير بوتين الإعلان عن نيّتهما على إزاحة الهيمنة الأمريكية عن النظام الدولي كلّما تسنى لهما ذلك.
إذ يعتبران أن النظام الحالي المبني على أحادية غربية، آن الأوان لضربه عبر تكريس حضورهما في عالم متعدد الأقطاب تأخذ فيه القرارات بالتفاهم وليس بسياسة “العصا والجزرة” التي فرضتها الولايات المتحدة منذ سقوط الاتحاد السوفييتي مطلع التسعينيات.
أعلنت حركة حماس صباح الأربعاء 31 تموز/يوليو الماضي عن اغتيال رئيس مكتبها السياسي إسماعيل هنية في العاصمة الإيرانية طهران.
حركة فتح
وقالت حماس في بيان إن رئيس الحركة “قضى إثر غارة صهيونية غادرة على مقر إقامته في طهران”. قد يتوقف المتابع عند الطريقة التي اغتيل فيها هنية لاسيما وإنها تأتي ضمن العمليات الأحب تنفيذها لدى القادة في إسرائيل منذ حربها مع حركة فتح في سبعينيات القرن الماضي إلى ما بعد اتفاق أوسلو، ولكن ما لم يكن متوقعا أن يكون الاغتيال قد حصل في العاصمة الإيرانية طهران، لا سيما بعد الرسالة الصاروخية التي نقلتها إيران لتل أبيب بعد قصف إسرائيل لسفارتها في سوريا وأدت الغارة إلى مقتل مجموعة من كبار مسؤوليها.
ليس اغتيال هنية هو من شكل الصدمة بالنسبة إلى فريق المحور بقيادة إيران، لكنّها الضربة التي نفذتها المسيرة الإسرائيلية في الضاحية الجنوبية لبيروت، ليل الثلاثاء 30 تموز/يوليو الماضي، والتي استهدفت المعاون الجهادي للأمين العام لحزب الله فؤاد شكر (الحاج محسن).
رغم تضارب التقارير حول مقتل شكر إلا أنّ الضربة بذاتها شكلت تطورا ميدانيا كبيرا قد تكون بداية لمرحلة جديدة من الحرب على الجبهة الجنوبية للبنان.
لقد عرفت هذه الجبهة منذ الثامن من تشرين الأول/أكتوبر الماضي حربًا على حافة الهاوية، إذ كانت هناك قواعد الاشتباك لا يسعى الطرفان إلى عدم تخطيها للانجرار في أتون نار الحرب التي قد تبدأ في لبنان ولا يعرف أين ستنتهي.
ساحة حرب
يتوقّع كثيرون أن الردّ الإيراني وحزب الله وكافة القوة الداعمة لهما سيكون مزلزلًا على مستوى المنطقة، إذ لطالما نطق أعلامهم أنّ أي خطأ استراتيجي في الضربات الإسرائيلية قد تحول المنطقة إلى ساحة حرب، فهل فعلًا نحن على أعتاب حرب كبرى؟ أم إن إيران ستبقى ترقص على حافة الهاوية؟
من يربط التهديدات العالية النبرة للمحور الممانع، والتصعيد الخطابي بإحداث دمار هائل في إسرائيل، بالحدثين المستجدين من الضاحية الجنوبية إلى طهران يؤكّد أن الحرب واقعة وإن المعركة باتت أقرب من المتوقع.
ولكن من يتعمّق أكثر في سياسة إيران بعد ثورتها عام 1979، وسياسة الصبر الاستراتيجي مع تصدير ثورتها يدرك أن الحرب لن تكون في المدى المنظور.
فالجمهورية الإسلامية في إيران لا تعمل على قاعدة “الفعل وردة الفعل” بقدر ما تنظر إلى الأحداث من منظار أوسع لا سيما وهي اليوم وضعت نفسها في تموضع دولي حيث لا تستطيع أن تتصرف منفردة رغم أهمية الأحداث.
صلب المحور
وسعت القيادة في طهران من دائرة رؤيتها، وشاهدت من منظارها ما يحدث في أمريكا الجنوبية، تحديدًا في كاراكاس وفي معظم المدن في فنزويلا، حيث خرج الآلاف من المحتجين إلى شوارع المدن الإثنين 29 تموز/يوليو الماضي رفضًا لنتائج الانتخابات الرئاسية التي أعلنت السلطة فوز نيكولاس مادورو فيها. حيث توجه المتظاهرون في العاصمة كاراكاس إل قصر ميرافلوريس الرئاسي، مرددين هتافات مناهضة للحكومة، وقام البعض بتمزيق وحرق صور لمادورو.
تعتبر فنزويلا في صلب المحور الذي تتموضع فيه إيران، وإن اهتزاز عرش مادورو يقلق القادة في طهران، خصوصا وإن مثل هذه المظاهرات لم تزل في حاضرة في الذاكرة القريبة لطهران، بعد مقتل الطالبة مهسا أميني على يدّ شرطة الأخلاق الأمر الذي أدخل البلاد في فوضى عارمة لأشهر.
تدرك طهران إنه أي خلل أمني على مستوى حرب مع إسرائيل قد تشجع الجماعات عل التحرك ضد النظام الحاكم.
ليس هذا وحسب، بل إن التحرك العسكري الأمريكي نحو المنطقة منذ بداية الحرب على قطاع غزة، ومع تزايد مستوى التهديد من قبل جماعة المحور، دفع بوزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن أن يعلن بوضوح إن الولايات المتحدة ستتدخل عسكريًا حمايةً لأمن إسرائيل.
لا تستطيع طهران المرور بشكل عابر على التهديدات الأمريكية، خصوصًا وإن محورها اليوم لا يظهر تماسكا على المستوى الدولي إلا في المواقف الكلامية والتصعيد الكلامي.
طاولة أوكرانيا
لم يزل الروسي منهمك في أوكرانيا، حيث يضع كافة إمكانياته العسكرية لأجل تحقيق انتصار ميداني يستطيع من خلاله أخذ كييف إلى طاولة الاستسلام. كذلك الأمر فالروسي يتحضر بشكل واضح للاستعداد لحرب مباشرة مع حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي بدأ مرحلة سباق التسلح، وسمحت بعض دوله منها ألمانيا للجيش الأمريكي بنشر صواريخ متوسطة المدى ذات قدرة على حمل رؤوس نووية تكيتكية، هذا ما دفع ببوتين لتهديد برلين التي ردّ مستشارها أن بلاده لا تخضع للتهديد الروسي.
كذلك الأمر لم تقرأ طهران أي رسالة جديًة من قبل حليفتها بكين حول دعمها العسكري لما يحدث لها ولوكلائها في المنطقة من اعتداءات إسرائيلية متكررة دون أن تضع حدّا لها.
فالصين عل العكس طالبت الحوثي في اليمن بوقف ضرباته في البحر الأحمر لأنّ ذلك يؤثر على حركة سفنه التجارية وهذا ما لن تقبل به بكين.
الحدثان الأمنيان خطيران لأنهما طالا قلب معقل الحزب والحرس الثوري الإيراني، ولكن مشهدية مادورو وتردد الصين واستعراض القوة العسكرية الأمريكية قد تدفع بالإيراني للتريث أكثر والاكتفاء بضربات حفاظا على ماء الوجه، وعدم توسيع دائرة الحرب إلا إن كان ذلك لا بدّ منه الحرب فستشهد المنطقة حربًا مدمرة.
كاتب لبناني