إذا استقلت الصحراء الغربية عن المغرب وأصبحت دولة ذات سيادة، فسوف تكون في فلك الجزائر، أي أنها ستكون في فلك روسيا والصين، ولا ينظر الغرب لهذا السيناريو بارتياح.
لندن ـ «القدس العربي»: أعلنت فرنسا بتاريخ 30 تموز/يوليو الماضي اعتبار الحكم الذاتي في إطار السيادة المغربية الحل الوحيد لنزاع الصحراء الغربية، نزاع يعود إلى الحرب الباردة، ويستمر مع التغييرات العميقة التي يشهدها العالم بظهور الصين كمنافس للغرب وتبلور حرب باردة جديدة. ويأتي القرار الفرنسي تكملة للقرار الإسباني والأمريكي، حيث يبدو أن الغرب قد بدأ يراهن على تأييد موقف المغرب، شريكه التاريخي.
ونزاع الصحراء من مخلفات الاستعمار الأوروبي في القارة الأفريقية، ويعتبر المغرب منطقة الصحراء جزءا من إمبراطوريته التاريخية، بينما تعتبر جبهة البوليساريو الصحراء منطقة تخضع لتصفية وتطالب بتقرير المصير. وتسببت أزمة الصحراء الغربية في حرب ما بين سنتي 1975 إلى 1991 بين المغرب وجبهة البوليساريو، ومنذ توقيع الهدنة سنة 1991 فشلت الأمم المتحدة في إيجاد حل للنزاع، حيث يتشبث المغرب بمقترح الحكم الذاتي، وتصر جبهة البوليساريو المدعومة من طرف الجزائر على تقرير المصير. وأصبح دور الأمم المتحدة هو تجديد مهام بعثة المينورسو في الصحراء الغربية. وانتهت الهدنة خلال تشرين الثاني/نوفمبر 2021 وتجري حرب منخفضة بين الجيش المغربي وقوات البوليساريو، أو بالأحرى مناوشات لكنها نادرا ما تخلف قتلى. وتسبب النزاع في تعطيل اتحاد المغرب العربي الذي يضم دول شمال أفريقيا ثم عرقلة تطور العلاقات بين الاتحاد الأوروبي مع المغرب العربي. وكل هذا بسبب التوتر المستمر منذ عقود بين المغرب والجزائر على خلفية الصحراء الغربية. ويعود ملف الصحراء الغربية لحقبة الحرب الباردة، وكان الغرب وقتها يكتفي بتقديم الدعم العسكري للمغرب حتى لا يخسر في مواجهة البوليساريو التي كانت تحصل على السلاح السوفييتي بفضل الجزائر وليبيا. ويبدو أنه خلال العقد الأخير، بدأ الغرب يفكر في دعم الحل المقدم من طرف الرباط وهو الحكم الذاتي للصحراويين في إطار السيادة المغربية. وكانت بداية هذا المسلسل مع قرار الرئيس الأمريكي السابق الجمهوري دونالد ترامب الاعتراف بالسيادة المغربية على الصحراء الغربية يوم 9 كانون الأول/ديسمبر 2020. ولم تغير إدارة الرئيس الديمقراطي جو بايدن القرار، حيث واصلت الاعتراف بالسيادة المغربية على الصحراء رغم تأكيدها على دعم الجهود الأممية. ومن غير المتوقع أن تغير أي إدارة أمريكية مستقبلية هذا القرار. والواقع أن مقترح الحكم الذاتي جاء من رحم واشنطن بداية التسعينات، ذلك أن بيل كلينتون، هو أول من اقترح الحكم الذاتي كحل لهذا الصراع. ولم تكن مبادرته ناجحة لأنه لم يبذل الكثير من الجهد، إذ كان منخرطا في تشكيل الخريطة الجيوسياسية الجديدة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي.
وكانت الخطوة الثانية الهامة هي اعتراف حكومة مدريد خلال نيسان/أبريل 2022 بأن الحكم الذاتي هو الحل المناسب للنزاع. وأعلنت باريس نهاية تموز/يوليو 2024 عن اعتبار الحكم الذاتي في إطار السيادة المغربية الحل الأنسب والوحيد. وتعتبر مواقف الدول الثلاث ذات رمزية كبرى، إذ تبقى الولايات المتحدة هي القوة الأولى في العالم، وموقفها بمثابة حسم نسبي. وتعد إسبانيا قوة استعمارية سابقة في الصحراء، وبالتالي، فموقفها يخدم الموقف المغربي. وتبقى فرنسا القوة الرئيسية في البحر الأبيض المتوسط والقادرة على دفع الاتحاد الأوروبي إلى دعم الحكم الذاتي. وأبدت دول مثل هولندا وألمانيا وفنلندا تفهمها للموقف المغربي. وإذا أيدت بريطانيا الحكم الذاتي، فسيكون لموقفها رمزية كبيرة لأنها ستكون الدولة الثالثة التي تتمتع بحق الفيتو في مجلس الأمن التي تميل إلى مقترح الحكم الذاتي. وهكذا، فتوالي مواقف الدعم هذه يعني أن الغرب قد بدأ يحسم بشكل كبير موقفه في هذا النزاع لصالح دعم مقترح الحكم الذاتي في إطار السيادة المغربية.
وأحد العناصر الأساسية المفقودة في هذه العملية هي الحاجة إلى انفتاح ديمقراطي حقيقي في المغرب لإقناع الصحراويين بجدية اقتراح الحكم الذاتي. وهذا يعني إنهاء الاعتقالات التعسفية للصحافيين ونشطاء حقوق الإنسان التي حدثت في السنوات الأخيرة، وتكثيف مكافحة الفساد وإجراء انتخابات تشريعية من دون استبعاد أي حراك سياسي. وإذا طبق المغرب ديمقراطية حقيقية، فإنه سيقنع الدول الغربية الأخرى بدعم الحكم الذاتي، وإذا أخرها فقد يدفع بعض الدول الغربية إلى التراجع. وكانت عواصم واشنطن وباريس ومدريد قد فاتحت المغرب في ملف حقوق الإنسان وارتباطه بالبحث عن الحل في الصحراء.
العوامل الجيوسياسية
وعموما، لا يمكن فصل دعم الغرب للمغرب في نزاع الصحراء الغربية عن بعض التطورات الجيوسياسية التي يشهدها العالم، والصراع بين الغرب والقطب الذي تقوده الصين وروسيا. وتوجد عوامل تفسر موقف الغرب وهي:
في المقام الأول، لا يرتاح الغرب لسياسة الجزائر الاقتصادية. فقد أصبحت الجزائر توظف ورقة الغاز مع روسيا للضغط على الدول الأوروبية، رغم أن السوق الوحيدة للجزائر هي أوروبا. في الوقت ذاته، تريد الجزائر تقليص العلاقات الاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي بمراجعة اتفاقية التبادل الحر. وفي المقابل تمنح الأفضلية لدول مثل تركيا والصين في التبادل التجاري. وتعتبر فرنسا الدولة الأكثر تضررا من السياسة الاقتصادية التي تنتهجها الجزائر. في المقام الثاني، تدريجيا، بدأت الجزائر تتحول إلى ما يشبه كالينينغراد جديدة جنوب الحلف الأطلسي على شاكلة كالينينغراد في شماله في بحر البلطيق. لقد رفعت الجزائر من مستوى التعاون العسكري والاستخباراتي مع روسيا بدرجة أعلى والصين بدرجة لا بأس بها. وأصبحت تمتلك ترسانة عسكرية قوية، ما جعلها من ضمن الـ25 الجيوش الأولى في العالم. ومنذ نهاية القرن الثامن عشر، لم يكن جنوب البحر الأبيض المتوسط يشكل خطرا على الضفة الشمالية منه، بل سقطت هذه الدول فريسة الاستعمار. لكن هذه القاعدة انتهت، ولا تمتلك فرنسا صواريخ بقوة الصواريخ التي لدى الجزائر مثل صواريخ إسكندر ومضادات الطيران إس 400.
في المقام الثالث، فشلت الدول الأوروبية مثل فرنسا وإسبانيا في تطوير علاقاتها مع الجزائر. وهذه الدول مضطرة إلى تبني الرؤية الجزائرية بشأن نزاع الصحراء الغربية إذا أرادت الحفاظ على علاقات اقتصادية وسياسية ودبلوماسية جيدة مع الجزائر. ولم تتمكن فرنسا من تحسين علاقاتها مع الجزائر، بسبب تأثير الذاكرة الاستعمارية من جهة، واستعداد باريس لدعم موقف المغرب في نزاع الصحراء من جهة أخرى. وعندما أعلنت مدريد دعمها للحكم الذاتي، سحبت الجزائر سفيرها في نيسان/أبريل 2022 كما سحبته من فرنسا عندما أيدت باريس الحكم الذاتي في تموز/يوليو 2024. وترى الدول الغربية استحالة تطوير علاقات مستقرة مع الجزائر، لهذا تميل إلى الحل المغربي.
في المقام الرابع، وهذا هو العامل الأهم، يشهد العالم تنافسا بين الغرب والكتلة التي تقودها الصين وروسيا يتحول إلى حرب باردة جديدة. وهناك سباق كبير بين الجانبين لتعزيز نفوذهما في مناطق مختلفة من العالم. وردا على استراتيجية واشنطن لتعزيز نفوذها في المحيط الهادئ، وخاصة بالقرب من الصين، تحاول بكين مع موسكو الحصول على قواعد عسكرية على ساحل المحيط الأطلسي. ويريد الغرب منع روسيا والصين من الوصول إلى المحيط الأطلسي، لأن هذا المحيط غربي منذ اكتشاف القارة الأمريكية. وبالإضافة إلى الثقافة المسيحية، فإن الغرب هو الفضاء الاقتصادي والعسكري الذي يربط بين جانبي الأطلسي، وخاصة الشمالي. والعواصم مثل باريس ومدريد ولندن وقبل كل شيء واشنطن مقتنعة بمنع وجود صيني وروسي مستقبلي على سواحل الأطلسي. لقد عانى الغرب ما يكفي من المتاعب مع الجيب الروسي كالينينغراد، ولا يريد كالينينغراد جديدة في جنوب الأطلسي. في العاشر من شباط/فبراير 2024 نشرت صحيفة «وول ستريت جورنال» في مقال تحليلي كيف أن واشنطن تفعل كل ما في وسعها لمنع الصين من إقامة قاعدة عسكرية في الأطلسي. وفي هذا الصدد، إذا استقلت الصحراء الغربية عن المغرب وأصبحت دولة ذات سيادة، فسوف تكون في فلك الجزائر، أي أنها ستكون في فلك روسيا والصين. ولا ينظر الغرب لهذا السيناريو بارتياح على الإطلاق، خاصة وأن سواحل الصحراء الغربية قريبة جدًا من الممر البحري الاستراتيجي: مضيق جبل طارق. ولهذا السبب سيعارض الغرب دائمًا إنشاء دولة مستقلة في الصحراء. وكان الرئيس الموريتاني السابق محمد ولد عبد العزيز واضحا عندما قال خلال كانون الأول/ديسمبر 2019 «دول أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية لا تريد قيام دولة جديدة تفصلُ بين موريتانيا وبين المملكة المغربية جغرافياً». وعلاوة على ذلك، وبسبب قلقه من النفوذ الروسي والصيني في منطقة الساحل، يعمل الغرب على منع نفوذ هذين البلدين من الوصول إلى موريتانيا، ولهذا السبب يمنح نظام نواكشوط امتيازات في التجارة مع الاتحاد الأوروبي وتسهيلات عسكرية مع حلف شمال الأطلسي. والغرب هو شريك المغرب في «المبادرة الأطلسية» التي قدمتها الرباط في كانون الأول/ديسمبر 2023 والتي تهدف إلى ربط دول الساحل بالاقتصادين المغربي والغربي من أجل تقليص النفوذ الصيني.
باختصار، لم يحسم الغرب نزاع الصحراء الغربية بعد انتهاء الحرب الباردة في عام 1991 وكان بإمكانه أن يفعل ذلك لأن الغرب كان القوة الوحيدة بلا منازع على الساحة السياسية الدولية. فقد ساهم فقط في وقف إطلاق النار عام 1991. والآن، مع بداية حرب باردة جديدة بقيادة الصين التي تهدد هيمنة الغرب وعرش الولايات المتحدة الأمريكية، يبدو أنه يريد أن يوفق تدريجياً بين الشرعية الدولية والاعتراف بالحكم الذاتي في الصحراء الغربية، بحيث يبقى الأطلسي غربياً وبعيداً عن هيمنة روسيا، وهي عملية ستستغرق خمس سنوات على الأقل، لأن الجزائر وروسيا بالأساس والصين نسبياً ستواجه هذا المسلسل.