من المسؤول عن الخلل التجاري العالمي وكيف يمكن إصلاحه؟

إبراهيم نوار 
حجم الخط
0

تعتبر التجارة آلية من آليات التعاون وتبادل المنافع. ولا تستطيع الدولة، أي دولة، أن تنتج لتغطية احتياجاتها كل شيء من الإبرة إلى الصاروخ كما أعتقد البعض. ويعود ذلك إلى أسباب طبيعية وبيئية وجغرافية، منها مدى وفرة أو ندرة مصادر المياه والمعادن واختلاف المواسم والفصول المناخية، إضافة إلى طبيعة المهارات البشرية من حيث كفاءة إنتاجية العمل. ومع أن دولة مثل الصين لم يتغير موقعها الجغرافي، ولم تتغير هباتها الطبيعية، وظلت أكبر دول العالم سكانا، حتى بدأت تسبقها الهند أخيرا، فإنها كانت شديدة الفقر تعاني من المجاعة في منتصف القرن الماضي، ليس لديها ما تصدره للعالم، بل كانت تستجدي غيرها للحصول على الغذاء والدواء والكهرباء. لكن الصين بما فيها، تغيرت فجأة بفضل رؤية سياسية وإرادة من أجل التغيير، فأصبحت خلال عقود قليلة مصنع العالم، وثاني أكبر اقتصاد على كوكب الأرض. وهي لم تكن لتستطيع أن تحقق ذلك بغير ثلاثة محركات رئيسية هي التصدير والاستثمار والاستهلاك المحلي. لكن الصين التي استطاعت مع نهضتها أن تحقق تراكما رأسماليا في عقود لم تتمكن غيرها من الدول تحقيقه في قرون، تعاني الآن من مشكلات بسبب نجاحها، يتعين عليها إيجاد حلول لها، حتى لا تدفع ثمن النجاح من حصيلة التراكم السابق أو تتعثر تجاريا وصناعيا.
ومع ذلك فإن الخلل الذي يعاني منه النظام التجاري العالمي لا يمكن أن تكون الصين وحدها هي المسؤولة عنه. بل أن محاولات بعض الدول بقيادة الولايات المتحدة، التي تعمل جاهدة على عقاب الصين بسبب نجاحها، تتحمل هي الأخرى المسؤولية عن فشلها في المنافسة وتحقيق القدر الكافي من المنافع والمكاسب التجارية التي ترضيها، من خلال التفاعل داخل نظام تجاري عالمي مفتوح خال من الحماية والقيود. وقد وصل الأمر بالولايات المتحدة إلى اتهام الصين بأنها تفرط في الإنتاج، ما يتسبب في تكوين فائض صناعي لديها، يتم تصدير منتجاته بأسعار رخيصة تقتل فرص منتجات الدول الصناعية الأخرى في كسب سباق المنافسة. ومع أن الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي وبعض الدول الصناعية الأخرى لجأت في السنوات الأخيرة إلى اعتماد نظم للدعم الصناعي المحلي، وتقييد دخول السلع الصينية المنشأ، فإنها لم تتمكن حتى الآن من تحسين أوضاعها التجارية بالقدر الذي يزيد القدرات التنافسية لمنتجات الصين. وفي الوقت نفسه، وعلى الرغم من المتاعب الحقيقية التي تواجهها الصين في أسواق الدول الصناعية، فإنها تحاول ابتكار طرق جديدة للتكيف مع العقوبات التجارية والحرب التكنولوجية والمالية التي تتعرض لها.
وتعتقد الولايات المتحدة أن السياسة التجارية والصناعية الصينية تمثل مصدر الخلل الرئيسي في النظام التجاري العالمي. بل إن وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين تعتبرها مصدر تهديد للنمو في العالم كله، وتوجه اتهامات قاسية للصين بأنها تتعمد خلق فائض كبير في الإنتاج المحلي، ثم تستخدمه في إغراق الأسواق العالمية بالسلع الرخيصة، التي يصعب منافستها في أسواق العالم، بما في ذلك أسواق الدول الصناعية الغربية. وهناك اعتراف في العالم كله بأن النظام التجاري العالمي يعاني من خلل يحتاج إلى إصلاح. ومع ذلك فإن هناك خلافات شديدة في هذا الجدل بشأن من هو الطرف المسؤول، وكيف يمكن إصلاحه. الأكثر من ذلك أيضا فيما يتعلق بالصين أن هناك حديثا بصوت عال في الإعلام الغربي وأجهزة صنع السياسة في الولايات المتحدة على وجه الخصوص بأن الصين ستفشل في تحقيق هدف النمو المحدد بنسبة 5 في المئة في العام الحالي، بسبب صعوبات التصدير، وفقاعة القطاع العقاري، وديون المقاطعات والحكومات المحلية.

أداء قوي للصادرات الصينية

ورغم الحروب التجارية والتكنولوجية التي تتعرض لها الصين منذ عام 2018  فإن أرقام التجارة تظهر حتى الآن قدرة عظيمة على مقاومة ضغوط الحصار والعقوبات، وهو ما يخالف التوقعات المتشائمة بشأن النمو، وذلك نظرا لأن التصدير والاستثمار والطلب المحلي تمثل قاطرات النمو الثلاث الرئيسية في الصين، فلا يستقيم الحديث عن تراجع النمو مع زيادة سرعة هذه القاطرات. وقد أظهرت بيانات الجمارك عن الأشهر السبعة الأولى من العام الحالي أن التجارة الخارجية للصين في السلع توسعت بنسبة 6.2 في المئة على أساس سنوي لتصل إلى 24.83 تريليون يوان (3.46 تريليون دولار أمريكي) وهو ما يمثل رقما قياسيا جديدا في حجم التجارة، وذلك بدعم من قوة التصنيع في البلاد وارتفاع الطلب الخارجي، فضلا عن تنويع شركائها التجاريين في الخارج.
في تموز/يوليو الماضي، ارتفعت التجارة الخارجية في السلع بنسبة 6.5 في المئة على أساس سنوي (مقومة باليوان) مع زيادة الصادرات بنسبة 6.5 في المئة، وتوسع الواردات بنسبة 6.6 في المئة. وكان معدل النمو السنوي للواردات والصادرات أعلى من 5 في المئة لمدة أربعة أشهر متتالية، وفقًا لأرقام الجمارك الصينية. هذه الأرقام كلها أيضا أعلى من معدل النمو السنوي المتوقع للاقتصاد ككل. هذا التقدم رغم القيود والعقوبات بات يثير قدرا كبيرا من ردود الفعل السلبية في الدول الأخرى، خصوصا تلك التي تعاني من عجز تجاري مزمن مثل الولايات المتحدة. وقد دخل على خط التحذير من خطورة الوضع في الصين عدد من كبار خبراء الاقتصاد من المتخصصين العاملين في مؤسسات دولية. ومع أن الحكومة الصينية تقدم أرقاما وبيانات تفصيلية تؤكد أنها تسير على الطريق السليم لتحقيق النتائج المستهدفة، فإنها تظهر انفتاحا ملحوظا على السماح بنشر الانتقادات وبيانات قصور الأداء الاقتصادي.
وفي هذا السياق فإن «مجموعة قوانغتشو للتنمية القابضة» و«منتدى كبار الاقتصاديين الصينيين» ومقره شنغهاي، نظما في نهاية الشهر الماضي مؤتمرا شارك فيه اقتصاديون أجانب، لمناقشة سياسات النمو والسياسات التجارية. ووجه لو تينغ، كبير خبراء الاقتصاد الصيني في مؤسسة نومورا اليابانية العالمية رسالة قوية إلى الصينيين خلال المؤتمر مفادها «إن النمو المرتفع للصادرات غير مستدام» وأن على السلطات النقدية الصينية خفض أسعار الفائدة على اليوان بمقدار «مناسب» لتشجيع الطلب المحلي، وبذل جهود أكبر من أجل تحقيق استقرار في سوق العقارات.
وطبقا لبيانات الجمارك الصينية فإن صادرات الصين حققت بنهاية حزيران/يونيو الماضي نموا سنويا بنسبة 8.6 في المئة، لكن لو تينغ توقع أن النمو الاقتصادي من المرجح أن ينخفض ​​إلى أقل من 5 في المئة، وقد يعود إلى الصِفر بحلول نهاية هذا العام أو العام المقبل، مستندا إلى أن مؤشرات الدورة الاقتصادية العالمية، والنزاعات التجارية المتزايدة وهي من بين أسباب ضعف الطلب على السلع الصينية محليا وخارجيا. ومع ذلك فأن أرقام التجارة تشير إلى أن الفائض التجاري للصين بلغ 99.05 مليار دولار أمريكي في حزيران/يونيو، وهو أعلى مستوى منذ بدء تسجيل إحصاءات التجارة في عام 1981 في حين بلغ العجز التجاري للولايات المتحدة 96.8 مليار دولار أمريكي في الشهر نفسه.
هذه المقارنة تعكس الخلل الشديد في النظام التجاري العالمي، وأوضح لو في مداخلته في مؤتمر «مجموعة قوانغتشو» أنه «نظرا للاختلال التجاري الخطير، فإذا انخفضت قيمة اليوان بنسبة كبيرة أو بسرعة، فلن يكون ذلك حلا مناسبا للاختلال التجاري، ولن يكون مناسبًا لإدارة علاقات الصين مع الدول الأخرى». ودعا رئيس قسم الصين في مؤسسة نومورا اليابانية إلى خفض أسعار الفائدة بمقدار «مناسب» لأن ذلك من شأنه أن يساعد على خفض تكلفة قروض الرهن العقاري المستحقة، وتخفيف الضغوط على أصحاب المساكن. وأضاف أن استقرار سوق العقارات في الصين يظل أمراً أساسياً لأن هناك مجالاً لا يزال متاحاً للصناعة للتطور في السنوات المقبلة بسبب الحاجة إلى التوسع الحضري. وعقد لو مقارنة بين الوضع في السوق العقاري لكل من الولايات المتحدة والصين، وقال إن البنك المركزي الصيني يجب أن يتعلم من أخطاء مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، وألا يتأخر في تخفيض سعر الفائدة عندما يتطلب الأمر ذلك. واختم لو تينغ مداخلته بملاحظة ديموغرافية ذكية بشأن ارتباط زيادة الطلب المحلي بالحاجة إلى «تشجيع الإنجاب» وضرورة تقديم إعانات إلى أصحاب الدخل المحدود.

الصادرات إلى عالم الجنوب

قفزت صادرات الصين إلى الجنوب العالمي من حوالي 90 مليار دولار شهريًا في عام 2020 إلى 150 مليار دولار شهريا في الوقت الحاضر، أو بزيادة مقدارها 60 مليار دولار شهريًا. ويظهر تحليل أرقام التجارة أن ما يقرب من نصف هذه الزيادة في صادرات الصين الى دول عالم الجنوب، أي 30 مليار دولار شهريا، تدخل إلى الولايات المتحدة على هيئة واردات أمريكية من دول ثالثة. إن تجنب التعريفات الجمركية من خلال تمديد سلاسل التوريد الصينية إلى العالم النامي، يفسر حوالي نصف نمو صادرات الصين إلى الجنوب العالمي. وقد كانت صحيفة «آسيا تايمز» أول من وثق هذا التحايل الكبير على التعريفات الجمركية الأمريكية في تحليل نُشر في الثالث من نيسان/إبريل عام 2023. ومنذ ذلك الحين، نشر البنك الدولي وصندوق النقد وبنك التسويات الدولية ومعهد بيترسون الأمريكي دراسات توثق النتيجة نفسها، وهي أن «الولايات المتحدة تعتمد أكثر من أي وقت مضى على سلاسل التوريد الصينية» ولكن عبر طريق ثالث.
وقد نجحت الصين خلال السنوات العشر الأخيرة في الهيمنة على صناعات تكنولوجية متقدمة أصبحت تسهم حاليا بما يقرب من نصف الزيادة في صادراتها إلى دول الجنوب العالمي. ومن أمثلة هذه الصناعات السيارات الكهربائية، وصناعة البطاريات ومعدات الطاقة الخضراء مثل ألواح الطاقة الشمسية وتوربينات الرياح، والبنية التحتية الرقمية، والبنية التحتية للنقل، والمعدات الإلكترونية. المثير للدهشة هو أن عددا كبيرا من خبراء الصين في الولايات المتحدة يعتقدون أنها في مرحلة انحدار، وأنها ستواجه فشلا اقتصاديا كبيرا تحت تأثير العقوبات التجارية، والاعتماد المفرط في تحقيق معدلات نمو مرتفعة اعتمادا على زيادة الصادرات والتوسع في الأسواق الخارجية. وهناك قدر كبير من الإجماع، خصوصا في دوائر اليمين الأمريكي المحافظ، تم التعبير عنه في كتب بأقلام بيثاني ألين من «أكسيوس» ودان بلومنثال من «معهد «أمريكان إنتربرايز» فضلا عن مجموعة من الخبراء الصغار، يؤكد أن الصين في حالة انحدار إن لم تكن أزمة، وأن القيود التي تفرضها أمريكا على تصدير الرقائق المتقدمة من شأنها أن تحبط طموحات الصين التكنولوجية، خصوصا في حال نجاح دونالد ترامب الذي يروج لرفع الحد الأدنى للرسوم الجمركية على الواردات من الصين إلى 50 في المئة.
في حقيقة الأمر، لم تعمل الصين على الالتفاف حول العقوبات التكنولوجية فحسب، بل عملت أيضا على الالتفاف حول التعريفات الجمركية الأمريكية. وكانت لديها خطة تم التعبير عنها على مستوى عال في مبادرة الحزام والطريق، لإعادة توطين أجزاء من قطاعاتها الصناعية في بلدان أخرى في عالم الجنوب، ومنها بلدان قريبة جغرافيا وتجاريا من الولايات المتحدة مثل كندا والمكسيك وفيتنام. وبدلا من أن تتعرض الصين لصدمة اقتصادية نتيجة العقوبات التجارية والتكنولوجية، فإن الطرف الآخر هو الذي واجه الصدمة. وتثبت تجربة الحصار التكنولوجي والتجاري المفروض على شركة هواوي الصينية، أن الشركات الصينية المستهدفة أصبحت أكثر اعتمادا على نفسها في تحقيق طفرات تكنولوجية سريعة بكفاءات محلية من دون حاجة إلى التكنولوجيا الأمريكية. وقد كانت الولايات المتحدة تهدف من حصار هواوي إلى عرقلة انتقال تكنولوجيا الاتصالات الصينية إلى الجيل الخامس، فكانت النتيجة هي أنه بعد خمس سنوات من بدء الحصار أصبح لدى الصين نحو 3.8 مليون محطة أساسية لشبكات الجيل الخامس، في حين لا تمتلك الولايات المتحدة سوى 100 ألف محطة. وتعلمت هواوي كيفية بناء محطات أساسية باستخدام شرائح من الجيل الأقدم تم تصنيعها في الصين. وجاءت الصدمة الثانية بعد أن مارست واشنطن ما اعتبرته «الخيار القاتل» ضد كل شركات التكنولوجيا الصينية وليس شركة هواوي فقط في عام 2022. وبعد عام واحد أطلقت هواوي هاتفًا ذكيا يعمل بتقنية الجيل الخامس «ميت-60» بشريحة متقدمة تم إنتاجها في الصين من خلال عملية حل بديل اعتقد المنظمون الأمريكيون أنها مستحيلة.
وبعد فشل سياسة الحصار التجاري والتكنولوجي والعقوبات، تروج الولايات المتحدة الآن فكرة أن الصين تتعمد تحقيق فائض إنتاجي تغرق به العالم، وتطالب من خلال قنوات الحوار الدائر بين البلدين، بأن تلتزم الصين بتخفيض إنتاجها! المعضلة التي تواجهها دول التحالف الغربي بشكل عام تتمثل في أن الصين استطاعت خلال السنوات الماضية تطوير تجارتها بمعدلات أسرع مع دول رابطة آسيان، ومع دول قارات العالم المختلفة وعلى رأسها دول الجنوب العالمي مثل دول مجموعة بريكس والخليج وتركيا والشرق الأوسط والأرجنتين والبرازيل وغيرها. ويتفق الخبراء على أن نجاح الصين في التصدير في عالم الجنوب يعكس نوعا جديدا من التجارة الثلاثية الأطراف التي تحركها التعريفة الجمركية بنسبة 25 في المئة على حوالي 200 مليار دولار من الواردات الصينية التي فرضتها إدارة ترامب في عام 2019. وتشحن الصين المكونات والسلع الرأسمالية إلى المكسيك وفيتنام والهند ودول أخرى، والتي تقوم بعد ذلك بتجميعها في منتجات نهائية للبيع في الولايات المتحدة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية