تعتبر الكتابة المحلية عن أولئك الذين غيّبوا وهمشوا ضمن تاريخ عالمي لا يحمل تطلعاتهم، أو بالأحرى التأريخ عن الشخصيات والرموز التاريخية بكل أبعادها التراثية والثقافية والاجتماعية، عملية في غاية الأهمية، تجعل من التأريخ قصة تدور رحاها على جدلية الإنسان بوصفه جوهر الوجود، ولنقل أنّ التفكير في المهمّشين والمنفيين قسرا، بداية الانتصار عما يستحضره الروّاة من تلفيقات وسرديات مرتبطة بشكل مخيف بالصورة الاستشراقية للآخر، فنحن لدى الآخر كونه مهيمنا على الحضارة بقيمها الإنسانية، لا يمكننا حتى قبول دخول التاريخ، حيث تكون الكتابة العالمية المرآة التي تعكس تاريخا أحاديا لمختلف أطياف الجنس البشري.
وضمن هذا الصراع الذي يزداد ضراوة مع جنوح الإمبراطورية إلى القوة لتحقيق مكاسب مستقبلية، يبقى السؤال المهم الذي يحيلنا إلى ما قدّمه الكاتب والباحث الجزائري محمد مفلاح في كتابه الأربعين والموسوم بـ»سيدي امحمد بن عودة» عن مدى أهمية «تخليص الأسطورة» التي تستنسخها قوى الهيمنة لمواجهة أيّ انفلات عن السائد، وهل بالإمكان مضاهاة الكتابات الموجّهة مع ما تشهده الساحة العربية من احتقان تجاه كل ما هو مختلف، موروث، وإنساني بالضرورة؟ وهذا ليس تقليلا من شأن الشعوب العربية التي رفعت رايات الحرية عند استحقاق اللحظة التاريخية، بل عملية تفكيك وجرد لتجاربها الثورية والتاريخية، التي تم استدعاء رموزها حين صاح بعضها «ارحل» ضد «رعاة التاريخ» للظفر بموجات التحرر، عبر اختزالها في خطابات عنصرية عنيفة، وهذا المقال إنّما بضعة أسطر تلقي ظلالها على آليات التهميش ودوافعه التي طالت الأسطورة، وهي تقارع البذخ المعرفي والسرد التاريخي الذي يحتويه كتاب محمد مفلاح، على أمل أن تتحقق الغاية في استعادة «صوت الشخصية الخافت» والمنفي في غيابات التاريخ العالمي.
التهميش الذاتي والكتابة الاختزالية
يأتي تهميش ما يفترض أنّه أسطورة ذاتيا، حين يفتقد الوعي للأبعاد المتباينة للشخصية والرموز التاريخية، والتسليم المطلق بما ترويها الحكايات الشعبية والأشعار المحلية، ويرجع ذلك النكوص في العجز عن فهم «التاريخ المحلي» الذي كان في سياقه يرسم الملاحم والثورات، أو افتقاد الرغبة للاعتراف به، كونه مشاهد فولكلورية يمكن إقصاء بعضها من المسرح العالمي، للوصول إلى أسطرتها في صورة مقدسة، ومع أنّ نَظْم الأشعار والقصص والحكايات المتخيلة والمزارات، كانت ترسم لوحة معتمة بلونها الطقوسي غير القابلة للقراءة ولا الكتابة عنها، إلا أنّها تدين للتاريخ بسلب «سلطان القبلية» صوته الإنساني ومكانته المعرفية. يمضي محمد مفلاح قُدما لتفكيك ما كُتب عن شخصية تاريخية تربعت مكانة السلطان لدى قبيلتها لقرون متتالية، ألا وهو سيدي امحمد بن عودة، الملقب بسلطان فليتة الهلالية، وتصدره لتلك المنزلة الروحية لم يكن من قبيل الصدفة، أو من نسج الروايات والأشعار المحلية، وإنّما جاءت لتضحياته في مواجهة الاحتلال الإسباني بعلمه وجهاده وقبيلته، وقد نجح الباحث في الخروج من نفق السرديات المضللة والدراسات الموجهة عن سيدي امحمد بن عودة، وقبيلة فليتة، فادعاؤهم برهبانية الشيخ، ونسخ الحكايات عن لقائه بعبد الرحمن الثعالبي، هو ضرب من التوهّم الشعبي والأكاديمي، الذي حملته الدواوين وأسفار الباحثين الجزائريين، كما أنّ التغييرات التي طرأت على تاريخ ميلاده كانت تمرر بسهولة دون التمحيص والتدقيق فيها، ما تطلب من الباحث الرجوع إلى الجذور التي تناقلتها الأشعار عن مربيته لالة عودة.
إنّ استحضار الأسطورة في صورة متصلبة وضمن قوالب جاهزة، يمثل التعبير المتناهي لفكرة التاريخ العالمي والشامل لمناحي الحياة الثقافية والاجتماعية، فالسلطان وقبيلته فليتة الهلالية مع أدوارهما الثورية في معركة مزغران ضد الإسبان وتبجيل الخليفة العثماني للقبيلة وسلطانها، إلا أنّ هذا التاريخ لا يمكنه أخذ مكانة بين رفوف التاريخ الوطني، إذ يطبق الإقصاء والتهميش بقوة على ما يفترض أنّه جزء متمم للتاريخ والذاكرة الوطنية، وهذا ما لاحظه الكاتب حين خصص فصلا كاملا للكتابات المحلية عن سيدي امحمد بن عودة وقبليته فليتة الهلالية، واستخفاف البعض بثورات القبيلة ضد الاحتلال الإسباني والفرنسي ودعمها للثورة الجزائرية، وعدم رضوخه المطلق للبايلك، كان ينسج عن الشخصية التاريخية طابعا لاهوتيا، كونها ذات بعد ديني واجتماعي تقليدي، فالثوري يفترض الاعتراف بالجغرافيا التي تعيق إنتاج تاريخ كلي، وعدم الاعتراف بها يكرس «الخصوصية البيضاء» التي بموجبها يتم اختزال الكتابة في ميثولوجيا الهوية أو احتوائها داخل أسوار تأويلية متصلبة.
الأسطورة البيضاء والكتابة الاستعمارية
حين نشرت كوليت أوزاس بحثها عن تسمية قبيلة فليتة بهذا الاسم سنة 1957، كان الالتفات إلى بحثها نوعا من الوثبات التي تنفي النظرة الدونية للآخر، في ظرف تاريخي كانت البلاد تعيشه زمن الاستعمار الفرنسي، وثورة جزائرية بلغ صداها العالم، ومع أنّ الجغرافيا التي تلاحقت عليها وسائل التهجير والتهميش والعنف بشتى أنواعه كانت منطلقا للكتابات التحررية ضد قوى الهيمنة الغربية، إلا أنّها أزاحت مع تسارع وتيرة الحركات التحررية الخطوط العريضة للتاريخ العالمي، لترسم اللحظات الأكثر إيلاما وعنفا في وجدان الأمة الجزائرية، ومثلما كانت القنابل تدوي في الحواضر الكولونيالية من طرف الثوار، كانت القبائل ترسل أبناءها لمقارعة الاحتلال الفرنسي، ومنذ اللحظة التي وضعت الكولونيالية أقدامها السوداء على الأرض، كانت سماء الجزائر يغزوها صوت البنادق وغبار خيّالتها.
وفي الوقت الذي أغفل فيه المستشرق لويس رين تقسيم الأعراش الخاص بقبيلة فليتة الهلالية، باعتماده على تقسيمات العهد العثماني للقبائل، ضمن نظام الغنيمة، فإنّ نظرته لها لم تقتصر على عدم استيعاب للبنية الاجتماعية والثقافية للفاعلين التاريخيين حينها، بل تخطت لتغدو عملية انكار للآخر الثوري، الرافض لكل ما هو استعماري، والسكوت عن مآثر المقاومين وبيعتهم للأمير عبد القادر، هو تضمين قسري للملكية العامة، التي افترضها المستعمر بقوانينه الجائرة، ومنها قانون المشيخي 1863 وتقسيم الأعراش إلى دواوير بلدية.
يعود بنا الكاتب مفلاح إلى العنف الضمني الممارس على القبائل ورموزها التاريخية، التي كانت وما زالت تحمل في مخيّلة حواضنها الاجتماعية قيما دينية وأخلاقية، وهو بذلك إنما يفضح الخطاب الاستشراقي العابر لأي شيء من شأنه أن يجعل الأسطورة حقيقة إنسانية ذات بعد تاريخي مستقل عن وهم الكولونيالية، التي تفننت في نسج التلفيقات والسرديات المضللة، ونقده لكتابات دماغان وتريملي وكوليت أوزاس ولويس رين التي لم تتحمل البعد الإنساني والثوري لسلطان فليتة، بقدر ما رسخت فكرة الهيمنة والاستلاب لتنخرط في عملية تلبيس جديدة بأزياء الحضارة الغربية، بعد أن أفرغت تاريخ مستعمريها النضالي من كل ما هو ثقافي وإنساني وحضاري، واستيلائها على تاريخ المستعمَر باعتباره ورقة بيضاء في فضاء التاريخ العالمي، يمكّنها من الكتابة عنه بنظرة عنصرية وفوقية. وفي سبيل تخليص الأسطورة من استغلالها من طرف قوى الهيمنة، وحشرها في قوالب جاهزة ومتصلبة، كان العمل على تحرير الوعي من خطاب الكولونيالية، أو التاريخ المهيمن على نواحي عدة من حياة المهمشين والمقموعين، وحتى الفاعلين الرئيسيين في زمن ما، مرهون بسياسات الذاكرة والتوافقات الاقتصادية، فالأسطورة لم تكن بذلك القدر من «المخيال الشعبي» ما لم تنسج حولها الحكايات والقصص والأشعار لتكون فوق التأريخ، ولعل فكرة تهميش الأسطورة مع ما تحمله من دلالة حين يتعطل التفكير في ماهيتها، إلا أنّها تنطوي على رفضنا للاعتراف بها كشخصية مشاركة في صناعة تاريخ البشرية.
أحد أولئك الذين يرفعون أصواتهم لاستعادة الشخصية، بدل الأسطورة عبر تحليلها وتأريخها، كتاب محمد مفلاح المتعلق بسيدي امحمد بن عودة وقبيلة فليتة، وهذا البحث لا ينزوي في التحليل المركز على الهوية القبلية، ولا الانتماء الضيق المحصور في قوقعة المشاريع اللاهوتية، بل إنه يتجاوز بتأريخه المحلي ليطال الأصوات الرافضة للنظر إلى الأسفل، حيث يكون الأسفل بمثابة اللبنة الأولى لكتابة تاريخ وطني متنوع، في وقت تلوح في الأفق سياسات الذاكرة، التي باتت تصدم صناع القرار وتربك الباحثين، وحينما يتأتى التفكير في ضرورة صياغة حقيقة مختلفة كليا عن الانطباعات التي تناقلت تاريخ الأسطورة، فإنه من الصعب الإقرار بجدوى إلقاء حجر في بحر من الأكاذيب والتلفيقات الكولونيالية، مع هذا القبول المطلق للمحلي في قدرة الغربي الذي لم يكتف بالتعامل مع الشخصية التاريخية كتجربة ضمن فضاء مفرغ، بل نفاها إلى حيث لا مكان لها في التاريخ الكلي، يحدث ذلك في كل مرة مع رضوخ جمهرة الأكاديميين للتعبئة السياسية، وهي تُجهز على أيّ كتابة مستقلة للفاعلين وغيرهم ممن همّشوا، في انتظار ما سيكتبه بن يامين ستورا، أو أولئك الذين يعجزون عن لف العمامة على رؤوسهم.
يصطبغ نقد محمد مفلاح، وإن كان في جزئه متعلقا بشخصية سيدي امحمد بن عودة، كونها همّشت بأسطرتها حين أعيد إنتاج تاريخها وفق المتخيّل والمستلب، بفهم عميق وحس إبداعي للموروث الشعبي وخصائصه وعلاقته بالتأريخ الوطني، والكاتب وإن أبدى انفتاحا على كل نقد، فإنّه في الوقت ذاته طرق باب النقاش حول الرموز التاريخية الأخرى التي غيّبت عن تاريخنا الوطني، والقول بأن الآخر المفقود في العالم الثالث لا يملك الأهلانية «الأهلية الإنسانية» لكتابة تاريخه، فهو بذلك إنّما يلقي الأمـة في غياهب الأسطورة، والحق أنّ الأصوات التي أُسكتت، باتت اليوم مستغرقة في البدايات التي عنونت مستقبلنا، والسلطان والقبيلة بماضيهما الملحمي والمعرفي، تم الإلقاء بهما في وهم الأسطورة، حين تغلّبت قوة الصراع على قدرة التعايش، والرغبة في الإقصاء، على الحق في التباين.
كاتب جزائري