ما الشعر، ما وجَع الكِتابة، ما الرؤى؟
تلك كانت حيرة الشاعر منذ عرف الإنسان الشعر، وقد نجح نزار قباني في صياغتِها باعتماد الاستفهام البلاغي المعبر عن كل ما يمكن أن يقوله الاستفهام البلاغي من معانٍ متناقضة أحيانا: الحيرة والوضوح، الدهشة والألفة، التعظيم والتقليل من الأهمية.
في لحظة إلهية معينة، يعيشها الشاعر (وليس هو من يقررها أو يختار موعدها) يدرك أنه منذ البدءِ اختارته الحياة ليكون شاعرا. الشاعر الحقيقي لا يختار هو أن يكون شاعرا، بل ينساق وراء نداء صوت دفين في أعماقه ليكون شاهدا على تلك الحياة وعلى عبوره العابر فيها.
الحياة مدائن ماء يعبرها الجميع، لكن الشاعر هو الكائن الوحيد الذي يتوقف عندها، ويتأمل في صورتِها ويحاول أن يفهم طبيعتها وتركيبتها. ويحاول أن يدون لها ما يليق بها من صفات، انتصارا للإنسان فيها. في هذا المكتوب الشعري «مدائن الماء» لمعز ماجد موجز وجودٍ. رحلة حياةٍ يحاول الشاعر قولها بأقل ما يمكن من الصور وبأبلغ ما يكون من التكثيف. وما الحياة غير هذا الثالوث من المكونات: مكان وزمان وذاكرة. وما الذاكرة غير هذا الكائن الذي يرتب وهو يستعيد مشاهدَ حياته المنثورة هنا وهناك على غير نظام، وكأنه يحاول أن يعيد توازنا مفقودا لهذا العالم.
في بنية الكتابِ وفكرتِه
الكتاب ثلاثة أبواب: بابٌ للزمان، والزمان شتاء يدعو سائرَ الفصول بالتناوب: ربيعٌ (حيث «نبات القراص» و»الحمائم» و»نبات الأقحوان».. والشاعر «منعتق من فك العالم») لكنه ربيعٌ قديمٌ من ثنايا الذكريات ينجم، كالصيفِ تماما، حاضرٌ في أيام الشتاء ولياليه بِـ»كبرى رياح السهوب الصماء» و»صمت الليالي الطويلات») صيفٌ يطل في الذاكرة مشاهدَ قصية غائمة تحن إليها الروح وتشتاق، («اللهوَ ببياض الرمل» و»القهقهاتِ والأسماكَ المعروضةَ، والضياءَ الدافئ ونوافذَ ساعات الظهيرة وعصيرَ الليمون» كل ذلك يتلألأ في الذاكرة ومضا فيمضي إليه الشاعر / الطفل مدفوعا بـ»قلق الروح»).
أما الخريف فشهر أكتوبر/تشرين الأول هو الذي يعلن عنه، «أكتوبر الميتمي» حيث «كل شيء يأفل كما تأفل شموسٌ بعد أن كانت آلهةً لشعوب عاشت وانطفأت في مجرات بعيدة.» ثم يكون الشتاء، بـ»ظلاله تحت الأيادي ونيران القلب تأكل الزمن» و»أول الشمس فوق أراضٍ عذارى تخال خيوطها نسيج البساتين» و»شجرة تخضر حبا وسكينة ولا تخشى قدوم الأعاصير»..
هذا باب الزمان، أو باب الفصول المتعاقبة على غير نِظام، لا نِظام إلا ما تمليه ذاكرة الشاعر وحالة القلق التي تحيا فيه وتتحرك بكل ما في القلق من سأم لا يبرأ منه الخاطر، إلا حين ينتقي من الأزمنة أنصعها حضورا في الروح وأكثرها ملاءمة لجوهر معدنِها المجبول من الحنينِ ككل كائنٍ حي مطاردٍ بنصال الزمان السادرة.
ثم يكون باب المكان، حيث الجنوب بضيائه وظلمائه، ببهائه وشقائه. جنوب الوطن الصغير، تونس، (أو هكذا نَحزر) حيث «الشموس تحوم فوق أرضٍ يبابٍ و»أطفال يتفوهون بكلام نزِق» و»الوطن كلابٌ سائبة تنهش جثثا هائمة وزفةٌ بلا وليمة يتراقص فيها الأوغاد». والمحلوم به فيه «نومة الأموات». أما المدينة فلا تبالي، «تبتلع موتاها ثم تمضي». والوطن الآخر هو الوطن الأكبر، العالم: مومباي، وإسبانيا حيث ولد الشاعر لوركا وحيث ينام. (و»حيث جرام واحد من الزعفران النقي يساوي على ما يبدو ثمن ما يكفي لإطعام عائلة دليلي لأكثر من أسبوع» وحيث «تمزق رصاصةٌ ارتعاشاتِ فجر البراري» و»تخضر الأعشاب رعبا وهي تشرب روح لوركا المسكوبة قربانا لوحوش ضارية»..) فمنذ متى «فقدنا صوابنا إلى هذا الحد؟» والمكان أيضا «بحر العرب» الذي «ندخله كما ندخل اتساعَ العدم» وهو «المدينة الأنثى، حارسة الحِقَب الغابرة، تدخن الزمن وتستنشق غبار السماء المصفحة… سرابٌ شرقي يضيء كما تلمع الكبائر ويقهقه كوقاحة رائعة». هكذا يكون المكان على اتساعه منسجما، يحاكي حالة الإنسان المهمش المطعون في إنسانيته والمحروم من صفتِه التي حل بها في العالم. ألهذا يلوذ الشاعر بالذكرى؟ ملاذ هي من وحشة العالم والطرق التي ظل الشاعر يعاين فيها كل أسبابِ القلق الذي يلف العالم ويكتسح الروح الحي المنتبِهَ.
آخر الأبواب للذكرى
والذكرى «رياح بهجةٍ آفلة» «خطوة دائرية حول مدائن للماء». دورة تاريخ هي إذن، سياج الذاكرة وأشجارها. تحضر فيها أسماء قادة حرب: تيمورلنك، بربروس، حنبعل، وقلب هكتور المطعون، وكتابٌ لأرسطو ولحية سقراط..
أرواحٌ قلقها أبدي. والشاعر واحدٌ منهم، جوّاب آفاقٍ، والخطوة ترحالٌ بين مدن متباعدة شرقا وغربا، شمالا وجنوبا. كلها مرايا ذاكرة حيثما حل الشاعر من إسطنبول وأحيائها، إلى المدينة المنورة حيث التابوت، مرورا بمالطة وصقلية وقرطبة وسان فرانسيسكو. كلها تختزلها «لحظة واحدة داخل ذات الشاعر وخارجها» لحظة الوعي الصريح ببؤس العالم أو بؤس الشاعر فيه. ألهذا يحاول الشاعر تبديل ماهيتِها فإذا بها «مدائن ماء».. «تطوى تحت نعالِ من أغواه السعي وراء أثر الآلهة».. وإذا بها أقرب ما يكون إلى «أفخاذ الذاكرة تجري بينها يَرَقات». والقلق له أسبابٌ يعلن عنها الشاعر صريحة واضحة: الوعي بالعبث، أو باللاجدوى من كل هذا الركض في مدائن الماء، حيرة اليائس مما يكون بعده، المحبَط بفعل هذا الانقطاع المباغت للضوء، ضوء الحياةِ في الجسد المنهك، لهذا يصرخ الشاعر متفجعا: «من ذا الذي يشربها اليوم من يدي إذ أموت؟/ من ذا يحييني وقد أفنيت زمني/ في إرضاء إله قاس؟/ تحييك مياه غيرك/ تقول آلهة من خلف عطرها الغائم / ثم تمضي مجللة بغوايات الظمأى / إذ تقودهم إلى الهلاك»
حوار الصوت والصدى يعتركان في خَلَدِ الشاعر، فلا هذا يطمئن ولا الآخر يريح من حرقة السؤال ووجع الغيابِ المنتظر. لهذا يحتمي الشاعر بالذاكرة، والذاكرة تأخذ مسارا ارتداديا، إلى الماضي البعيد تركض، حنينا وإذهابا لحيرة الركض في مسالك التيه وأوجاعها.. والطفولة هي الملاذ.. حنينٌ يائسٌ، ربما، إلى زمنٍ ولى ولا سبيل إلى استرجاعه.
في لهو الطفولة خلاصٌ إذن، أو في محاكاة لهو الطفولة والاكتفاء بما يراه الطفل من وجوده: اللحظة الراهنة المتجددة في حنين يبعثها جارحة لهذا القلقِ الثقيل. حركتان تختزلان حالة الانطلاق والانعتاق: «المشي على العشب حافية» و»الضحك مع الطفل اللاعب بالماء في ضياء الهاجرة». الأولى خارجية ظاهرة تشي بالقوة والعنفوان واللامبالاة، والثانية باطنية انفعالية لعلها وليدة الأولى وباعثها في الروح. هكذا قد تصفو الحياة ويبرأ الكائن الذي يطلب الحياة من جراحها ومن لهاثِه فيها دون أن يظفر منها بالمشتهى المرغوب. هذا إذن وصف الكتاب، فكيفَ نتأول ما فيه من مساربَ للضوء. وعلى قدر قريحة القارئ وحساسيته للضوء يكون الفهم ويكون التمثل لكل ما لم يكن صريحا عاريا.
محاولة فهم عالم الشاعر واستيعاب رؤيتِه
حين تضيق بالشاعر الحياة، يكتب ما يراه بعينِ الطفل القابع في أعماقه. ينظر إليه الطفل وعلى ملامحه ابتسامة الابن البار بأبيه. ينتظر أن يلوذ به حين تضيق به مسالك الحياة وتعلو أمام قدميه شِعابها، لا يسع ما في قلب الشاعر إلا قلب طفلٍ. ولا يرى الشاعر الحياة على حقيقة معناها إلا من خلال عينِ الطفل.
ذلك هو الشاعر، وتلكَ خلاصة القول في سيرتِه ومسيرتِه: تأرجحٌ مستمر، منذ بدءِ الوعي بواجب الشعرِ حتى آخر سعيِه في دروبه، على الحافة، ينوس كالمتوازن على الحبل المشدود فوق الهوة ويتقدم كمن يمشى على أنامل روحه في طريق من الجمر والحصى والشوك؟ ولا ينجو الشاعر من وطأة هذا المسير المضني إلا متى استعاد طفولتَه المهجورة، أو المفقودة. تهدأ الروح حين حلولٍ في مدار تلك المرحلة، أعني حين يخنس الجسد ويمحي الوعي القاتل بالحياةِ التي لا تقبل من يطلب الحياة من جهة الروح دون أن تماطل وتعذب. هذا الطفل الذي يحاوره الشاعر في قصيدة ذاكرة، ويحاول حجبَه بالمجاز والرمز كما حاول أسلافنا القدامى حجبَ الآلهة وراء رموز يعتمدونها وسيطا مانعا من ابتذال المقدس المتعالي.. الطفل ابن روح الشاعر، وخالق الضوء في تلك الروح. الطفل منشود الشاعر ومطلبه، إنه «اليعسوب الذي ضيعته رِياح البارحة / (ف) متى يهتدي مجددا / فيحط على غصن قلبه / كما كان عهده به / عندما كان أباه» (نص ذاكرة)
وما دل أحدٌ الشاعرَ على جهة الشعر. يولد الشاعر من صلب ابنه الطفل. يعرف روحَ الشعر دون أن يسميَه. يتأمل الشاعر الكلماتِ الضوءَ، ثم يقول وكأنه لا ينطق بالحروف: كنت طفلا حين مشيت على أنامل الروح. لكنهم كانوا معي جميعا: « كبرى الأحزان.. جنون الذكريات المر.. الأرواح المشوهة.. أرواح الوجوه النضِرة.. أحقاد الفراديس المحروقة.. أحقاد الجنود الضحايا… المبتورين مثل شحاذين، المكسورين مثل عشبة على مسارات الانتجاع..».
هكذا يضيق بالشاعر المدى. والمدى زمنٌ ممتد لكنه مغلقٌ كالأفق الدائري يطبِق على الروح، وهو أيضا مكانٌ واسعٌ يركض فيه الشاعر، يستكشف جهاتِه الست فلا يرى غير ملامح الإنسان البائس المخذول، مرايا هو المكان لا تعكس إلا هذا البؤس الإنساني المتعاود على الزمن. لذلك يصرخ في كل من حوله كالنبي الفاقد ليقين النبوة: «فلتغرب وجوهكم مع الروابط المفصومة في تشابكات الذكرى، فلتذهب أصواتكم المنسية مع انسيابات الأيام، ولتولد أخيرا، مواسم الحب القادمة».
ومواسم الحب المقبلة هي ذاكرة الزمن الآتي. بلاغة الرسم الذي ينفتح عليه نص «ذاكرة» بكل هذا الوثوق الذي يعبر عنه حرف السين، بعد أن استهل النص بالطلبِ الملح المتشكك في إمكان وقوع الفعل وبالاستفهام البلاغي المعبر عن الاستبطاء والضيق بالانتظار: (متى يهتدي مجددا فيحط على ظهر قلبي؟)
«يعسوب ضاع طويلا في رياح البارحة/ سيهتدي قريبا إلى طريقه/ وسيحط من جديد على ظهر قلبي، كما كان عهدي به / عندما كنت أباه». هكذا يخاتل الشاعر زمنَه الموشوم بالعار وبالخطيئة. هكذا ينجو حين يصغي إلى صوت الطفل في أعماقه ويحفظ وصيتَه الكبرى. «جدرانٌ بيض» حول الشاعر الطفل، الذي كثيرا ما كان «يلهو ببياض الرمل». وطنه يختزل في «ضياء دافئ ونوافذ ساعة الظهيرة» وجيرانه «قطعان سراب في تخوم الذاكرة». ذلك هو عالم الشاعر/ فردوسه الذي يحن إليه ويستعيد مذاقَه الفائتَ في عين الروح المجبولة من الحنين. لكن الخطيئة جدار أحمر يحول دون الشاعر الطفل والرؤيا: «آثم أنا يا ولدي /حين أودعت الغبار زهرة الجيرانيوم/ آثم حين رغبت عن جدرانك البيض / تنهشها الأشَنَات / آثم حين قبلت بصمت / تدوم فيه رياح البهجة الآفلة.. آثم إذ عشت ولم أتِح لك أن عيش». (جدران بيض) والخطيئة، أو الوعي بها، هو من يجعل الشاعر ينتبه. وإذ ينتبِه الشاعر الطفل، يعدل زاوية الرؤيا، ويغير مسارَه. لن يخذلَه بعد أن أدرك الطريق إلى طمأنينة تبقى وعيٌ ولن يكذبَ عليه عقلٌ ولن يخدعَه حِس. يسكت عقل للشاعر، حين يحاور روحه في الكلمات، فلا يفكر في شيء كان أو سيكون.. كلماته بلا صوت ولا صدى.. لا شيء يحجبه عن روحِه أو يخشاه من كل هذا الذي يدب من حولَه أو يسري فيه. هو أول الكون قبل انبجاس الحياة.. هو آخر ما يبقى حين تنأى الحياة أو تتلاشى.. كان عليه أن يعبر أنهار النار والرياح والظلمات لكي يصل إلى ملكوت الطفل الذي يقبع في أعمق أعماقه، ينتظره ويذكره في كل حين بأنه مرآته وأنه عليه ألا يفقد الصلةَ بها. عليه أن يتأمل ملامح روحه في تلك المرآة في كل حين حتى لا تنساه روحه. حتى لا يضل الطريق إلى الحياة. إلى الشعر.
تخليص المعنى وتكثيف المكثف منه
لكي تكون شاعرا، لكي تنجوَ أعني من كثافة الطين، عليك أن تحفظ وصايا الطفل فيك. عليك أ ن تحفظ ذاكرته الحية في أعماقك أبدا. حين يكتب الشاعر صفحة من صفحات الحياة التي ينجو من حبائلها في كل مرة، يجلس في حضرة الطفل ويهمس له: أنا الآن هوَ. أنا أنتَ، فلِمَ أشكو؟
كاتب تونسي