طبيعي لأيّ كاتب في بداياته أن يقرأ كثيرا لكتاب كبار سابقين له، لا تساعده الظروف على لقائهم لوفاتهم، أو لأنهم بعيدون عنه. حين غادرت الإسكندرية لأول مرة في بداية السبعينيات كنت أعرف أني سأقابل كتابا أحببتهم مثل، أمل دنقل ونجيب سرور ويحيي الطاهر عبد الله وفاروق عبد القادر وسليمان فياض وغيرهم. قائمة طويلة من الأسماء التي أحببتها. عرفت أنهم يتجمعون في مقهي ريش، أو في أتيلييه القاهرة للكتاب والفنانين. ذهبت إلي أتيلييه القاهرة في المساء، وأسعدني الحظ بلقاء أمل دنقل ويحيي الطاهر عبد الله . كانت المشروبات الكحولية مسموحا بها ذلك الوقت في الأتيلييه. كانا يشربان البيرة. قدمت نفسي إليهما ولم أكن نشرت أكثر من قصتين قصيرتين وجلست بينهما صامتا. تلك كانت عادتي دائما حين أجلس مع من هم أكبر مني سنا أو شهرة، أن أجلس صامتا أسمع أكثر مما أتكلم. بعد وقت قصير ولا أذكر الآن ماذا جري بينهما من نقاش، فوجئت بهما يتشاجران ويتبادلان الشتائم بينهما مما أزعجني جدا. ترك كل منهما المكان وأنا في حالة من الدهشة. كيف يتشاجر الكتّاب حقاً، ولماذا مهما اختلفت الآراء. تكرر هذا في مقهي ريش بين نجيب سرور وغيره من الكتاب. أدركت أن صورة الكتّاب التي تستقر في روحي من كتاباتهم الجميلة، لا تعني أنهم في سلوكهم مثلها. لم أعد أندهش من أيّ شجار بينهم بعد ذلك. لكن هذه الخلافات وقتها لم تكن تجد طريقها إلى النشر في الصحف، وإذا نشر الخبر، وكان ذلك نادرا جدا، لا يزيد عن جملة خلاف بين كاتبين في مقهى ريش انتهي بالشجار، ولا ترد كلمة ولا جملة من الألفاظ التي قيلت.
كانت الصحف تُعنى بالخلافات الفكرية وكانت قليلة. كنت دائما في دائرة الكتّاب المغلقة في أماكن مثل، ريش أو ستيللا أو الجريون، وهي الأماكن الباقية حتى الآن، أو أماكن أخرى تغيرت أو زالت مثل إيزافيتش. صرت لا أصدق كثيرا ما يقولون في جلساتهم عن بعضهم، وأعتبر ذلك نوعا من التنفيس عن الروح، وظللت ألوذ بكتاباتهم، التي كان لها تأثير كبير عليّ وعلى غيري من الكتاب والقراء. اعتبرت هذا الاختلاف بين الكتابة والسلوك شكلا من أشكال الشيزوفرينيا، أو الفصام النفسي، يجب أن لا أتوقف أمامه. كان الحال قد استقر بي في القاهرة، وكانت لقاءاتي بهم لا تنتهي. بالطبع كان بينهم استثناءات يدون في أحاديثهم مثل كتاباتهم، ومهما غضبوا لا يخطئون في حق من يجلس أمامهم، ولا تصدر منهم ألفاظ نابية. كنت في معظم جلساتي أنصرف قبل أن يشتد النقاش، أو حين يبدأ في الاشتداد، حتى لا أرى ما سيحدث من شجار بالكلمات، أو بالأيدي في أحيان قليلة. صرت أنا أيضا في فصام نفسي ألتقي بهم وأسمعهم، ثم أعود إلى البيت استحم، ومع المياه الساقطة عليّ والجارية في البانيو إلى الفتحة الصغيرة التي تؤدي إلى صرفها، أنسى كل شيء. أخرج من الحمام استمع إلى الموسيقى وأقرأ أو أكتب. لم تكن الخناقات وراءها مصالح مادية أبدا، فلا أحد من المختلفين مع بعضهم كان موظفا له شأن، أو متنفذا في هيئة ما. كما كان ربع الجنيه، أي ما يساوي خمسة وعشرين قرشا، يكفي لوجبة كباب في أرقى المحلات. المتنفذون وأصحاب السلطة الثقافية عادة لا يدخلون في المعارك، وإن لم يبتعدوا عن الغيرة، التي كانت وراء المعارك، وينفثون أذاهم في الكتمان. والغيرة لم تكن بسبب سباق على وظيفة، لكن لأن هناك من أصدر ديوانا أو رواية شغلت الدنيا.
استمعت كثيرا جدا لآراء كتاب في الآخرين، غير ما يدون في حالة حضورهم. الكاتب نفسه الذي تراه يشكر في عمل كاتب آخر أمامه، حين يلتقي بك وليس معكما الكاتب الآخر، تسمع منه أسوأ كلام عنه وعن عمله. المهم دون تفاصيل أو أسماء، شكلت لي هذه الحالة معرفة بأن ما تقرأه للكاتب غير ما تسمعه منه. وكما قلت صرت متعمدا نسيانها وتعودت عليه، وظلت محبتي لبعض الكتاب كما قرأتهم أول مرة، دون أن أقابلهم. في كل الأحوال كان الحديث السيئ عن عمل أو أعمال الكاتب أو حتى الكاتب نفسه لا ينتشر خارج المكان.
هما كتابان ظهرا في ذلك الوقت أحدهما يحمل عنوان «النميمة» لسليمان فياض، والآخر يحمل عنوان «مثقفون تحت الطلب» لكاتب كان شابا ويعمل في وزارة الثقافة نفسها وتوفي بعد صدور الكتاب هو محمد عبد الواحد. طبعا لن أتحدث هنا عن قضية المثقفين والسلطة في العالم. أنا الآن في الحيز الضيق وهو مصر. في سن مبكرة قرأت المعارك الأدبية والفكرية بعد ثورة 1919، وأعجبت بها، لأنها كانت حول الفكر وليس حول السلوك الشخصي. هذه المعارك كانت طريقا للنهضة في ذلك الوقت. أقسى جملة قرأتها وأضحكتني قالها طه حسين عن لغة مصطفى صادق الرافعي وهي «أُخال هذا الكاتب يضع الكلام وضعا» أي يلده بصعوبة. فرد عليه الرافعي قائلا، «أتحداك أن تضع مثلما أضع وعليّ نفقات القابلة» أضحكتني الجملة كما قلت خاصة أني كنت أجد صعوبة شديدة حقا في فهم لغة مصطفى صادق الرافعي. كنت في الخامسة عشرة من عمري. انتهت المعارك الفكرية وكان آخرها معركة جيل الستينيات وتدشين عهد جديد من التجديد في الكتابة.
لم نعد نرى معارك فكرية بعدها، أو على الأقل هكذا الأمر بالنسبة لي، تغير الزمن وظهرت السوشيال ميديا، التي لا أتابع فيها غير فيسبوك وتويتر. رأيت الأمر قد اختلف كثيرا، المقالات التي يكتبها الكتاب لا تحظى باهتمام كبير، رغم أن بعضها يطرح قضايا مهمة، لكن البوستات أو التغريدات القصيرة تحظى باهتمام أكبر.
لماذا حقا لا تحظى المقالات بالاهتمام الأكبر، هذا طبيعي في عصر السرعة، لا أتوقف عند هذه الظاهرة، وأدرك سببها، أظل مشغولا بالقراءة الحقيقية لكتب مهمة لا اتأخر عن الكتابة عنها. أشعر بخجل كبير لأن الكتب تأتي إليّ كثيرا، والوقت ضيق والصحة لا تساعد على القراءة كل يوم. صرت منذ أكثر من شهر مصابا بقفلة القارئ. لقد تعودنا على قفلة الكاتب، وكان علاجها السهر مع الأصدقاء أو السفر، لكن قفلة القارئ جديدة على من هم مثلي حياتهم في القراءة بقدر ما هي في الكتابة. القراءة تجعلني ابن زمني القديم والتوقف عنها جعلني ألتفت إلى شيء من التغريدات والبوستات. وجدت الكثير منها عن أمور شخصية. اختلف الزمن وصارت تظهر على السوشيال ميديا، بينما كثير من أفعال الحكومة تستحق التوقف عندها، أقلها هدم المقابر التي فيها مدافن لعظماء مروا على الوطن. ناهيك عن الحريات التي وصلت إلى اعتقال رسام كاريكاتير هو أشرف عمر، أو مصادرة ديوان شعر لأحمد دومة، أو إيقاف عرض فيلم والأحداث كثيرة. لماذا يتجاهل أصحاب المعارك الشخصية ما حولهم من تراجع في كل مجال؟ هل للنهضة بالبلاد طريق ثالث غير طريق البحث عن حكم ديمقراطي، وعن فكر جديد مستنير يتجاوز الماضي بتجلياته في الحكم والحياة. تذكرت الزمن الذي كانت فيه خلافات المثقفين الشخصية لا تخرج من مكانها، وكانت قيمة المثقف من موقفه من النظام الحاكم. وكيف على طول التاريخ كان عدد المثقفين الغاضبين من النظام الحاكم دائما هو الأكبر، وكيف كانت الدولة، أو النظام الحاكم يحاول بكل الطرق إخفاءهم مما صار سببا، وإن أدركه متأخرا في فشله، أو الثورة عليه. فما معنى الزمن الذي تعد اللايكات التي يشتريها البعض أحيانا، دليلا على قيمته الثقافية، وهل حين يرى رجال النظام الحاكم هذه الشتائم الشخصية سيفكرون في علاقة ما بين الثقافة والتقدم والنهضة؟ للأسف لن يدركوا أن هذا الاستثناء ليس بالقاعدة وسينامون سعداء. هذا هو ما يريحهم، وإن لم يدرك من يفعل هذا.
كاتب مصري