عالقة في الفراغ، معزولة ووحيدة، هكذا تبدو أسئلة القيم، التي طالما تغنت المنابر الفلسفية والدينية بجدوى تكريسها وتعميمها. كما لو أنها وجدت فقط من أجل أن تظل كذلك، عالقة هناك في منفاها المتعالي، منقطعة الأسباب بأي أجوبة محتملة، وشبيهة بمجرة متوحدة، تكتفي كواكبها البراقة بالتطواف الأبدي حول يتمها. فيما تظل ثنائية القاتل والمقتول، محتفظة بجدلية الحضور، تحت أنظار الدساتير والتعاليم المستسلمة لعبثية البحث عن دلالاتها.
أقول القيم «العالقة هناك في منفاها المتعالي» باعتبار أن اعتماد المؤسسات الدولية للأساليب الحجاجية، والمزودة بشحنة عالية من عقلانية البرهان، لا يعني بالضرورة أنها متشبعة بروح القيم الإنسانية، كما لا يعني أنها منخرطة حقا، في خدمة المصالح البشرية المجردة عادة من الحسابات الخاصة، ذلك أن منهاجية البرهنة الماكرة، تتعمد الإلقاء بثقل منطوقها في «مقدمة» الحجاج، كما في «نتيجته» الموهمة باستخلاص ما تعتبره حقائق، فيما يشتغل حيز الخطاب الفاصل بين كل من المقدمة والنتيجة، بتقنية التمويه، الخبيرة بخدعة تقليب الأنساق، والكيل بمكيالين، قصد إحداث المزيد من البلبلة في ذاكرة المتلقي المستهدف بخدعها. ضمن هذا الإطار، يعاني الخطاب الثقافي العربي من علة اكتفائه بتوصيف المنظومات الفكرية الكبرى، التي أنتجها وينتجها الآخر، بدل المبادرة بإنتاج توصيفاته الخاصة به. علما بأن قوام توصيفه لهذه المنظومات هو التهويل والتضخيم، الصادرين عن الوضع الدوني الذي يوجد عليه، بحكم معاناته من عقدة الاضطهاد تجاه فكر غربي يتلذذ بحظوة تعاليه وتسلطه. مع التذكير بأن عقدة الاضطهاد هذه، هي التي تساهم ضمنيا في تزكية الخطاب الغربي، وفي تبسيط مسطرة تداوله وهيمنته، التي يمارس بها عدوانيته الإقصائية، تجاه الجغرافيات المغلوبة على أمرها، خاصة منها الجغرافيات العربية الإسلامية.
ومن المؤكد أن هذه الوضعية المأزومة، تساهم بشكل فعال في إغراء الآلة الغربية بإحكام قبضتها على أعناق الجغرافيات المضطهدة، بعد أن تحولت تحت أنظارها إلى عبء لا حضاري، ينبغي وضعه باستمرار تحت المراقبة اللصيقة والحذرة، توجسا من احتمال تعرضه للوثة «تحامق همجي!» لا تبقي ولا تذر.
وبالنظر لافتقار الخطاب العربي إلى ما يكفي من الإواليات الإعلامية التي تسمح له بممارسة حضور ندي تجاه البرهنة الماكرة التي يتحلى بها الخطاب الغربي، فإنه والحالة هذه، يظل سجين دائرة ضيقة، معطوبة سياسيا واقتصاديا وحضاريا ومأهولة بفوبيا الزوال، تكرهه على تكريس وجوده الهامشي، للتسبيح بخطابات المراكز المهيمنة بأسواقها. ومرد ذلك، يعود إلى أن الإشكالية الملازمة لحركية الفكر، تكمن في بنيته الشبكية القائمة على مبدأ الترابط والتعالق ذي المرجعيات والتفريعات المتنوعة، حيث ما من تناول لقضية نظرية إلا ويتسبب في استحضار نقيضاتها، فضلا عن استحضاره لمجموع ما يحايثها من أنساق. من ذلك مثلا، زوابع المفاهيم والخطابات الموازية، التي لا تني تراكمها أسئلة ملتبسة من قبيل سؤال العدالة الاجتماعية، والتفاهم الإنساني، والحوار الحضاري.
وهي عوامل من شأنها تحجيب الإشكاليات المركزية، وإرباك منهجية البرهنة، والتشويش على منهجية اشتغالها الطبيعي. بمعنى أن كلا من الأسئلة المشار إليها بمجموع ما تستدعيه من قوانين الحجاج والبرهنة، تتحول إلى مجرد إطار شكلي، تتخلص وظيفته في إضفاء الحد الأدنى من العقلاني، والموضوعية على مقتضيات الخطاب، حيث يستشف من ذلك، أن البرهنة على «حقيقة « موضوع معين، لا تتم إلا من خلال تعرضها لاختراق «حقائق» مواضيع أخرى، حيث يتأكد لنا وبالملموس، أن الشيء الجامد الهامد، الميت والخالي من روح الحياة، وحده الذي يمكن أن يستقل بخصوصيته كي يكون موضوع برهنة، لا تعرقل حركيتها تداعيات تداخلها مع غيرها من المواضيع والقضايا.
وفي اعتقادنا أن هذا الاستنتاج، هو الذي يؤدي إلى زئبقية ومكر عامل البرهنة، فيخضعه لعامل الإسقاط والتبرير الذي تقتضيه ملابسات السياق والضرورة. ذلك أن الحركية الطبيعية للحياة، لا تتشكل إلا انطلاقا من استنادها إلى مسلمات متواضع عليها، وضمن قوانين البرهنة المتاحة التي يلزمك بها المقام. وهو ما يجبرك على تبني مقولات، ومسلكيات، أو ممارسات، على ضوء إكراهات وإملاءات اللحظة، وإن على مستوى ظرفية عابرة ومؤقتة، ما يؤدي إلى اقتران الحقيقي بالآني، الذي تمليه الضرورة، والقابل تباعا لأن يتحول إلى نقيضه، حالما يتغير سياقها. وتلك هي بعض الأسباب المؤدية إلى تأجيج نار الخلاف المفتعلة والحارقة بين المواقف، تجاه الشيء ذاته، كما هو الحال بالنسبة لتلك الأسئلة المثقلة سلفا بأجوبتها الجاهزة من قبيل الإرهاب، والإبادة الجماعية، وملابسات التطهير العرقي، التي تتحول بقدرة البرهان الماكر إلى متاهات لا مداخل ولا مخارج ثابتة ومضبوطة لها.
ما يدعونا للقول، بأن مكر الكفاية المعرفية، هو خلاصة هذا التمثل الفكري المتعدد الأبعاد، حيث تمتلك الذات الخبيرة بضبط آليات اشتغال الفكر، القدرة على استجلاء مظاهر المكر المؤثرة في تحريف مسار الحقائق، بعيدا عن وجهاتها الطبيعية المنطقية والعقلانية. مع العلم أن المجتمعات المتطورة نحو الأفضل أو الأسوأ، لا تحيا فقط بالأفكار المستقاة مباشرة من بطون الكتب، بقدر ما تحيا من التأثير الكبير الذي تحدثه فيها هذه الأفكار، عبر لحظات متعددة من تاريخ تقدمها أو تراجعها، حيث تتمكن خلال ذلك من التمرن على الانتقال بها من مستوى التفكر، إلى مستوى الفعل المؤطر بالتباس النوايا البرهانية. وهو أمر لا يمكن أن يتحقق دون كفاية معرفية ومكر سجالي، مؤهلين لتبين أسرار مشارب وقنوات المرجعيات التواصلية المتمحورة حول إشكال/مأزق معين، في لحظة تاريخية معلومة.
ولنا أن نستحضر في هذا الإطار، الخطابات السياسية الصادرة عن منابر المركزيات المهيمنة، والمشهود لها عالميا باحترافيتها الماكرة، خاصة في الأوساط التي تندرج فيها المعرفة ضمن المكونات الأساسية للمعيش، حيث يتأكد لنا وبالملموس، أن مصدر الاستراتيجية التضليلية المعتمدة من قبل هذه المنابر، يكمن في التمرس الطويل بتقنية التكييف المغرض، لشتات ما يراكم من منظومات ومقولات متعارضة ومتناقضة. تكييف، يتمثل في الدفع بشتات هذا التراكم، في وجه مجتمعات محبطة، ومفتقرة كلية إلى حظوة الإلمام بمقتضياته التواصلية، الشيء الذي يحول بينها وبين تبين ما يتخلله من شوائب وتناقضات واختلالات وأباطيل، ما يجعلها عاجزة عن التموضع في منزلة الندية، وضحية مقولات متاهية، يحكمها كيد البرهان المحروس بسلطة القهر.
من هنا يصح القول، إن الإقرار بجدوى التعدد والتنوع في رؤيتنا الثقافية والحضارية للعالم، يعنى الإقرار سلفا برهبة وسلطان قانون التصنيف، الذي يتموضع فيه كل نوع من الأعراق المتنوعة والمتعددة في مكانه «المخول له» حيث بالكاد تكفي قلة من الخانات المتقدمة في الترتيب الحضاري، لاحتواء ثلة/نخبة من القتلة المتحكمة في هندسة العالم، وفي فبركة الخطابات المؤطرة لها. هكذا إذن، سيتضح للصم وللبكم وأيضا للذين لا يعقلون، أنه بقدر ما تستفيد السماوات المزهوة بزرقة تعاليها، من مردودية المقولات التوحيدية والأخلاقية، بقدر ما تمسي المقولات ذاتها، وبالا على ساكنة الأرض، حيث هوس القتل، هوس الإقصاء، وهوس الإبادة، يمارس شعائره بكل ما يليق به من أريحية، ومن هيبة، ووقار، ضدا على كل برهان ماكر ورجيم.
شاعر وكاتب من المغرب