أقدم منظمة إقليمية في العالم المعاصر، ستدخل العام القادم سن الثمانين، هي شائخة وبالكاد تستوفي ضرورات روتينها الذي اعتادت عليه، ومن سيرتها نعلم أنها إذا ماتت فسوف لن يكون لها وريث، حيث لا ذرية لها، فهي لم تستخلف أبناء ولا أحفادا حتى لو بالتبني كي يحققوا بنود ميثاقها التي ظلت حبرا على ورق أو يحاولوا إنجاز ما عجزت عن إنجازه في شبابها!
في كتابه اسرار الجامعة العربية يقول وحيد الدالي، مدير مكتب أول أمين عام لجامعة الدول العربية، عبد الرحمن عزام والذي عايش مخاض ولادتها « إن ما يقال إن جامعة الدول العربية صنيعة بريطانية، كنتيجة لتصريح أنتوني إيدن وزير خارجية بريطانيا الذي أعلنه سنة 1943، غير صحيح وحقيقية الأمر، إيدن أراد طمأنة العرب على مستقبلهم بعد الحرب العالمية الثانية، وفي الوقت نفسه كان مزايدة سياسية اقتضتها ظروف الحرب بين ألمانيا وبريطانيا.
الحكومة الألمانية
فقد أعلنت الحكومة الألمانية على لسان هتلر، أنه في حالة كسبت ألمانيا الحرب، فأنها ستضمن سلامة الدول العربية، وتؤكد وتؤيد استقلالها، وستعمل على اتحاد فيما بينها. بمعنى أن ظهور جامعة الدول العربية عام 1945 كان بمبادرة رسمية عربية خالصة وصادقة، كون هناك شبه إجماع على وحدة المصير، وعلى ضرورات التنسيق والتضامن إزاء التحديات، لاسيما وأن غالبية النخب القومية والإسلامية واليسارية ومفكريها، ومنذ ما بعد الحرب العالمية الأولى وافتضاح أمر المخططات الاستعمارية المعدة للمشرق العربي، كمعاهدة سايكس بيكو، ووعد بلفور، تتوق وتدعو لقيام مشروع وحدوي تحرري ينهض بالأمة ويدعم نضال الأقاليم التي مازالت تحت نير الاستعمار والاحتلال، كفلسطين وساحل الخليج وجنوب اليمن والمغرب العربي، لكن فكرة الجامعة ومن ثم ممارساتها لم تلب هذا الغرض، بل تقمصته وأفرغته من محتواه، والسبب يكمن في المنطلقات والدوافع وتباينات الرؤية حد التصادم بين الدول المؤسسة، فهكذا أنظمة لا يمكن أن تتبنى مشروعا نهضويا وحدويا حقيقيا ولو مرحليا أو متدرجا، لأنه يتناقض مع مشاريعها التي لا هم لها سوى كيفية تخليد سلطاتها القطرية بالتوافق مع اللاعبين الكبار!
إيدن وسكة الجامعة
سكة جامعة الدول العربية هي سكة الأنظمة التي أسستها وعليه فإن الجامعة بما لها وعليها هي نتيجة وليست سببا، يقول الدالي إن أنتوني إيدن أراد طمأنة العرب، أي عرب يقصد حقيقة، عرب الأنظمة التي اعتبرت مستقلة حينئذ، في مصر والعراق وسوريا ولبنان والسعودية واليمن والأردن، أم الشعوب وطلائعها التي كانت تسعى للتحرر الكامل من التبعية لحكومات الأخوين سايكس وبيكو، وإقامة كيان عربي مستقل يحمي فلسطين ويحرر المتبقين؟
بطبيعة الحال اعتبر إيدن أن سايكس بيكو ووعد بلفور هما السكة التي يجب أن يسير عليها قطار العرب كل العرب، أما العلاقات الاقتصادية والثقافية وحتى السياسية فهي مشرعة الأبواب أمامهم بشرط أن لا تتصادم مع الخطوط الحمر، وإن حصل المحذور فستعيد حكومتا سايكس بيكو النظر بالخارجين عن السكة، وسيكون مصيرهم كمصير رشيد عالي الكيلاني في العراق، نعم كان إعلان إيدن نتيجة مباشرة لثورة الكيلاني التي كادت أن تغير مسار التاريخ في العراق والمنطقة ، وكاد العداء للإنكليز يتحول الى ثورة قومية عارمة يغذيها انكشاف نهج ، فرق تسد ، الذي اعتمده الانكليز كلما تعاظمت صيحات التوحد في مقارعة التحالف الأنكلو صهيوني !
في 1941 قال أنتوني إيدن: إن العالم العربي قد خطا خطوات عظيمة منذ التسوية التي تمت عقب الحرب العالمية الماضية، ويرجو كثير من مفكري العرب للشعوب العربية درجة من درجات الوحدة أكبر مما تتمتع بها الآن، وأن العرب يتطلعون لنيل تأييدنا في مسعاهم نحو هذا الهدف، ولا ينبغي أن نغفل الرد على هذا الطلب من جانب أصدقائنا ، ويبدو أنه من الطبيعي ومن الحق وجود تقوية للروابط الثقافية والاقتصادية بين البلدان العربية وكذلك الروابط السياسية. وحكومة جلالته سوف تبذل تأييدها لأي خطة تلقى موافقة عامة .
عاد إيدن وتطرق للموضوع نفسه عام 1943 أمام مجلس العموم البريطاني قائلا: إن الحكومة البريطانية تنظر بعين «العطف» إلى كل حركة بين العرب ترمي إلى تحقيق وحدتهم الاقتصادية والثقافية والسياسية!
نكبة فلسطين
نكبة فلسطين 1948 أول امتحان سقطت به الدول المؤسسة للجامعة العربية سقوطا مهينا، بريطانيا تخطط سرا لتكون الضفة الغربية تحت سيطرة الجيش الأردني لقطع الطريق على الهيئة العربية العليا بقيادة المفتي أمين الحسيني بإعلان قيام كيان فلسطيني فيها.
وهي قد أيدت ضم الضفة للأردن وإعلان الملك عبدالله ملكا لشرق الأردن وفلسطين، بعد تنظيم الملك عبدالله لمؤتمر أريحا الذي عارض فيه توجه أمين الحسيني لتشكيل حكومة عموم فلسطين لتكون ندا لحكومة إسرائيل في الميدان وأمام الأمم المتحدة، وحينها حاولت مصر استيعاب توجه الحسيني فقام النقراشي رئيس وزراء مصر حينها وبتأييد من الملك فاروق بجعل غزة هي مقر حكومة عموم فلسطين.
وهنا دخل الطرفان بمساجلات استخدمت فيها مصر نفوذها على الجامعة العربية التي اعترفت بحكومة غزة، لكن الأردن بالنتيجة فرض الأمر الواقع ، فالتصرف القاصر والخائب والمشبوه بالبقية الباقية من فلسطين قد أهدر فرصة تاريخية لانبثاق كيان فلسطيني معترف به دوليا يحجم النكبة، وكان له أن يرسم أفقا مغايرا للصراع.
ومن المؤكد أن مقتل النقراشي والملك عبدالله الأول ومن ثم إجبار الملك فاروق على ترك العرش بعد قيام ثورة 23 جمال عبد الناصر، واحدة من التداعيات !
الشرق الأوسط الجديد
يقول عبدالله الأشعل مساعد وزير الخارجية المصري السابق: إن دور الجامعة العربية سينتهي كمنظمة إقليمية، في غضون السنوات القليلة المقبلة ليحل محلها، منظمة الشرق الأوسط الجديد!
ولم يطرح هذا الرأي من باب التنجيم أو التخمين، خاصة وأن دولة المقر لم تعد قادرة على لعب دور الحاضن لمشروع الحد الأدنى من الإجماع العربي، لسببين رئيسيين أولهما إنها أول من خرقت هذا الإجماع وأصبحت اسيرة له، ثانيا ضمور دورها ومكانتها السياسية وتأثيرها لصالح السعودية والإمارات، وكان لتبعثر وإنهاك وتمزق وإنشغال الدول العربية الرئيسية الأخرى كالعراق وسوريا واليمن والسودان وتونس وليبيا قد عزز بروز الدور السعودي والإماراتي بثقله المالي وبراغماتيته، وحتى الجزائر التي لم تثخنها جراح الفوضى الخلاقة تجد نفسها شبه وحيدة في ميدان يعج بالكمائن، وفي صميم هذه المشهدية كانت القضية الفلسطينية هي المتضرر الأكبر، فالممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني ، منظمة التحرير الفلسطينية ربطت مصيرها مع مصير الدول العربية التي خرقت إجماع الحد الأدنى قبل مبادرة السلام العربية وبعدها، فقبلها كان هناك إجماع عربي بالضد من الحلول المنفردة والجزئية وهذا ما خرقته مصر ثم الأردن ومنظمة التحرير، وبعدها جاء الإجماع العربي على «دولة فلسطينية كاملة السيادة على أراضي 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وانسحاب من كامل الأراضي العربية المحتلة ، مقابل السلام والتطبيع» هذا حسب مبادرة السلام العربية المقرة في قمة بيروت 2002 بمبادرة من الملك عبدالله ملك العربية السعودية والتي تبنتها الجامعة العربية كإجماع للحد الأدنى، لم تتجاوب معها إسرائيل، وراحت تتنصل من التزاماتها المنفردة ، لكن مصر الرائدة في خرق مقررات الجامعة والأردن ومنظمة التحرير واصلوا تطبيعهم دون الالتزام بالاجماع الذي يؤطر ما يسعون إليه ويمنحه حصانة.
اتفاقية اوسلو
وعندما فشلت اتفاقية اوسلو طالبت منظمة التحرير بإعادة ربط التطبيع بتنفيذ إسرائيل لمبادرة السلام العربية، وهذا ما دفع رياض المالكي للاعتراض على موقف الأمانة العامة للجامعة الداعم للإمارات والبحرين في التطبيع مع إسرائيل لمخالفتها مبادرة السلام العربية وعندما لم تغير الأمانة العامة قرار دعمها قرر تقديم طلب الإعفاء من استكمال ممثل فلسطين رئاسته للدورة الاعتيادية حينها، وقطار التطبيع سائر مادامت الأنظمة لا تحترم مقررات الإجماع العربي ولو بحدوده الدنيا، وبعد الذي جرى في غزة وما يجري في الضفة والقدس وظهور مشروع تصفية القضية الفلسطينية بالإبادة والتهجير، الجميع أمام مفترق طرق فإما الرجوع إلى ثوابت إجماع الحد الادنى بتجميد كل أشكال التطبيع العربي والإسلامي مع إسرائيل بما فيه التطبيع الفلسطيني حتى الإذعان لمبادرة السلام العربية أو التسليم بقيادة إسرائيل للمنطقة والرضوخ لما تريده من ضم للقدس والضفة وغزة والجولان، وكأن شيئا لم يكن مما يعاظم من غضب وازدراء العامة والخاصة ويبيت بركانا مكتوما، بانفجاره ستنفجر كل حقول النفط والغاز وقصور وقواعد الأنظمة صغيرها وكبيرها!
كاتب عراقي