اعتقال القضاء الفرنسي مؤخرا لبافيل دوروف مدير ومؤسس شركة برنامج تلغرام للتواصل الهاتفي عبر الإنترنت، ثم الإفراج المؤقت عنه بعد اتهامه بتهم ثقيلة ستجلب عليه نظريا سنوات طويلة من السجن، لا تعتبر عملية اعتقال عادية وبريئة، بل تدخل ضمن صراع السيطرة على برامج الإنترنت الخاصة بالتواصل، نظرا لدورها الكبير في سرية الاتصالات وتشكيل الرأي العام الدولي.
وعمليا، شكّل اعتقال بافيل دوروف الحدث السياسي والإعلامي خلال الأيام الماضية، وتم التركيز على جنسياته الروسية والفرنسية والإماراتية، ولائحة الاتهامات المرتبطة بالبيدوفيليا وتهريب المخدرات والإجرام المنظم، حتى يحس كل مستعمل لتلغرام بأنه مشتبه فيه. ووسط هذا الكوكتيل من الأخبار المتضاربة والمثيرة، في عالم أصبح رهينة بشبكة الإنترنت، كانت الأسئلة الجوهرية قليلة، وهي: لماذا الاعتقال الآن؟ ولماذا منحت فرنسا الجنسية لبافيل دوروف؟
علاقة بالسؤال الأخير، لقد منح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون شخصيا مؤسس تلغرام الجنسية الفرنسية سنة 2021، وفق جريدة «لوموند»، لكن الذي لا يتم الحديث عنه هو أن القرار يعود للمخابرات الفرنسية، التي تبحث عن برنامج مشفر للتواصل، واعتقدت في مساعدة مؤسسة تلغرام لها في هذا الشأن. وتفتقر فرنسا لبرامج مشفرة، أو لتشغيل الحاسوب والتابلت خاصة بها، عكس باقي القوى الكبرى مثل، الولايات المتحدة وروسيا والصين، بل دول متوسطة مثل اليابان وكوريا الجنوبية. وكم كانت فضيحة فرنسا عندما تبين أنه جرى التجسس على سياسييها، ومنهم الرئيس ماكرون بسبب استعمالهم برامج مشفرة أجنبية مثل واتساب.
سعي دول مثل الولايات المتحدة للسيطرة واختراق برامج مثل تلغرام، يهدف للحصول على المعلومات ليس فقط ما يتعلق بالإرهاب، بل ما قد يتم تداوله من معلومات حول التصنيع وصناعة القرارات السياسية الدولية
ويمكن تفسير اعتقال مؤسس تلغرام بعاملين مرتبطين بطبيعة هذا البرنامج غير الغربي، وهو البرنامج غير الغربي الوحيد الذي ينافس برامج التواصل الأخرى، خاصة واتساب وسينيال، بينما برامج أخرى تجاوزها الزمن مثل فايبر وأخرى لم يكتب لها النجاح والانتشار الواسع مثل لاين. وهكذا، يعتبر تلغرام البرنامج الوحيد الذي لا تستطيع المخابرات الغربية الوصول إلى مضمونه، لأن الأخرى أمريكية مثل سينيال وواتساب، وتوجد اتفاقيات سرية بين هذه الشركات والاستخبارات الغربية، للتعاون تحت مسميات شتى ومنها «حماية الأمن القومي الأمريكي». كما أن تلغرام عكس باقي البرامج، تتميز بخاصيات منها التشفير القوي للدردشات السرية، وحجم التخزين وقنوات التواصل الجماعية. وعادة ما يجري الترويج لأطروحة تفوق التكنولوجيا الغربية في رصد كل المكالمات، لكن مع ظهور برامج مثل تلغرام أصبحت هذه التكنولوجيا محدودة وعاجزة. وما يقلق الدول الغربية هو الانتشار الواسع للبرنامج في عدد من الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة نفسها.
الجانب الآخر الذي يقلق الغرب، هو دور تلغرام في التواصل الإخباري، وكيف أصبحت مختلف منصات الأخبار الكلاسيكية وغير الكلاسيكية، والأحزاب السياسية والحقوقية وجمعيات متعددة، تستعمل تلغرام للنشر والتواصل. في هذا الصدد، يقول الكولونيل الإسباني المتقاعد بيدرو بانيوس، الذي شغل مناصب حساسة في وزارة الدفاع الإسباني، وكان رئيس قسم مكافحة التجسس الخاصة بالجيش الأوروبي، إنه «أحببنا أم كرهنا، للاطلاع على الأخبار الحقيقية وآخر المستجدات من دون تدخل طرف ثالث لما يجري في العالم، علينا بالقنوات والمجموعات الإخبارية التي تنشط في تلغرام، لهذا عملية اعتقال مؤسس تلغرام ليست بريئة». ويتابع متسائلا «النشاط الإعلامي المكثف في تلغرام، ألا يخيف الكثير من حكومات العالم؟». وكتبت جريدة «نيويورك تايمز» يوم 27 أغسطس/آب الماضي أن طبيعته المناهضة للأنظمة، وتأسيسه لأحد أكبر المنصات الرقمية في العالم جعلت بافيل دوروف هدفا لمختلف الحكومات في العالم. ما يقلق الغرب هو انفراد تلغرام بخاصيات مثيرة للغاية، يمتلك بافيل دوروف جميع أسهم الشركة دون أي شريك آخر، لا يمتلك يختا ولا قصرا ولا طائرة خاصة، ويقول إن لديه بضع مئات من الملايين من الدولارات في حسابه البنكي ولا يحركها. لا يتعدى عدد العاملين في الشركة 30 مهندسا، ولم يسبق للشركة أن قامت بحملة إشهار، ويتولى شقيقه الدكتور المخضرم في الرياضيات نيكولا دوروف عملية التشفير الصعبة MTProto. كل هذه المعطيات جعلت الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الأمريكية تفشل في استمالة بافيل دوروف، أو بعض مهندسيه. ويعترف بافيل دوروف في حوار مع الصحافي كارلسون تايكر (اشتهر بإجرائه الحوار مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين) كيف حاولت الشرطة الفيدرالية الأمريكية معه ومع أحد مهندسيه لإقناعهما بزرع برنامج في تلغرام لما يسمى «الباب الخلفي» الذي يسمح للاستخبارات بالوصول إلى بيانات هاتف كل شخص مستهدف، لكن الجواب كان الرفض.
ضغط الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، على شركات مثل تلغرام أو شركات التشفير عامة ليست حديثة العهد، بل تعود إلى عقود طويلة. ولعل أكبر عملية تجسس في القرن العشرين هي التي تتعلق باختراق المخابرات الألمانية والأمريكية لشركة «كريبتو» السويسرية، التي كانت تبيع برامج وآلات التشفير لـ120 حكومة في العالم على مدى عقود، ومن ضمن الدول التي استخدمت آلاف كريبتو إيران وباكستان وجميع الدول العربية. اعتقدت الدول أن مراسلاتها آمنة ومشفرة، لتنفجر الفضيحة سنة 2020 بأن كريبتو كانت تعمل بتنسيق مع المخابرات الأمريكية. سعي دول مثل الولايات المتحدة للسيطرة واختراق برامج مثل تلغرام كما فعلت مع كريبتو في الماضي يهدف إلى الحصول على المعلومات ليس فقط التي تتعلق بالإرهاب، بل ما قد يتم تداوله من معلومات حول التصنيع وصناعة القرارات السياسية الدولية. لا يمكن لأي دولة الحفاظ على ريادتها العالمية أو الإقليمية، إذا لم تكن لها آليات الاطلاع على معلومات الآخر، خاصة المنافس. على ضوء هذا، لا يمكن فصل ما يتعرض له تلغرام، عن الضغط على برامج مثل تيك توك الصيني المنافس الرئيسي لبرنامج يوتيوب، وبرامج ثانوية مثل كاسبرسكي الروسي المضاد للفيروسات، حيث أصبح ممنوعا استعماله في الإدارات الغربية. إن برامج الإنترنت أصبحت حلقة مهمة في الصراع القائم حاليا من أجل ريادة العالم، ولم يعد الغرب يتمتع بهذه الريادة كما كان في السابق.
ختاما، ولاستيعاب ظاهرة برنامج تلغرام وخطورته: وكالة الأمن القومي NSA التي لديها صورة أسطورية لدى الرأي العام الأمريكي والعالمي، عاجزة عن تكسير تشفير تلغرام، لقد استعمل المهاجمون على الكونغرس الأمريكي يوم 6 يناير/كانون الثاني 2021 برنامج تلغرام للتنسيق في ما بينهم، وليس سينيال أو واتساب، وطالبت السلطات الأمريكية إدارة تلغرام بالتعاون لمعرفة المنسقين، وهذا يعني الكثير.
كاتب مغربي