يحار المرء في مُناسَبة مراكز استطلاع الرأي مع الديمقراطيّة الانتخابيّة.
فاذا صدقت توقّعات المراصد بشكل متكرّر ويزداد دقّة مع الخبرة، أصاب ذلكَ حيويّة الاستحقاق الانتخابي بسهامه، ذلك أنّ تراجع حيّز المفاجأة التي يمكن أن تُخرجها الصناديق يحتمل أن يكون أيضاً مؤشّراً على ركود سياسيّ ما. أن يذهب مواطن ليدلي بصوته في انتخابات قرأ توقّعات المراصد بصددها لأيام قبل الموعد، ثم تأتي النتيجة مصادقة لهذه المراصد، فهذا باعث على إحباط ما، يضيق أو يتّسع، ولا يحصر بالخاسرين فقط.
وفي المقابل، أنْ تقيم المراصد «زيطة وزمبليطة» وترجّح فوز هذا على ذاك، ثم تأتي النتائج معاكسة الى حد كبير، على ما حصل في الانتخابات التشريعية البريطانية قبل أيام، فهذه ليست مشكلة «تقنية» فقط، لأنه حين تأتي النتيجة مناقضة لتوقعات المراصد بشكل كبير، فهذا يعني أنّ هذه المراصد كانت تقدّم صورة مغايرة، وهذه الصورة المغايرة كانت تمارس دوراً احباطياً على فئات تظن انها الاقرب الى الفوز، فتشعرها المصادر انها بعيدة عنه، أو أنها تمارس دوراً اتكاليّاً على قوى تظهرها المراصد فائزة سلفاً فتتراخى.
مراكز الاستطلاعات انحازت «يسارياً» في توقعاتها مرتين في الآونة الأخيرة: حالة اسرائيل، ثم المملكة المتحدة. مع فارق، أنّها في الحالة البريطانية كانت ترجّح تقدّماً لحزب العمال بقيادة اد ميليباند، فإذ النتيجة فوز حزب المحافظين بالأكثرية المطلقة في مجلس العموم، بحيث تجعله قادراً أن يحكم لوحده، وليس كما في حالة «البرلمان المتأرجح» المنتخب عام 2010، حيث ما من أكثرية مطلقة ويتوجب على المحافظين الائتلاف مع الديمقراطيين الأحرار للحكم.
واذاً كانَ دأب التعليق العربي السهل على أي انتخابات تحدث في الغرب هو «الانفحاط» الشديد و»التأسّي»، فإنّ مشكلة التوقّعات الاستطلاعية الخائبة لن تعتبر من موقع هذا التعليق الانفحاطي السهل ذات بال. والحقّ، انّ انعدام حساسيّة هذا النوع من التعليقات الانفحاطية بالديمقراطية في معشر النخب التي تقيم في بلدان قليلة الحظ بالديمقراطية هو عنصر اضافي من تقليل الحظّ بالديمقراطية، وعنصر اضافي من سوء فهم ما هو أساسي في الديمقراطية الانتخابية والتمثيلية، من كونها، قبل أي شيء آخر، لعبة حظ، وأنّه اذا ندر الحظ فيها أو اندثر ترتّبت على ذلك أعباء تجفيفية لمصادر حيوية النظام السياسي، بل أكثر، لمصادر شرعيته. مشكلة كبيرة حين يتوهّم بعض أبناء الجلدة عندنا أنّ تآكل الشرعية مرض يصيب الأنظمة التسلّطية وحدها، ولا يلامس أبداً الأنظمة الدستورية التعددية.
كذلك الأمر حين يتّصل بالتداول على السلطة. التعليق الشعبوي السهل الرائج هو أنه تداول بين متماثلين، كما لو كان حزبا العمال والمحافظين متميزين اسمياً فقط، وهو ما يجافي الخارطة الطبقية للقواعد الانتخابية في أي انتخابات أوروبية بين يسار ويمين. المرء في الغرب لا يختار أن يكون يسارياً أو يمينياً بالصدفة أو المزاجية وحدها. أنْ يكون اليسار الانتخابي غير قادر على صنع تمايز برنامجي يتيح له أقصى تجميع للمنتجين الأجراء وذوي الدخل المحدود حوله فهذه مسألة مختلفة. وحتى على هذا الصعيد، عمى الألوان وحده هو الذي يمكن أن يطابق بين برنامجي العمال والمحافظين على صعيد سياسات الانفاق والضريبة والقضايا الاجتماعية.
في الوقت نفسه، فشل اد ميليباند، لأنّه أخفق أساساً في محاولته صنع التمايز المرجو عن عهد طوني بلير. قبل سنوات قليلة، خاض معركة زعامة حزب العمال بشعارات تعتزم دفعه مجدداً الى اليسار والطبقة العاملة، وتنقيحية للانعطافة اليمينية البليرية. خاض المعركة الداخلية يومها ضد شقيقه ديفيد ميليباند وربحها. ثم اقتربت الانتخابات التشريعية الأخيرة، فأخذ يتعثّر في صبغ اتجاهه نحو اليسار بأي لون مميز، بل أكثر، اعتبر ان التنافس مع المحافظين يتركز حول جذب الطبقة الوسطى، ومراعاة أصحاب الثروات قدر الامكان، فدار مجدداً نحو تقمّص طوني بلير، وأقنعته استطلاعات الرأي بأنّه محظوظ، فزادت خيبته. خسر بقوّة.
لا يحتاج المحافظون اليوم لحزب اضافي الى جانبهم كي يشكلوا الأكثرية، اولاً لأنهم انتزعوها بمفردهم، وثانياً لأنّ حليفهم الحكومي، اي الليبراليين – الديمقراطيين (الذين طاب لهم التصنّف يساراً بالتزامن مع دفع طوني بلير اليسار نحو اليمين)، نكبوا تماماً في الانتخابات، فهبطت مقاعدهم من سبعة وخمسين الى ثمانية.
الا انّ الانتخابات الأخيرة لا تقرأ فقط بثنائية «عمال ومحافظين»، ولا بالتحسّر على «الأحرار». هناك المعطى الذي تبرزه نسبة الأصوات وليس ال قاعد: 14 ٪ صوتوا «للحزب من أجل استقلال المملكة المتحدة» عن الاتحاد الأوروبي، وهذه نسبة ضاغطة على مسار المفاوضة المزمعة بين ديفيد كاميرون وبروكسيل بقصد البقاء أو الانفصال عن الاتحاد الأوروبي. ليس قليلاً أن يواجه الاتحاد الآن، ضغطاً انفصالياً من جهة اليمين، في بريطانيا، وضغطاً انفصالياً من جهة اليسار، في اليونان. المقارنة بين الحراكين «الاكزيتيين» محفّزة..
لكن الوجه الآخر للمفارقة انّه في وقت تفتح فيه هذه الانتخابات بجدية، احتمال مغادرة بريطانيا للاتحاد الاوروبي – في حين ان الكلام اليوناني يتصل بمغادرة «منطقة اليورو» الذي لم تدخل فيه بريطانيا أساساً، فانها تعيد، وبعد أشهر قليلة على الاستفتاء السكوتلندي الذي خسر فيه دعاة الاستقلال خلط الأوراق على هذا الصعيد. الفائز في عموم المشهد الانتخابي ليس «المحافظين»، بل «الحزب القومي الاسكتنلدي» الذي حصد يكاد يكون كل المقاعد الاسكتلندية (56 من 59)، في أرض كانت تصوّت تقليدياً لليسار، ويمثّل قوميّوها اقتصادياً – اجتماعياً برنامج على يسار «العمال الجدد».
الانتخابات نفسها التي تقوي امكانية انفصال المملكة المتحدة عن الاتحاد الاوروبي، تقوي امكانية فرط المملكة المتحدة باستقلال اسكتلندا. من جهة، ضغط خائف على الدولة الأمة البريطانية من اوروبا. ومن جهة، ضغط راغب في دولة أمة اسكتلندية مستقلة في الحد الأقصى، و»دولة لأمتين، ثلاثة» في الحد الأدنى. من جهة، صناديق تذكرّنا بحيوية الديناميات القومية، سواء لجهة «تحرير» اسكتلندا من انكلترا، او «تحرير» المملكة من اوروبا. ومن جهة، يسار يثبت مرة جديدة، انه حين يركز أكثر من اللازم على التنافس مع اليمين على انتزاع الوسط المتأرجح، أو حين يراجع تجربة طوني بلير ليعود فيحاكي فرانسوا أولاند، فهو يسار .. «ميليباندي». والميليباندية في تاريخ اليسار من جملة ما ينبغي اجتنابه.
٭ كاتب لبناني
وسام سعادة