آثار عاصفة سياسية بدأت بوادرها في مؤتمر صحافي في أربيل عاصمة إقليم كردستان، كشف فيه القاضي حيدر حنون رئيس هيئة النزاهة الاتحادية ملفات فساد واتهامات، وجهها لقاضي أول محكمة تحقيق النزاهة، ونائب رئيس محكمة استئناف الكرخ ضياء جعفر. ويبدو أن عملية نشر الغسيل القذر المتبادل بين قضاة من الوزن الثقيل في العراق، انطلقت شرارتها على خلفية تحقيق فتحته هيئة النزاهة، فكشف منح قطعة أرض للقاضي ضياء جعفر، علما أن الأراضي كانت مخصصة للعسكريين والشهداء. فما كان من ضياء جعفر إلا أن فتح النار على رئيس هيئة النزاهة عبر فتح تحقيق في ما يملكه من أراضٍ في محافظة ميسان، مع حملة تسريبات صوتية تفضح رئيس الهيئة وتكشف استغلال نفوذه بالضغط على موظفين في التسجيل العقاري في محافظة ميسان للاستيلاء على أراضٍ في المحافظة.
وذكر القاضي حيدر حنون في بداية مؤتمره الصحافي، إنه مستعد لأي تحقيق معه حول ذمته المالية وأملاكه إذ قال؛ «أنا لا أمتلك سوى قطعتي أرض في ميسان، الأولى في حي النداء بمساحة 211 مترا، استلمتها كتخصيص لموظفي الدولة. والثانية بمساحة 600 متر استلمتها عندما كنت رئيسا لمحكمة استئناف ميسان، وفقاً لقرار مجلس الوزراء رقم 380 لعام 2021 في عهد رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي، إذ وزعت قطع الأراضي على أعضاء مجلس القضاء الأعلى والمحكمة الاتحادية والمسؤولين حينذاك، وأشار حنون إلى أن الأراضي التي وزعها رئيس الوزراء الأسبق مصطفى الكاظمي كانت لشراء الولاءات.
في تفاصيل ما كشف عنه في المؤتمر الصحافي، اتهم حيدر حنون القاضي ضياء جعفر بتهم خطيرة، منها دوره في (لفلفة) أخطر قضايا الفساد التي كشف عنها مؤخرا، مثال ذلك سرقة الأمانات الضريبة التي عرفت إعلاميا بـ(سرقة القرن) والمتهم الأول فيها نور زهير جاسم المظفر، إذ أشار حنون إلى أن المتهم نور زهير، أحيل نتيجة نفوذ ضياء جعفر على محكمة جنايات الفساد المركزية بقضية واحدة فقط وفق المادة 440/ 11. ومحتوى القضية أنه قام بتزوير 114 صكا. كل صك سرق من خلاله مبلغاً من المال، ووفق القانون علينا أن نفتح له 114 قضية. وعلينا أن نحكم عليه بعقوبة السجن 7 سنوات لكل قضية من القضايا وعددها 114. كما أن ضياء جعفر أفرج عن المتهم بكفالة، بحجة تسهيل تسديد المبالغ التي بذمته للدولة، الامر الذي سهل له الهروب خارج العراق.
يبدو أن عملية نشر الغسيل القذر المتبادل بين قضاة من الوزن الثقيل في العراق، انطلقت شرارتها على خلفية تحقيق فتحته هيئة النزاهة
ثم تحدث رئيس هيئة النزاهة عن مجموعة جرائم ارتكبها نور زهير في البصرة وتمت تبرئته منها نتيجة تدخل عدد من القضاة في مجلس القضاء الأعلى يقف في مقدمتهم ضياء جعفر. إذ أشار حيدر حنون إلى الجريمة الأولى وهي سرقة 724 دونم في منطقة شط العرب، وهي أرض تابعة لوزارة المالية وذات قيمة عالية جداً سجلها نور زهير بأسماء وهمية ومستمسكات مزورة، وبعد تسجيلها باسم هؤلاء الوهميين تم نقلها إلى اسمه. رقم القضية 2175/ق/1 لسنة 2023. وتم إصدار أمر قبض في البصرة على نور زهير، وبين ليلة وضحاها نقلت الدعوة إلى بغداد وبالتحديد للقاضي ضياء جعفر، لتختفي ملفات القضية.
القضية الثانية هي (سرقة الودائع والأمانات الكمركية) وفق القضية المرقمة 1293، حيث قام نور زهير وعبر وكالة محامي مزورة بسحب الودائع الكمركية، والودائع هي بضاعة تباع في الميناء وتودع كأموال في الحساب المصرفي لإدارة الميناء، وخلال يوم انتقلت القضية من البصرة إلى بغداد واختفت عند القاضي ضياء جعفر أيضا. أما الملف الثالث الذي كشفه القاضي حيدر حنون فكان قضية بيع سكك حديد العراق إذ قال: «ملف آخر يتعلق بسرقة سكك الحديد. الخسائر تقدر بـ18 مليار دولار، ومدير الشركة المتعاقدة اسمه مثنى مهدي عطية، يقال إنه تابع لنور زهير، لكننا غير متأكدين من ذلك حتى الآن. في هذه القضية بيعت سكك العراق بالكامل، كأنها انقلاب على العراق لنعود ونسير بالعربة، وقد قدمناها في هيئة النزاهة أيضاً للقاضي ضياء جعفر، وعلى الرغم من خطورتها، لم نر أي شيء أو إجراء يتخذ منذ شهرين». وفي هذا الخصوص كشف فادي الشمري، مستشار رئيس الوزراء، الخميس 5 سبتمبر الجاري، عن إيقاف السوداني لعقد سكك الحديد الذي تبلغ قيمته أكثر من 22 مليار دولار، وإحالة مدير السكك إلى النزاهة، بعد ملاحظة تضخم كبير بالأموال، فيما لفت إلى أن المتهم بسرقة الأمانات الضريبية نور زهير، ما زال يعمل بحرية في شركات وعناوين مختلفة رغم أنه مطلوب بقضية كبيرة. وطالب حيدر حنون رئيس هيئة النزاهة، البرلمان العراقي بالتحقيق في كل المعلومات التي أوردها في مؤتمره الصحافي، وطالب بأن يتم استجوابه مع القاضي ضياء جعفر في جلسة علنية في البرلمان، ليتم التحقق من أدلة طرفي النزاع والبت في قضايا الفساد والاتهامات المتبادلة بين الطرفين.
وقد أشار فادي الشمري، مستشار رئيس الوزراء، في لقاء تلفزيوني إلى أن الحكومة لا تؤيد خطوة رئيس هيئة النزاهة حيدر حنون الأخيرة وما تحدث به أمام الإعلام، نافياً علم الحكومة بهذه الخطوة، قبل أن يستدرك ويلفت إلى أن الحكومة حاولت منعه من الظهور، دون الكشف عن حيثيات المنع، لافتاً إلى أن البرلمان ومجلس القضاء مطالبان باستضافة حنون والاستماع إليه. طرف النزاع الثاني الممثل بمجلس القضاء الأعلى، أظهر ملفات قديمة خاصة بالقاضي حيدر حنون تعود إلى عام 2016، إذ تمت إعادة نشر تصريحات القاضي عبد الستار البيرقدار، الناطق الرسمي باسم مجلس القضاء الاعلى حول إدانة حيدر حنون بقضيا فساد، فقد سبق لمجلس القضاء الأعلى أن أعفى القاضي حيدر حنون من منصبه بتهم فساد في أغسطس 2016 ، وأكد المجلس في قراره، إحالة القاضي حنون إلى اللجنة الانضباطية الخاصة بمحاكمة القضاة التي ستقرر مصيره.
وإثر تصريحات له، أشار البيرقدار في 22 أغسطس 2016 إلى أن «القاضي المذكور أعفي من تكليفه بمهمة رئاسة محكمة استئنافية، سبق أن كلف بها لفشله في تلك المهمة وارتكابه عددا من المخالفات الإدارية والمالية التي أحيل بسببها إلى اللجنة الانضباطية في مجلس القضاء الأعلى، لإجراء محاكمته عنها وفق القانون، التي سبق أن حدد اليوم التالي موعداً لاجراء محاكمته». لكن لا القضاء ولا الإعلام العراقي أشارا لاحقا إلى تقديم حنون إلى المحاكمة أو الحكم عليه، الأمر الذي أثار تكهنات بتسوية القضية بضغوط سياسية، خاصة أن ائتلاف الفتح الذي ينتمي اليه القاضي حيدر حنون يضم الميليشيات المسلحة الموالية لإيران، حيث أن حنون عاد للظهور بعد عامين مرشحا للانتخابات البرلمانية في عام 2018 في قائمة تحالف الفتح.
يبدو أن الصفقات السياسية تجري في الخفاء والعلن على غسيل المواقف ومحو فضائح الفساد، لذلك تفاجأ العراقيون بإعلان مجلس القضاء الأعلى عن تعيين حيدر حنون زاير لرئاسة محكمة استئناف محافظة ميسان الجنوبية بمرسوم جمهوري، على الرغم من أن الأشخاص أنفسهم الممسكين برئاسة المجلس، كانوا قد أعفوا حنون سابقا بتهمة «الفشل والفساد». وقال المجلس في بيان في 4 يوليو 2021 أن القاضي حيدر حنون أدى اليمين القانونية أمام رئيس مجلس القضاء الأعلى فائق زيدان بمناسبة صدور المرسوم الجمهوري بتعيينه بمنصب رئيس محكمة استئناف ميسان.
الطبقة السياسية تعاطت مع الفضيحة على انها موجة جديدة من موجات صراع الفرقاء السياسيين على صفقات الفساد، فقد أشاد النائب المستقل في البرلمان العراقي ياسر الحسيني، بشجاعة رئيس هيئة النزاهة حيدر حنون، ودعم طلبه بالاستضافة في مجلس النواب من أجل «الدفاع عن مؤسسته» واصفاً ما ذكره في مؤتمره الصحافي بـ»المخيف» مشيراً إلى أن المستفيد من الإرباك بين النزاهة والقضاء هم الفاسدون، مستدركاً أن البرلمان لا يمتلك صلاحية استضافة واستجواب رجال السلطة القضائية، واستبعد في الوقت نفسه وجود حملة ضد رئيس الحكومة، رغم «عدم كفاءة الكابينة الوزارية، باستثناء خمسة وزراء» على حد قوله. أما النائب عقيل الفتلاوي المتحدث باسم كتلة دولة القانون النيابية، فقد استبعد في حوار تلفزيوني إمكانية تحقيق طلب رئيس هيئة النزاهة حيدر حنون، باستضافة مجلس النواب لقاضي أول محكمة تحقيق النزاهة، ونائب رئيس محكمة استئناف الكرخ ضياء جعفر، وأشار الفتلاوي إلى أن القاضي حنون « فاجأنا بمؤتمره الصحافي. لكني كتبت في جروب الإخوة النواب ودعوت إلى التريث» مبيناً أن التشنجات في السلطة القضائية تثير حفيظة المواطنين، داعياً أعضاء البرلمان إلى تشكيل لجنة لتدارس ملف النزاهة والتريث بإبداء المواقف.
كاتب عراقي