قوميون ومسلمون ليبراليون: سوريا بعد الحرب العالمية الأولى في ثلاث أطروحات أمريكية

عرفت الكتابات حول سوريا في السنوات الأخيرة ثلاث أطروحات كان لها تأثير مهم في إعادة النظر ببدايات سوريا في القرن العشرين، خاصة أنها زعزعت السرديات الجاهزة والأيديولوجيات التي حكمت البلاد لعقود طويلة. أولى هذه الأطروحات تمثلت في كتاب المؤرخ الأمريكي في جامعة شيكاغو مايكل برفنس (الثورة السورية الوطنية وتنامي القومية العربية) الذي قدم تصورا جديدا حول نشوء المخيال القومي في سوريا بعيد الحرب العالمية الأولى. يعتقد برفنس أن هذا النشوء، جاء كوليد لتطورات ما قبل 1914، الذي شهد ولادة ما يدعوه في كتاب آخر له بـ(الجيل العثماني).
لاحظ برفنس وقبله يوجين روغان، أن الدولة العثمانية غالبا ما سعت إلى قمع كل مظاهر الحكم الذاتي، غير أن العصا العثمانية لم تستطع مع ذلك تسوية الاضطرابات في هذه الأطراف، ما دفعها الى استخدام بدائل أخرى قادرة على جذب أبناء الريف تحديداً، إلى فلك الدولة المركزية، الأمر الذي تمثل في التعليم، والوعود بفرص عمل في المؤسسات الإدارية من خلال خلق نظامين تعليميين، الأول لتكوين نخب الدولة، وهو ما نراه في دمشق في «مكتب عنبر» الذي خرّج مئات النخب المحلية، قبل أن يكمل قسم كبير منهم دراسته في كليات القانون والطب في إسطنبول. أما المستوى الآخر فظهر من خلال السعي لبناء نخب ريفية جديدة، وهو ما نراه بشكل جلي في مدرسة العشائر في إسطنبول، التي أسسها السلطان عبد الحميد في عام 1892 لإعداد أبناء الريف للخدمة العسكرية، وكان ممن تخرجوا من هذه المدارس، ولعبوا أدواراً مركزية لاحقا، سعيد العاص من دمشق، وفوزي القاوقجي من حماه، ورمضان شلاش من دير الزور، وعلي الأطرش من السويداء. من هنا يعتقد برفنس أن المدارس العثمانية هي التي شكلت أول بذور المخيال القومي، الذي برز بشكل واضح في ثورة 1925 ضد الفرنسيين داخل سوريا، اذ أن كثيرا ممن شاركوا في هذه الأحداث كانوا قد تعرفوا على بعضهم داخل مدرسة العشائر، أو باقي المدارس، وهناك شكلوا صداقات، لعبت دورا في مشاركتهم في الأحداث.

قومية شعبية

أما الأطروحة الثانية فجاءت مع المؤرخ جيمس غلفن في كتابه «الولاءات المتضاربة: القومية والسياسة الجماهيرية في سوريا مع أفول شمس الإمبراطورية». اذ تمكن غلفن من تقديم طرح آخر حول فكرة القومية العربية، فبدلا من الحديث عن النشأة الميمونة لـ»القومية العربية» والبوادر المبكرة (النهضة الأدبية) أو الحديث عن دور محمد علي وابنه إبراهيم باشا في خلق الإرهاصات الأولى للنزعة القومية الأولية، كما ذهب لذلك جورج أنطونيوس في كتابه «يقظة العربية» نرى غلفن وخلافا لذلك يتحدث عن خطابين قوميين عرفتهما دمشق في الفترة بين 1918ـ 1920، أي فترة حكم الأمير فيصل لدمشق. برز الخطاب الأول من خلال جمعية العربية الفتاة وكيانها الجديد حزب الاستقلال، وتمحور حول الأمير فيصل، أما الخطاب الثاني فقد مثل خطاباً قومياً شعبياً، تبلور في اللجنة الوطنية العليا برئاسة الشيخ كامل القصاب. وكانت السيطرة في البداية للنخبة القومية البيروقراطية، التي رافقت الأمير فيصل خلال الثورة العربية، وقد حاولت العمل على التأسيس للبنية التحتية للدولة من خلال التركيز على فتح المدارس، وجامعة، ومجمع علمي، وجيش وقوانين، وأيضاً من خلال حشد الشارع بتسيير مظاهرات واحتفالات في الأعياد القومية الجديدة (عيد الثورة العربية). إلا أنه مع خريف 1919، أخذت حكومة فيصل تعيش أزمة في ظل عدم قدرتها على توفير المساعدات الكافية، الأمر الذي أتاح الفرصة لبروز الفريق الثاني من القوميين، الذي أخذ يعبر أكثر عن وجهة نظر الأحياء الدمشقية العريقة (الميدان والشاغور) ويقدم وجهة نظر أخرى حول مستقبل البلاد والعالم.

المؤرخ جيمس غلفن

واللافت هنا أن الصراع بين الطرفين سيظهر جليا من خلال تنافسهما على الحشد عبر المقاهي والمسرحيات، خاصة أن نسبة من يعرف القراءة، أو يقرأ الصحف، في دمشق لم تكن مرتفعة في تلك الفترة بعد، ولذلك نرى القوميين النخبويين يدعمون المسرحيات التي تستلهم موضوع الثورة العربية، بينما أحجم القوميون الشعبيون عن هذا الخط بسبب سلفية قادتها (كامل القصاب) مع ذلك لم تتمكن القومية النخبوية من الصمود كثيرا، في ظل الاتفاق الفرنسي البريطاني، والضغوطات المحلية على الملك فيصل بإعلان الاستقلال، إذ بدا الطرف الآخر مصرا على ضروة استقلال سوريا مهما كانت النتائح، دون أن يدرك الفريق القومي الشعبي في المقابل، أن الحرب كانت قد انتهت، وأن تحقيق الاستقلال الكامل لم يعد ممكنا في ظل توازنات القوى، وهو موقف سيبقى يحكم مخيال الحركات القومية لاحقا، التي بقيت تقرأ العالم بعيون ضيقة.

رشيد رضا… وريث الويلسونية

الأطروحة الثالثة عن هذه الفترة، جاءت مؤخرا من خلال كتاب المؤرخة الأمريكية اليزابيث تومبسون «كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب» التي حاولت من خلاله تقديم قراءة يومية للأحداث التي عرفتها سوريا بين 1918ـ 1920 . وربما ما يحسب لكتاب تومبسون ثلاث نقاط: الأولى تتبعها الدقيق للجدالات بين النخب الثقافية السورية في هذه الفترة، وبالأخص على صعيد كتابة دستور لسوريا، وهي جهود بدت آنذاك متقدمة مقارنة بأيامنا هذه، اذ بدت النخب الإسلامية والعلمانية مجمعة على ضرورة تأسيس دستور ليبرالي إن صح التعبير. أما النقطة الثانية، فتتمثل في كشف المؤلفة عن ما تدعوه بـ»اللحظة الويلسونية» بعد الحرب العالمية الأولى، إذ اعتقد الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون (1924ـ1956) أنه للحيلولة دون الإشراف الإمبريالي على مبادئ عصبة الأمم، لا بد أن تتولى الدول الصغيرة، أو المحايدة الانتداب على البلدان الساعية إلى الاستقلال السياسي، ولذلك فقد أيد ويلسون حق تقرير المصير للسوريين عام 1919، وهو موقف أعطى للسوريين فرصة للتفاوض حول مستقبل بلادهم.
أما النقطة الثالثة، والتي نعتقد أن تومبسون قدمت فيها جديدا، فتتعلق بقراءة شخصية رشيد رضا، في ظل التحولات التي عرفتها سوريا خلال هذه الفترة، فبعد أن كان رضا من أهم الداعين إلى رؤية ليبرالية أثناء الإعداد لدستور سوريا، جاء الدخول الفرنسي ليدفع به إلى التحريض الواسع ضد الغرب، وعلى الرغم من أنه في كتابه «الخلافة» بقي يؤمن بالسيادة الشعبية ، لكنه لم يعد يؤمن بالانسجام الكامل بين الإسلام والمدنيات الأوروبية. واللافت أن رضا عاد في كتاب آخر له «الوحي المحمدي» 1934، ليحث المسلمين على ان يبقوا معتدلين ومحترمين للآخر، كما حاول تقديم الإسلام بوصفه عقيدة عالمية، ليكون بديلا للويلسونية كأداة للسلام العالمي. في 22 آب /أغسطس 1935، وبينما كان رضا يجلس في المقعد الخلفي لإحدى السيارات المتجهة للقاهرة، أغلق عينيه، لتغادر بعدها روحه إلى خالقها. وقد أقيم حفل تأبينه في 2 نيسان/أبريل في مقر جماعة إسلامية جديدة /الشبيبة المحمدية. ما تلاحظه تومبسون أن دور رشيد رضا الخلاق في سوريا، على صعيد خلق توافق ليبرالي ـ إسلامي، لم يحفظ في الذاكرة، وغالبا ما جرى التركيز على أفكاره بعد فشل تجربة الأمير فيصل في سوريا على يد الفرنسيين، التي بدا فيها غاضبا من الغرب. مع ذلك نرى أن رضا بقي ينظر للإسلام بوصفه مشروعا عالميا، قادرا على خلق حالة من التوافق مع الآخر. لكن اللافت أن هذا الموقف لن يظهر مع تلامذته، وفي مقدمتهم حسن البنا، المولود في مدينة الإسماعيلية، وهي بلدة بنتها شركة غربية على قناة السويس، وجسدت الثقافة الأوروبية العلمانية، لكن على عكس رضا، لم يترك البنا فسحة للتشريع المدني خارج إطار الشريعة الإسلامية، ما يكشف كيف أن فشل التجربة الإصلاحية في سوريا، لم يؤثر فقط على هذا البلد، وإنما أجهض أي محاولات لتثبيت رؤية أكثر ليبرالية ومدنية في حياة المنطقة عموما.

كاتب سوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية