سؤال متأخر لكنه يظل قائما

تأخرت في الكتابة عن الفنان القدير الراحل حلمي التوني، لأني صرت أسبح طوال الأسبوعين الماضيين في ما كتب عنه. امتلأ فضاء السوشيال ميديا بالمحبة الدافقة، مع العزاء في رحيل الفنان الكبير في السابع من سبتمبر/أيلول الجاري. لم يكن غريبا أن يحدث ذلك، فهو فنان قدير قطع رحلة عظيمة مع الفن، جسّد فيه آماله وأحلامه في معارض مصرية وعربية وعالمية.
يُعَد التوني من أبرز الفنانين في مجال تصميم الكتاب والمجلات في العالم العربي، والإخراج الصَّحَافي لعدد من دور النشر، حتى بلغ عدد أغلفة الكتب التي رسمها أكثر من ثلاثة آلاف كتاب، غير المجلات التي رسم أغلفتها أيضا، وصمَّم العديد من المُلصقات الحائطية للمسرحيات والأفلام.
أخذني هذا الحب الدافق ولم يكفني ما كتبته من عزاء في رحيله، بل رحت أتابع ما يكتبه الكثيرون جدا على صفحاتهم في فيسبوك وتويتر وفي الصحف أيضا. أسماء مثل محمد أبو الغار وأسامة شوقي وباحثين مثل صلاح زكي أحمد وكتاب وفنانين مثل ثروت البحر وعصمت داوستاشي وماهر جرجس وأحمد اللباد وسيد محمود وشريف صالح والإعلامية منى سلمان وغيرهم عشرات. امتلأ فضاء السوشيال ميديا بأحاديثهم ولن أستطيع أن أحصيهم جميعا، ومع الأحاديث انتشرت لوحاته للكتب ولوحاته الشعبية وغيرها.
جعلت اللوحات الفضاء كله معرضا لحلمي التوني. لم يشغلني السؤال عن كل هذا الحب لحلمي التوني فقط، لكن السؤال عن كل هذا الحب للفن والفنانين. هو أمر يتكرر مع فنانين كثيرين رحلوا مثل عز الدين نجيب، أو يعيشون بيننا مثل ثروت البحر وعصمت داوستاشي وماهر جرجس وغيرهم الكثير. لكن السؤال الذي قفز أمامي وسط ما نعانيه من آلام عن خيرة شباب ورجال الوطن المعتقلين تحت اسم قانون الحبس الاحتياطي، وحالة الغلاء الكبيرة التي تشمل كل شيء، هو كم نحن لم نفقد قدرتنا على التعبير عن الجمال، وكم نحن رغم كل ما حولنا نعرف أن في الدينا جمالا يصنعه الفنانون والأدباء الحقيقيون، الموهوبون الذي تشكل حياة كل منهم أسطورة العودة إلى الوطن. أجل، فكل ما يبدعونه هو بحث عن وطن أفضل.
إن نظرة بسيطة في التاريخ منذ حضارات قبل الميلاد تجد أن الفنانين والمبدعين من الشعراء هم من استعصوا على الزمن، بما أنجزوه من لوحات صارت تملأ متاحف العالم، أو من عمارة في المساجد والكنائس والمدارس والأسبلة في بلادنا، أو دول عربية مثل العراق وسوريا وفلسطين واليمن، والمعابد في الهند والصين وآسيا، ويكفيك أن تمشي في شارع المعز في القاهرة لترى بنفسك، إلى جوار ذلك وقبله المعابد التي استعصت على الزمن في مصر مثل، معبد الأقصر أو معبد الكرنك أو معبد دندرة، أو المسلات المصرية التي ترتفع إلى السماء تشير إلى يوم البعث، أو الأهرامات التي لها المعنى نفسه. زال الحكام ولم يبق منهم غير اسم يتردد في كتب التاريخ قدحا أو إعجابا، لكن ما خلفه الفنانون والكتاب هو التاريخ الذي لا يموت، حتى لو كان الفنانون أقاموا كثيرا مما أقاموه من قصور تلبية لرغبة الحكام.
عشرات الصفحات أحتاجها لأنشر قليلا مما كُتب عن الفنان حلمي التوني الذي حضرت له معارض كثيرة، وأسعدني الحظ أن يرسم أغلفة روايات عديدة لي نُشرت في دار الشروق. قليل جدا مما كُتب أقوله هنا مثل حديث الفنان أحمد عز العرب عن حلمي التوني، وكيف هو صاحب الأسلوب المميز في فن الإخراج الصحافي الذي ساهم في تطوير مطبوعات دار الهلال منذ تولى أحمد بهاء الدين إدارتها، كما تميزت أعماله في فن التصوير بالاعتماد على الموتيف الشعبي واستخدام الصيغ التراثية بأشكال معاصرة. أو ما كتبه السياسي صاحب التاريخ في النضال السياسي الذي غادر بلادنا مرغما مثل الكثيرين وأعني به أيمن نور، الذي لم يكن أبدا بعيدا عن المفكرين والكتاب والفنانين، وهنا شيء مما كتبه على تويتر: « يرحل عنّا فنان بارع ومبدع، واحد من أبرز الشخصيات في عالم الفن التشكيلي. حلمي التوني، ولد في عام 1934، وتخرج من كلية الفنون الجميلة تخصص ديكور مسرحي في عام 1958. كانت له إسهامات كبيرة ومتعددة في عالم الفن، حيث عمل في دار الهلال مشرفا فنيا على المجلات، ومخرجا فنيا للعديد من دور النشر، بالإضافة إلى تألقه. كرسام ومصمم جرافيكي، أقام حلمي التوني العديد من المعارض في مصر وجميع أنحاء العالم العربي، حيث أبدع في لوحات تعكس جمال الفن الشعبي، وتحكي قصصا رمزية من خلال أعماله الفنية المميزة. كما شارك في معارض جماعية محلية ودولية، حيث حصد جوائز عديدة من لوحاته الفنية المميزة. نستذكر حلمي التوني كفنان استثنائي، ترك بصمة لامعة في عالم الفن التشكيلي وأثرا كبيرا في قلوب محبي الفن. رحم الله الفقيد وألهم أهله ومحبيه الصبر والسلوان وإنا لله وإنا إليه راجعون».
أو ما كتبه إبراهيم المعلم صاحب دار الشروق المصرية: «حلمي التوني الصديق الحبيب ورفيق رحلة النشر ومعاناة إدراك النجاح، أحد أساتذة الفن التشكيلي والكتاب والجريدة، وأحد أساطين وأساطير كتاب الطفل، وأكثر من أثراه متعة وبهجة وفنا راقيا ممزوجا بالمعرفة والأصالة المنفتحة.. الفنان المثقف والفيلسوف اللاذع الساخر، الذي أسهم إسهاماً لا يُبارى في مدرسته الرائدة، في رسم وإخراج مئات الكتب، ورسم آلاف الأغلفة، كما أخرج وصمم ورسم الجرائد والمجلات آخرها إبداعه التاريخيّ في مجلة «وجهات نظر» وفي معارضه المتميزة التي لم تنقطع حتى وهو يصارع المرض ويقاومه بالفن. الفنان الذي حاز عددا لا يحصى من الجوائز الدولية والعربية.. الذي كان يقول لي أنه يشعر بالخجل لبقائه بعد رحيل معظم الأحباء والأصدقاء ويدعو الله ليتولاه برحمته.. استجاب الله له وترك لنا الدعاء الحار له بالرحمة والمغفرة والعفو الكريم».
أو ما كتبته داليا سعودي أستاذة الأدب والمترجمة فكان «من قلب القلب» كما علقت عليها على تويتر: «أصبحتُ اليوم فوجدتُ مكتبتي تبكي. عشرات الكتب خرجت من أغلفتها أنّات، ولوحات الحائط كأنها تذرف الدموع.. كأنه نشيج خافت يتحول فيه الصوت إلى لون والحرف إلى رمز.. برحيل المبدع الكبير الأستاذ حلمي التوني تُنكس راية الفن التشكيلي المصرية والعربية حزناً على أحد أهم فرسانها. ننعى فناناً فريداً أنشأ لغته التشكيلية الخاصة، وأبجديته اللونية الكاملة، ورموزه البصرية الفاتنة، حتى صارت له بصمته التي عُرف بها وعُرفت به. كان حلمي التوني مفكراً تشكيلياً جليلاً. تتوالى في الذاكرة لوحاته، نساء نجيب محفوظ، والعروسة والحصان، وبرتقال فلسطين، وهوية مصر الحاضنة الحاضرة دوماً.. وفيما اللوحات تتوالى، تتعالى ضحكاتنا في الطفولة مع ذكرى عرائسه المسرحية في «صحصح لما ينجح» وأشعار صلاح جاهين تعانق بهجة التوني التشكيلية. كان دوماً هناك منذ تفتحت زهرة الذاكرة، يسكب في وجداننا الألوان».
كادت تبكيني كلمة داليا سعودي، لكن تعود الاسئلة وتقفز ليس عن هذا الحب للفن والفنانين فقط، لكن عن هذا الغياب عمن بيدهم الأمر في حكم البلاد، فمثل حلمي التوني وغيره الكثير يستحقون أن تقام لهم المتاحف وأن تسمى بأسمائهم شوارع وميادين وقاعات بحث في جميع الكليات. هم بما أنجزوه في غني عن الخلود من قِبل غيرهم، لأنهم تربعوا على قمته ولا يفكرون في شيء من هذا، لكن هكذا تعمل الدول التي تعرف أن الخلود ليس حصاد السياسة، خاصة وأن سياستنا أتت بالهزائم أكثر. إن أسماء ضمائر الوطن على الشوارع والميادين، وفي المدارس قبل الجامعات، وفي الكتب الدراسية أيضا التي ينقصها الكثير جدا عن الفن والأدب المعاصر، تأخذ الناس إلى المعاني السامية، حب الوطن يأتي من حب فنانيه ومبدعيه وإنجازاتهم المحلقة في فضاء الخلود.

كاتب مصري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية