منذ فترة قليلة، وأثناء اجتياح السيول والفيضانات لكثير من المناطق في السودان، مضيفا مآسي جديدة إلى مأساة الحرب، ومشيدا نزوحا جديدا لأشخاص هم أصلا نازحون من أماكن قتلتها الحرب، انتشر شريط مسجل لطبيب يعمل في مستشفى طوكر، شرق السودان، وهو يسبح في بركة ضخمة من المياه بين بيته والمستشفى، ذاهبا إلى عمله. كان الشريط أو الفيديو مؤثرا فعلا، ليس بسبب ما فعله الطبيب ليمارس إنسانيته، ولكن ما فعلته الحكومات الجائرة، في جعل وطن ضخم وممتلئ بالخير من كل ناحية، ويصلح لرفاهية الناس، جعلته وطنا مجدبا، طاردا لقاطنيه، وفي النهاية قتلته في صراع عبثي، وحرب بلا أي طائل، حتى لنصبح كلنا، مشردين في بلاد لم يفكر معظم الناس في طرقها، بل أن هناك بلادا لم يكن أحد يدري أنها موجودة في الجغرافيا، الآن تطرق من أجل الحياة.
هذا المشهد، أي مشهد الطبيب الذي يسبح في مياه الأمطار، أعادني سنوات طويلة إلى الوراء، إلى أيام سيرة الموجع التي دونتها في كتاب لي، يدرسه الطلاب الآن في مدارس المغرب. فقد كنت في مكان هذا الطبيب يوما ما، وسكنت في المكان الذي يسكن فيه، وعبرت تلك المسافة بين السكن والمستشفى، آلاف المرات، ولم أكن أتصور يوما أن تلك البقعة الخاوية، حيث تتراكم البرك، وتعوي الكلاب، ويتبرز البشر، وتموء القطط الضالة الجائعة، ما تزال خاوية هكذا، لم تمتد إليها أي يد تعمرها، ولم يحاول كل من حكم تلك المنطقة المليئة بالخير، والفقيرة في الوقت نفسه بسبب الفساد وسوء الإدارة، بأن يضع فيها على الأقل مدرسة، أو يمد المستشفى الفقير إليها مضيفا مزيدا من العنابر والخدمات؟
وبالرغم من أنني لا أعرف شيئا عن مدينة طوكر الآن، وإن كانت قد كبرت أو ما تزال تلك القائمة على إثني عشر صفا من البيوت المأهولة بالفقر في الغالب، لكن أستطيع قراءتها من مستشفاها، وأعرف أن الخدمات الطبية الآن في أعلى مستوى في الدنيا كلها. هناك تحصينات مستحدثة، وعنابر نظيفة مرتبة، ويوجد أوكسجين، وطوارئ لإنقاذ الأرواح بلا أي عناء كبير، ما على المتوعك في أي ساعة، سواء الاتصال برقم الطوارئ، ويكون في دقائق ممددا تحت العناية المكثفة، للبحث عن علته ومداواتها.
أستطيع تخيل السوق الذي كانت فيه دكاكين ومقاهي محدودة، وبضائع بعضها يأتي من بورتسودان أو الخرطوم ببطء، وبعضها يأتي مهربا من إريتريا عبر الحدود، دكاكين أحمد وعبد الله الحداد، ومحمد صالح، والوجيه حسن الذي كان يسكن في بيت متطور إلى حد ما، به ثلاجة تعمل بالكيروسين، ويملك ألبوما للصور، يظهر فيه يرتدي البدلة ورباط العنق، ويطعم الحمام في ساحة الدوم في ميلانو. إنه تطور شخصي، وحياة مترفة خاصة، لكن لا تخضع لجو البلدة العام الذي كان جوا في منتهى البدائية، لا تستطيع أن توصد باب بيتك، لأن لا خصوصية هناك، ولن يكف الدخول والخروج منه، في أي ساعة. لا تستطيع أن تضع غداء لك ولأسرتك، لأن الغداء يعتبر ملكا عاما لكل العابرين من حولك. هناك أيضا مطعم عبد الحليم، الذي استوحيت أجواءه في أعمال لي، وسميته المطعم المفخخ، نسبة لأن مالكه، والطاهي الرئيسي فيه عبد الحليم، لم يكن قرويا من المنطقة، وإنما عاصمي جاء هكذا واستوطن وتزوج من هناك وأسس مشروعه المربح إلى حد ما.
لا أظن أن ذلك السوق تغير، والحياة هناك كما قلت لا تبدو راغبة في التغير، إنها حياة عصية راسخة في الشقاء، عليك تذوقها هكذا، أو الابتعاد عنها، وأعرف من ابتعد، ولكن ربما لشقاء آخر في مكان أشد قسوة، ومن ظل هناك ولم يخرج أبدا، مثل معلم في مدرسة يعتبر وجوده ضرورة، ومهمة مقدسة لن يتخلى عنها، مثل ممرض كالعم بسطاوي، ولد هناك وعاش ومات ولم ير أبعد من دلتا خور بركة، ومثل سمبابة أوهاج، الممرض العظيم الذي كان يعمل معي، ويقوم بحمايتي، ضد خناجر وسكاكين القرويين التي يمكن أن تخرج من جراباتها في أي لحظة، بسبب ومن دون سبب.
أتذكر طموحات كثيرة صادفتها هناك أيضا، طموحات موظفين دوليين جاءوا للعمل في الإغاثة، وإنشاء مشاريع لم تنجح قط، وكانوا يتحدثون عن إضافة ذلك النشاط الوعر إلى سيرهم الذاتية، والحصول على ترقيات وعلاوات في مجالهم، وأتذكر بكل حزن محمد طاهر الذي كان ولدا مختلفا تماما، كان في فقره وعزلته البعيدة تلك، ينظر إلى العالم بثقة، وأنه سيصبح طبيبا ذات يوم. كان يقرأ كتبا أكبر من طاقته، يطلبها من بعض الذين يذهبون للعاصمة ويعودون، ولكن لم يعش ليمشي خطوة واحدة أبعد من تلك البلدة، حيث مات بمرض السكر، الذي ظهر عنده وقتله، قبل أن نعرف ما به.
أتذكر أيضا الحي العشوائي الذي كان خلف سكن الطبيب مباشرة، حي عشوائي حقيقي، بيوته من القش والصفيح والكرتون، وتستطيع وأنت راقد في حوش السكن أن تسمع أصوات العراك، وأصوات المتعة الليلية، وأصوات الصغار الذين لا تعرف ماذا ينتظرهم إن كبروا وسط السل والتايفود والملاريا والخناجر المسنونة. أيضا قد لا تنام أبدا بسبب شخير محمد آدم، الذي كان من سكان الحي، ويملك شخيرا أسطوريا، يتفاخر به، ويرفض علاجه باعتباره هبة من عند الله، تمنع أن تقترب منه الكلاب الضالة، وربما الثعالب التي قد تتسكع في بلدة لا تملك أي مقومات البلاد في شيء. ومن الغرابة أنني لم أر محمد آدم ذلك قط، طوال وجودي هناك، وإنما تأرقت كثيرا بشخيره، وأسمع حكاياته وأقواله المأثورة من آخرين، يخرجون من الحي، ويزورون المستشفى.
أتذكر إعصار الإيتبيت، إنه إعصار قاتل، هكذا أسميه، وغالبا ستسميه أي دراسة نزيهة تتعرض للأعاصير، لكن أهل المنطقة يسمونه المبروك الذي يأتي بالمطر ويقود نهر بركة الموسمي من منبعه في إثيوبيا. وكان هذا الإعصار يشكل بالضبط ما شكلته بركة الماء التي سبح فيها الطبيب بالنسبة لنا، كانت الرؤية صفرا تقريبا، وكنا نهتدي بحبل مربوط بين المستشفى والسكن، أو يمسك بأيدينا بعض القرويين ليقودوننا إلى أعمالنا.
إنها ذكريات موجعة، عن بلد موجوع، وبلدة لم يفارقها الوجع أبدا، وأظنها كما وصفتها الآن، أي راكدة في ما قبل ثلاثين عاما، أو ربما نزحت للوراء، ولم يعد حتى ما كان، موجودا الآن.
*كاتب من السودان