أين ذهب الأمس؟… جمال الغيطاني وسؤال الزمن

لطالما أرّق سؤال الزمن جمال الغيطاني، وعبّر عن ذلك في أدبه بشكل عميق ومؤثر للغاية، بل ومؤلم في أحيان كثيرة، ذلك الألم ذاته الذي يقع في النفوس بفعل الزمن وقوته القاهرة وجبروت سيره الحتمي، الذي لا يهادن ولا يرحم. يُعد الزمن موضوعاً فنياً مهماً في أدب جمال الغيطاني على اختلاف أساليب تناوله المباشرة وغير المباشرة، ويهيمن موضوع الزمن بقوة على أعماله، ويُعد مفتاحاً عظيماً لفهم نصوصه وكتاباته. شاءت الأقدار أن يمتزج جمال الغيطاني بالزمن بقدر امتزاجه بالمكان، فكما كان الأديب الراحل جزءاً لا ينفصل كيانياً عن المكان المصري، فإن روحه اختلطت بالزمن المصري أيضاً أو بالأزمنة المصرية وتغلغلت فيها، كان الغيطاني يجيد السياحة في الزمن، ويهوى السفر في دروبه ومجاهله، ولم يكن يرضيه أو يشبع فضوله تلك الجولات البسيطة السهلة في الماضي القريب أو البعيد، بل كان يطمح إلى السفر خارج حدود الزمن، والتحرر من قبضته، ليسبر غور ذلك المجهول العظيم ويكشف سره ويجد إجابة لذلك السؤال الذي تردد في ذهنه وعلى لسانه منذ طفولته المبكرة «أين ذهب الأمس؟». ظل ذلك الفضول الشديد يلازم جمال الغيطاني طوال حياته ويدفعه إلى مطاردة الزمن على الأوراق وفي الشوارع وبين الأزقة، وما كان التصاقه الشديد بالمكان إلا بحثاً عن الزمن أيضاً، فعندما كان يتفقد القاهرة القديمة بروحه وكل حواسه، كان يبحث عن أمس لم يعد موجوداً، وعندما بات ليلة كاملة بمفرده داخل الهرم الأكبر (هرم خوفو) كان يريد أن يمسك بطرف زمن، حاول أجداده الفراعنة الإمساك به من قبل، ولم يتمكنوا من ذلك، لكنهم استطاعوا فقط أن يحولوا الزمن إلى مكان أو إلى بنيان جامد.
الهم الأعظم
أين ذهب الأمس؟ طرح جمال الغيطاني السؤال طفلاً، فكان سؤالاً طفولياً قد يبتسم سامعه، ثم طرح السؤال كبيراً، فصار سؤالاً كونياً فلسفياً، يبعث الأسى في النفس وربما تدمع له العين. كان الغيطاني دائم التأمل في الزمن يمعن التفكير فيه بدءاً من الحركة الميكانيكية البسيطة للثواني والدقائق والساعات، تعاقب الليل والنهار، الميلاد والموت، انقضاء السنوات، التاريخ الذي كان عنده زمناً منقضياً منتهياً فلا فرق بين لحظة مضت منذ ثوان، ولحظة مرّ على انقضائها آلاف أو ملايين السنين، كلاهما لا يمكن استعادته كما كان يرى. في تأمله الطويل وتفكره المستمر في الزمن قرأ جمال الغيطاني في الفكر الإنساني القديم وفي الأساطير والأديان والفلسفة، كان يبحث عمن يشاطره همه الأعظم، ويهدئ من روعه أمام تلك الحقيقة الرهيبة، وهي استحالة التغلب على جبروت الزمن والفكاك من سطوته، يقول الغيطاني: «إن الدهر هو همي الأساسي، الدهر بكل مسمياته بدءاً من اللحظة الآنية إلى الزمن القديم والعصر والحقبة، وكل هذه المسميات اسم لشيء واحد، شيء لا يُقهر، لا أول ولا آخر، مجهول الكنه، على الرغم من أننا نرى ملامحه وعلاماته في كل ثانية تمر بنا». ذهب جمال الغيطاني إلى كتب التاريخ بحثاً عن إجابة، لجأ إلى الكتب التي تختص بتاريخ مصر والقاهرة على وجه الخصوص، مفتشاً عن ذلك الأمس، وعن وجه مدينته القديم الذي لم يعد موجوداً كما كان، وإن بقيت آثاره. كانت الرغبة في المعرفة هي الدافع وكذلك الرغبة في الإمساك بذلك الأمس البعيد، والاطلاع على أحداثه وشخصياته، والإحاطة بكل ما فاته ولن يستطيع بلوغه أبداً.

يمكن القول إنه كان للنشأة المكانية دور عظيم في تنمية إحساس جمال الغيطاني بالزمن، ذلك أنه نشأ في مكان يضم آثار من سعوا قبله، وفي مثل هذا المكان القاهري العتيق، ينجّر المرء إلى الأمس رغماً عنه، فالفضاء الذي كان يحيط بالغيطاني والمناظر التي كان يتطلع إليها، كل ذلك كان يضم شيئاً كثيراً من الماضي، بل إن الأرض التي كان يخطو فوقها كانت عامرة بأصداء خطى السابقين وأنفاس من رحلوا. كان الغيطاني في نشأته محاطاً بإبداعات الإنسان المصري من نقش على جدار، أو خط أو زخرفة، وفي كل ذلك إشارات إلى بشر كانوا هنا، عاشوا زمناً وقضوا أوقاتاً في هذه البقعة، أو تلك فأخذ يقتفي آثارهم وسيرهم والحكايات المتداولة عنهم، أراد أن يعرف من عاش في منطقته ومن سعى في شوارعها، كما ذهب إلى العمارة من أبنية وجوامع وبيوت وقصور وأسبلة وتكيات وغيرها، يسأل من بنى؟ من شيد؟ من أبدع هذا الفن؟ وهكذا كان السؤال الطفولي «أين ذهب الأمس؟» منطلقاً نحو أسئلة أخرى عديدة. ثم إن كون جمال الغيطاني مبدعاً فإن هذا في حد ذاته يرتبط بفكرة الزمن، حيث إن الإبداع في وجه من وجوهه محاولة لمقاومة الفناء والعدم والتحايل عليهما، وعن هذا يقول جمال الغيطاني: «رغم وعيي الأتم أن كل شيء سيمضي إلى فناء، لكنني أحاول أن أترك علامة، هذا الندم المؤكد الحتمي لا يقهره إلا الإبداع، هذا ما أدركه الإنسان منذ فجر البشرية، عندما كان يتطلع برهبة إلى الشمس الغاربة، وهو ليس على يقين من عودتها مرة أخرى، عندما يخلو بنفسه في الكهف فيرسم على الجدار ما يخشاه، ما يتخيله، ما تبقى في ذاكرته، هكذا يبدو جوهر الحضارة المصرية القديمة، إنه قهر العدم بالإبداع، بالرسم، بالعمارة، بالحروف التي اعتبرها عمارة المعاني برفض العدم، كان الكهنة يصيحون في وجه الميت قبل دفنه بعد تحنيط الجثمان ـ انتبه أنت لست بميت ـ هكذا كان الزمن محور الحضارة المصرية القديمة، كان الميت يُدفن مع حاجاته الشخصية حتى يستخدمها عند عودته مرة أخرى إلى الحياة».

وكمصري صميم وكمبدع عظيم اتخذ فعل الكتابة عند جمال الغيطاني صفة المواجهة مع الزمن، أو محاولة الانفلات منه، أو الاحتماء وراء الأوراق والكلمات القادرة على الصمود زمنياً لأمد أطول مما يستطيعه كاتبها، فيقول: «لأن اسمي سيتساقط كورقة جافة من شجرة الأصل والسلالة، كما تساقط الذين سبقوني من أجداد جدودي، آه لو تجلى لي أحدهم، عاش منذ آلاف الأعوام، من هو؟ كيف عاش؟ بمن ارتبط؟ أدرك أن العودة محال لأن الدنيا في فراق دائم عن الدنيا، أبصر رقعة الأرض في سفرها عبر الزمن الذي لن أعيشه، أرى تدفق الحركة فوقها بعد فراقي النهائي، وأتمنى لو أثبت رسالة أو علامة فوقها لمن سيطؤها، لعل وعسى». كان الأديب جمال الغيطاني مسكوناً بهموم الموت ولوعة الغياب والتلاشي وانهزام الإنسان أمام الزمن، وكانت تحتدم لديه هواجس الفناء وانقضاء الوجود وانصرام الزمن، واليأس من القدرة على مغالبة تلك الحركة الجبارة ومدافعتها، وكان كثيراً ما يتناول الزمن في كتاباته، من خلال مشاعر الفقد، فقد الأهل والأحباب ورحيلهم الحتمي بفعل الزمن، وكان يجيد التعبير عن تلك المشاعر ويلامس أعمق مخاوف القارئ وأشد آلامه، فيقول على سبيل المثال: «لماذا الذهاب والفوت؟ لماذا النسيان؟ ومن يمحو الأيام الغالية منا؟ من يبسط ظلاله فيبهت ما ظننا أنه لن يبهت أبدا؟».

كان الحزن العميق يغلف كل هذه المشاعر، الحزن الذي لا مفر منه ونعرفه جميعاً، وفي الكثير من كتابات الغيطاني جرعات مكثفة من الحزن الذي وصفه الأديب الراحل بأدق تفاصيله، مع الحضور المستمر للزمن وظله المهيمن على كل شيء، ومن كلمات الغيطاني وأحزانه قوله: «فلما كانت الأزمنة يا أحبائي ثلاثة، ماض وحاضر ومستقبل، لذا كانت الأحوال ثلاثة، فالحزن على الماضي، والفرح في الحاضر، والخوف من المستقبل، وقد عرفت الثلاثة، غير أن الكلوم غلبت عندي، فأنا والله لست بغافل عن الحاضر المنقلب إلى ماض، ولست بساه عن المستقبل الآتي اللاحق بالماضي، أليس كل ماض بعيد وكل آت قريب؟ الحزن متمكن عندي، مقيم مستوطن، فلا تغتروا إذا ما رأيتموني باسماً أو ضاحكاً، المأتم منصوب دائماً في حشاشتي، أعز من أحببت ولى عني، وأرق من عشقت راح مني».

كاتبة مصرية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية