بعد أن انتهى رسميّا عصر النقد وتمّ نعي الناقد، وبعد أن تحوّلت القراءات النقديّة إلى قراءات عاشقة، لتكرس وبشكل نهائي مفهوم موت الناقد، حيث لم تعد متعة ولذة الكتابة مرهونة بإضاءة النصوص أو اكتشافها، أو كل ما يمكن أن تقدمه عبر تعدد ثيماتها من وجهات نظر ومعانٍ جديدة، يكون الابتكار وليس التكرار عنوانها، والوسيلة الوحيدة التي يمكنها إتمام هذه المهمة هي استحضار المنظومة المعرفية الحافّة بموضوعة النص؛ التي تتكون من قوانين الخطاب الأدبي بالإضافة إلى الموهبة والثقافة بالفحص والتدقيق بالبحث والفحص والتدقيق، حتى نصل إلى مفهوم رولان بارت لذة النص، التي تقود بشكل تلقائي إلى لذة القراءة التي هي هدف القارئ.
والفرق بين القراءتين، أن القراءة النقديّة تتوجه إلى النص، بينما القراءة العاشقة تتوجه إلى صاحب النص، من حيث العلاقات الشخصية، أو المنفعة المادية، أو الدعم اللوجستي، الذي يقدّمه صاحب النص إلى الناقد أو الناقدة، كالمساعدة في النشر مثلا، أو الدعوة إلى مهرجانات، أو إقامة أماسٍ، أو العلاقات العائلية، أو الأعطيات المادية، وبذلك تكرس هذه الممارسات المشينة والمهينة لمهنة النقد بشكل واقعي نهاية مأساوية لعصر النقد، إن ظاهرة القراءات العاشقة، التي يتمّ بموجبها التجاوز على كل الخروقات التي في النصوص، من حيث المخالفات الفاضحة لقوانين الخطاب الأدبي، ولمفهوم الأبداع بشكل عام، قادت في الفترة الأخيرة إلى تعالي الأصوات في كل العالم، وليس فقط في العراق، أو الوطن العربي إلى التحذير من هذه الظاهرة، التي أخذ المتلقي يرصدها بشكل جلّي وواضح، ويوجه انتقادات حادة ولاذعة إلى النقاد حول هذه التصرفات غير الأخلاقية، فضلا عن غير المهنيّة التي أخذت تتسع بشكل لافت، وما شدّني حقيقة هو تبرير هؤلاء النقاد والناقدات إلى تصرفاتهم هذه، بحجج مخجلة ومضحكة، ألا وهي ضعف النصوص، وجوابي لهم، ألم تكن هذه النصوص ضعيفة عندما قمتم باختيارها؟ ألم تلاحظوا ضعفها أو هشاشتها، أو ركاكتها عندما هرولتهم لتحليلها؟ ألستم أنتم من اختارها؟ أم أنّها فرضت عليكم؟ أليس هذا عذرا أقبح من ذنب؟ كيف تطلبون من القراء أن يحترموا أسماءكم وأنتم من يسيء إليها؟ كيف تنتظرون من القرّاء أن يحترموا كتاباتكم وأنتم من أوصلها إلى القاع؟ أليست هذه أسماؤكم؟ أليست هذه سمعتكم؟ إن لم تحافظوا أنتم عليها فمن يحافظ عليها إذن؟
للأسف لم يعد هذا مقتصرا على المشتغلين الجدد في النقد، بل تعداه إلى كبار النقاد الذي قاموا بوضع مطبوعات لا قيمة لها مطلقا، لها شكل كتاب فقط؛ حيث قاموا باختيار نصوص لأصدقائهم من باب المجاملات الشخصية وأسقطوا عليها تحليلات القراءات العاشقة، نصوص تشمئز النفس من مجرد رؤيتها، وتتقيّأ الذائقة من مجرد محاولة النظر إليها، وهكذا أساء هؤلاء النقاد الكبار لأسمائهم وسمعتهم التي أخذت منحى انحداريا واضحا، بعد أن كثرت الانتقادات الموجهة إليهم في السرّ والعلن، وما يجلب الانتباه حقّا أن كل هذه القراءات العاشقة التي توجه إلى صاحب النص وليس إلى النص، لم ترفع من قيمة النص، ولا من قيمة صاحبه، بل على العكس أصبح لها مردود في منتهى الخطورة، من حيث السخرية سواء من الناقد أو من صاحب النص، أو من النص على حدٍ سواء، وبهذا يتمّ تكريس مفهوم موت الناقد وانتهاء عصر النقد بشكل جليّ لا لبس فيه، هذه القراءات تجاوزت حدود المهنية ودخلت دائرة الأكاذيب والنفاق والتضليل والتطبيل والترويج والتزوير للحقائق، بل تعدّتها إلى تشويه الذائقة العامة للمتلقي، وليس فقط الإساءة إلى ما تبقى من مسمى النقد! هذا إذا تبقى شيء أصلا، العلاقات الخاصة التي جاءت بالقراءات العاشقة قد وصلت إلى مرحلة خطيرة حقا، حيث بدأت تصل إلى الإشراف على رسائل الماجستير وأطاريح الدكتوراه، في بلدان غابت عنها معايير التقييم الأدائي الجامعي المهني، بعد أن احتلت تلك الدول ذيل قائمة اليونيسكو للثقافة والفنون، وجاءت تلك الجامعات في آخر قوائم تقييم جودة الأداء الجامعي، بل خرجت تماما من أيّ تصنيف، أشرفت ناقدات ونقاد على رسائل ماجستير لأرباع الشعراء، ممن لا يجيدون حتى اللغة، أو الإملاء أو القواعد، بحجة كثرة الكتابات النقدية العاشقة على هذا وذاك من أرباع الشعراء والأدباء، فإذا كان مستوى الناقد، أو الناقدة متواضعا، كيف لا يقدمون أرباع الشعراء إلى طلابهم وطالباتهم، كمواضيع ويشرفون على رسائل الماجستير هذه؟
هذه الجامعات خرجت من معايير الجودة، مثلما خرج أساتذتها من معايير النزاهة والمهنية، حيث تحوّل النقاد والناقدات إلى مهرّجين ومهرّجات ومروجين ومروجات للفساد الثقافي والعلمي معا وأصبحت أسماؤهم مدعاة للسخرية والشفقة، أيّ محاولة لبث الروح في جثة ميّتة سوف يكتب لها الفشل! ومهما بلغت عبقرية الناقد أو الناقدة فلن يفلحوا في رفع مستوى نص هابط، بل سوف ينعكس على سمعة النقاد، ومثلما ينقلب السحر على الساحر، تنقلب هذا القراءات العاشقة على أصحابها وعلى أصحاب هذه النصوص، أشعر بالخجل والخيبة على الحال الذي وصل إليها هؤلاء، مقابل تراجع واضح بمنظومة القيم والأخلاقيات أمام سطوة الشهرة والابتهاجات المؤقتة التي تحدثها التعليقات واللايكات على وسائط التواصل، إن كثرة المطبوعات تحت مسمى الكتب، التي لا يقرأها أحد فتتكدس في دور النشر، التي اختصرت أعداد النسخ المطبوعة إلى مئة وخمسين نسخة تذهب عشرون نسخة منها إلى المؤلف والباقي يتكدس في دار النشر، أما المؤلف فيحتفل به على مواقع التواصل لمدة سويعات، ثم يركنه جانبا وإلى الأبد، إنّه فعلا لأمر مخجل ومحزن في آن معا، فقد تحوّلت كل القيم والأخلاقيات إلى وسائل لتحقيق غايات آنيّة في انتشار مفبرك خاطف سرعان ما ينتهي لينطوي معه فصل مطبوع له شكل كتاب لكن ليس له أيّ قيمة.
أمّا القراءات النقديّة فهي تلك التي توجه إلى النص، وليس إلى صاحبه، فيتمّ تحليل النصوص وفق نظريات محددة ورؤيا نقديّة حقيقية، تركز على الجانب الإبداعي وتقيّم ما تراه ضعيفا في النصوص، وتأخذ في الاعتبار جميع قوانين الخطاب الأدبي، لذلك نرى هذه الدراسات تتوجه إلى أدبية النص دون صاحبه؛ معنية بالفحص والتدقيق والبحث والإشارة إلى مواطن الجمال والقبح والقوة والضعف في النصوص، وهذا هو النقد التقويمي الذي دعا له رونان ماكدونالد.
النقد الزوومي
إنّ النقد عبر آلية الزووم أو تطبيق zoom تحوّل إلى كارثة حقيقية تبشر بأفول مهنة النقد، بما أنزلق إليه هذا النوع من النقود إلى الهاوية اللاأخلاقية، حيث حوّلت بعض منصات الزووم النقاد والناقدات إلى روبوتات آليّة، يرسلون إليهم كتبا أو روايات أو دواوين شعرية لا قيمة لها، لأسماء ليس لها أيّ حضور في الساحة الأدبيّة؛ ويطلبون منهم تقديم قراءات عاشقة (مجاملات).
موت الكتابة النقدية الجادة قادت إليه عدّة أسباب:
أولاً، إن القراءات النقدية قد تحوّلت إلى قراءات عاشقة (مجاملات).
ثانياً، إن النقاد الأكاديميين باتوا متقوقعين على أنفسهم وعلى أساليبهم القديمة، ولم يجددوها.
ثالثاً، ما يسمى بالنقد عبر آلية الزووم، وهذه وحدها مصيبة بكل القياسات، حيث يقوم صاحب أو صاحبة المنصة عبر تطبيق زووم باختيار شاعر لا يعرفه أحد، ولم يسمع به أنس ولا جان، وليس له أي علاقة بمفهوم الإبداع ويطلب من مجموعته (عائلته) من الناقدات والنقاد، أن يقدموا قراءات عاشقة.
رابعا، هنالك موجة جديدة من هواة النقد ممن اتخذوا من هذه المنصات منطلقاً لآرائهم الشخصية تحت مسمى النقد.
وهكذا اجتمع لدينا نقاد وناقدات أكاديميون متخلفون ثقافيا وهواة نقد لا يعرفون أبسط قواعده، وكلا الفريقين غير معنيين بتطوير أدواتهم النقدية، أو حتى القراءة؛ فهم لا يقرأون بالمرة وغير معنيين بالثقافة ويكتفون بما يرسله إليهم صاحب المنصة من دواوين شعرية لأرباع وأنصاف الشعراء، ليصبوا عليها ذات القوالب النقدية الجاهزة التي حفظوها عبر الزمن، بتغييرات بسيطة، وبما يلائم كل نص والحالة الأكثر غرابة أن هذه القراءات العاشقة تجمع بعد كل ندوة ليتم تضمينها مطبوعا له شكل كتاب، وليس له أيّ قيمة لا نقدية ولا أدبية ولا ثقافية، وهكذا يعطون العلامة الكاملة إلى أرباع الشعراء وأشباههم حتى جعلوهم يصدقون أنفسهم بأنهم شعراء كبار، علما أنّهم لا يعرفون أبسط قوانين الخطاب الأدبي، من حيث اللغة والقواعد والإملاء والوزن أو أبسط آليات القافية.
ناقد وشاعر عراقي