اليد والقلم

حجم الخط
0

الياس خوري اسم فريد وكبير ولامع، منذ رأيته لأول مرة في «مركز الدراسات الفلسطينية» في نهاية السبعينيات من القرن المنصرم، اسم شاركنا مسيرة حياتنا، شاركنا التحوّل والنكوص، الحرب والسلم، الكتابة والحلم، وسار معنا في طرقات الرفض للحروب والديكتاتوريات وطرق القتل التي يتفنن بها القاتل المأجور، انحاز مبكراً لعدالة القضية الفلسطينية، تشرّبها وهو فتى في العشرينيّات كقطرات من الندى، وكان يأخذ هذا الندى مقطراً كشراب خاصٍّ به، وكمقوٍّ ونوعٍ من البلاسم، ليخلطه في النهاية بحبره الجليل، من هنا أضحت كلماته شبه مباركة، كونها تنبع من روح قدسيّ، من هالة داخلية، يمكن تسميتها بالإرادة الفذة والصعبة والنادرة، ولهذا أمسى مندفعاً بحس نابع من الضوء الجواني باتجاه قضية جريحة، قضية العرب أجمعين، في مكان مُصادر، هو مهد المسيح، وروح القدس، والسفر النوريّ المتوّج في الأقصى.
رأيته المرة الثانية، في بيت الشاعر أدونيس في بيروت، أيام النشوة الأدبية والبحبوحة الثقافية والشعرية والفنية، أيام صعود المجلات الرائدة إلى قمة الرونق الأدبي، كمجلة «الآداب» و»مواقف» و»الكرمل». كان قد صدر للياس خوري حينذاك كتابه النقدي الأول وهو، دراسات في مدار الشعر ونقده نظرياً وتطبيقياً وعلمياً ووفق المناهج الحديثة للأدب. حين زرته في مركز الأبحاث للدراسات الفلسطينية من أجل نشر قصائد لي، بعد أن تسلم سكرتارية تحرير مجلة «الكرمل»، المجلة الرائدة التي كان يرأس تحريرها الشاعر محمود درويش، نشر قصائدي تلك في العدد الثاني من المجلة.. كان يتمتع بحس نقدي عال، ورؤية جمالية وإبداعية مكينة، ومبكّراً كان لديه اطلاع واسع على الأدب عامة، من نقد وشعر وقصة ورواية، فضلاً عن عمله الفكري الدؤوب في مركز الدراسات والأبحاث الفلسطيني، وانشغاله الدائم بعالم النقد وما يطرأ عليه من تحوّلات.
والحق أني لم أر الياس خوري في كل لقاءاتي به، إلا وكان القلم في يده، فهل كان قلمه رمحاً محارباً بالكلمات، رمحاً يقيه تحدّيات الزمن ومخاطر ومشكلات ومطبات الحياة، وهل كان هذا القلم حِصناً وقلعة وحامية أيضاً، في أزمنة الثورات المغدورة والأحلام المنكسرة والاحتلالات المتواترة؟ نعم كان قلم الياس خوري سيفاً من مداد خاص، سيفا شَهَره على الدوام في وجه المتواطئين والمتخاذلين والمساومين والمطبّعين مع العدو، والزاحفين إلى معاقل الفاشية الإسرائيلية الجديدة.
التقيته كثيراً في رحاب جريدة «السفير» في بيروت ، حيث كان مسؤولاً عن «الملحق الثقافي» للجريدة في فترة من الزمن، لم أكن أعطيه قصيدة في ذلك الوقت إلا وسارع إلى نشرها، وسخّر ملحق الجريدة هذا للكثيرين من أمثالي، لقد نشر لأسماء عربية وعراقية ومن مختلف الاتجاهات والمحاور والمنابع، وأضفى على الحياة الثقافية اللبنانية والعربية مقدرة تنويرية، جددت في المفهوم الثقافي للملاحق الأدبية، مستمداً إياها من ثقافته الواسعة والمتنوّعة والمتبحّرة في الثقافة العربية، وكذلك في الثقافتين الفرنسية والإنكليزية، ثم اطلاعه على كل ما يستجد من معرفة نيّرة، وتطوّرات وتحوّلات ثقافية عالمية، ليراقبها هنا بصيغة مدروسة وفاحصة ودقيقة، ليعكسها في ما بعد على ثقافتنا العربية، وبروح المثقف الحصيف، ذي الرؤيا الكاشفة والذائقة الأدبية السابغة.
بعد مضي عقود من الزمن، تبدلت فيها أحوال وتجددت مقامات، ومرّت السنوات متسارعة، أعود وأراه من جديد هذه المرّة مسؤولاً لـ»ملحق جريدة النهار الثقافي»، طبعا وكالعادة وكما رأيته في كل المرات السابقة، كان جالساً في مكتبه وفي يده القلم وأمامه الورق، مستغرقاً في الأفكار والرؤى والكتابة السائلة بين أصابعه، كتيار غير مرئي من الشهد، الممزوج بالمكابدات والعناء والخيال المترامي الأطراف. في «ملحق النهار «وخلال زياراتي للصحيفة، كنت أرى هناك وبغبطة مشفوعة بالشغف واللهفة الشعرية أصدقائي الشعراء وهم كثر، من العاملين في الملحق، الشعراء عباس بيضون، بسام حجار، إسكندر حبش، عقل العويط، بلال خبيز، جوزيف عيساوي، إسماعيل فقيه، وجاك الأسود المساهم من خارج الصحيفة. بدا الملحق في أيام الياس خوري مثل مقهى ثقافي، أو ورشة عمل ثقافية، فهناك كنا نشرب القهوة وندخن ونقرأ الأشعار لبعضنا، ونتداول بعضاً من إصداراتنا الجديدة في الشعر والأدب، وما يستجد في عالم الترجمة لدى الأصدقاء المترجمين، كالشاعر المحبوب والصديق الودود المرحوم بسام حجار وإصداراته المتواترة والمميزة في عالم الشعر والرواية والقصة القصيرة والسيرة الذاتية. هناك ذات يوم، وفي ردهات الملحق المكتظ بالأصدقاء من الشعراء والأدباء، أجريت حواراً مع الياس خوري لصحيفة «بريد الجنوب» التي كنت أكاتبها وتصدر في باريس، كان حواراً مطوّلاً تحدث فيه عن تجربته الروائية، والنقدية والصحافية، وسألته حينها عن جديده في عالم الرواية، فتكشّف لي من خلال الحوار عن مثقف نادر، وخبير ومطلع مثالي على جديد الرواية العالمية، ناهيك عن علاقته الوثقى والمميزة مع القضية الفلسطينية، التي رفع رايتها عالياً، ودون كلل طوال تاريخه الحياتي والأدبي والسياسي. تحدث عن مواقفه وآرائه السياسية والأدبية في هذا الحوار، وأفصح عن عمله الروائي الجديد، وسلّط الضوء على البعض الآخر من رواياته، كما كشف أيضاً عن ترجمات بعض رواياته إلى اللغات الأجنبية.
كانت كتابة الياس لملحق النهار تتمثل بالافتتاحية، فضلاً عن تحرير مواد الملحق، وفحصه وترشيده عبر طاقم العمل الثقافي المكوّن من خيرة الشعراء والأدباء اللبنانيين مع مساهمات عربية تفد إلى الملحق لنشهرها فيه، نتيجة شهرة الملحق وميزته الثقافية والمعنوية ومقروئيته، منذ بدايات تأسيسه منذ عقود طويلة من الزمن على يد الشاعر الرائد أنسي الحاج. ولكون عمله ليس مملاً وثقيلاً وكبيراً، وجد الياس فسحة من الوقت لمواصلة الكتابة الروائية، ومن هنا أتحفنا بأعماله النادرة مثل «الجبل الصغير»، وهو تجربة شخصية واقعية شارك في أتونها مع بقية المقاتلين في لبنان المتعدد والديمقراطي غير الانعزالي آنذاك، فانخرط بالنضال والقتال مع جبهات العمل الوطني وفصائل الحركة الوطنية، المطالبة بالحياة المتآخية بين جميع الطوائف والمذاهب والأديان، بعيداً عن الممارسات الطائفية التي كانت تكرّس في منهجها العزلة ونبذ الغرباء والنأي بالنفس عن المشاركة الوطنية.
فتحت هذا الحس العالي من الإنسانية والتعاضد المشوب بالعاطفة والتعاون مع الآخر لمساعدته وليس لطرده وتنكيس رايته وخذلانه وهو فوق أرض عربية، تحت وقع هذا الوعي العالي من الهاجس المتماهي مع الآخر، كتب الياس خوري رواية «الجبل الصغير» لتليها في ما بعد رواياته المتماسكة، الحافلة بالجموع، والمنفتحة على السرود المتنوعة والمختلفة، المطعّمة بالروي التاريخي للحشود المهاجرة عن أرضها، وتسجيل هذه التواريخ الرهيبة في تحفته الروائية «باب الشمس» التي تحوّلت الى فيلم سينمائي يحكي أسطورة التراجيديا الفلسطينية.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية