تنهل أعمال الفنان المغربي عبد الجليل أيت مالحة من التراث الحضاري العربي الإسلامي كل مقوماته الأساسية، حيث تتبدى تجربته الرائدة في مجال فن الخط العربي غنية بعدد من المقومات الحضارية العربية، وبإيقاع فني وجمالي؛ تمتزج فيه الخطوط والتراكيب بأساليب فنية رائقة. فالمبدع يرتكز في أعماله على تثبيت خلفيات الفضاء، وبسط أشكال الخط العربي وفق الضوابط التي تفضي بجمالياتها إلى مسلك إبداعي بديع، وهي تكشف في عمقها عن المنحى الدلالي. فهي أعمال تلفها سلطة الخط ورونقه وبهاؤه، ويحكمها الالتزام بطبيعة الألوان المنتقاة بدقة وعناية فائقة. يفصح عن ذلك التركيب الجمالي المدجج بأنواع الخطوط، خاصة خط الثلث، وهو ما يؤشر مباشرة إلى أن المبدع يتقيد ببعض القواعد المتعارف عليها في الخط المشرقي للحفاظ على جمالياته الطبيعية التي ورثها عبر أزمنة خلت. إنه التزام أخلاقي يجعل الحرف العربي سيّدا داخل الفضاء، حيث تخضع له الألوان والأشكال أثناء عمليات التركيب، وهو ضرب من الجمال في نطاق التناسق بين الأشكال والخطوط، والمادة اللونية المعاصرة.
وأهم ما يطبع أعماله الخطية هو التثبيت المحكم والمنظم للخط داخل الفضاء؛ ما يحيل على أن قلم المبدع رهين بالمسار التقليدي الكلاسيكي، على الرغم من التوظيف الجمالي للتراكيب والأشكال واكتساح المساحات بتنظيم معصرن. إلا أن الشحنات التراثية والزخارف والخطوط وعملية التنظيم الفارقي، كلها عناصر تدعم القاعدة الكلاسيكية للخط العربي.. ويتبدى أن هذا التأطير يأتي في سياق التجربة الفنية للمبدع، التي تروم المجال التقليدي باستعمالات خطية ذات جمال ومغزى، وهي تجربة تستحضر المشروع الفني للمبدع في نطاق الالتزام بالقواعد، ما يجعله يتأرجح بين مفارقتي التداعيات الوجدانية بسحرها الجمالي المرصع بنشوة التراث الثقافي الأصيل بتقييداته القديمة، ووضع من الأشكال والتراكيب المتجددة المدججة بالتقنيات الحديثة، لكن حِرفية الفنان ورؤاه الفنية قد منحت القارئ في هذا المسلك الإبداعي تحويلا إبداعيا، يتمثل الكلَّ الخطي على حساب اللون، ويجمع المفردات الخطية، ويبدد الغموض، ويخترق بعضا من المساحات. إن المبدع أسس لبنة قوية لتشكيل الخط وفق تركيبات متنوعة، فجعل للحرف رمزية داخل النسق التركيبي، فمكّنه من الظهور بسلطة أقوى في الفضاء، وطرح وجوده ضمن سياق التعبير بالخط، كونه يأخذ مركز الصفوة ويطفو فوق السطح بارزا بأبهته في بؤر تشكيلية.
إنها تجربة رائدة قادت أيت مالحة إلى عوالم تركيبية طرحت أعماله في نطاق وحدة الرؤى الفنية والجمالية وتقوية الأساليب الخطية للحرف، فقد جعل من هذا المسلك قاعدة لبث عدد من الأشكال التي تؤثث الفضاء وفق وهج فني متعدد الدلالات، وهو إنجاز يروم التعبير بالشكل الفني الواحد وبالتنويع في عمليات التركيب، وينم عن تجربة عالمة من التوليف بين مختلف المفردات الفنية والعناصر الجمالية؛ وأيضا من حيث تدبير المجال الشكلي. إنه مسلك خطي متفرد طبع الساحة الفنية بنوع من الجمال بقوامة فنية تتفاعل مع جميع الأنساق التي تحتويها أعماله، التي تدعم القوة التعبيرية المعاصرة وتكشف عن المضامين. وبذلك، فإنه يعطي انطباعا بأنه يعمل وفق تصورات ورؤى مركزية، يوزعها وفق طريقته التي تفصل بين ما هو حرف له رمزيته المضمرة في الفضاء؛ وما هو شكل مركب مقيد بالقواعد والضوابط الخطية، الشيء الذي يدخله ضمن المنطق الجمالي، فيحوله بطريقة إبداعية إلى أشكال دلالية تحمل مفرداتُها الفنية أبعادا فلسفية ورؤية خصبة في التعبير، تُشكل هي الأخرى قيمة أساسية في أعماله الفنية. وهذا لا يتأتى إلا بتنظيم المادة الخطية وفق معايير فنية دقيقة، وتطويع الألوان وفق ما يتلاءم والتركيب الجمالي الذي يقتضيه الخط في الفضاء، ما يجعل أعماله تنبض بالحركة وتعج بالسمفونيات وتتمظهر فيها مختلف التفاعلات. فهو ينجز مختلف الأشكال والتراكيب بنوع من التبسيط بانتقاء وتسويغ تحكمه التجربة والخبرة، فتتراءى المضامين جلية، ليتمرد على أسمال التستر والاحتجاب، ويعلن سلطة الرؤية البصرية التي تستجلي غالبا دلالات إضافية.
وبناء على كل ذلك تظل هذه التجربة الرائدة غاية في الإبداع والجمال، بجمال روح صاحبها الذي يتقصد الإبداع في الخط بالحفاظ على مكتسباته الفنية وضوابطه وقواعده التي رافقته عبر السنين.
كاتب مغربي