القدس ـ «القدس العربي»: تعكس الشعارات التي تتردد على ألسنة أبرز القادة والحاخامات الإسرائيليين، ما يعد للأقصى خلال موسم الأعياد اليهودي الذي انطلق مع رأس السنة اليهودية يوم الخميس الماضي، وهي كثيرة مثل: «سنبني فيه كنيساً» و«لعل صاروخاً يسقط عليه» و«جنودنا يقاتلون من أجل الهيكل» و«جبل الهيكل في أيدينا» فالمسجد الأقصى في نظرهم بوابة معركة التصفية التي يخوضونها على كل الجبهات، وما يجري في غزة والضفة الغربية ولبنان يتجلى في مدينة القدس وساحات المسجد الأقصى.
وحسب الباحث المقدسي المختص في شؤون القدس المحتلة الدكتور عبد الله معروف فإن دولة الاحتلال تمر حاليا في مرحلتها الثالثة أي «مرحلة الدولة الصهيونية الدينية» وفيها انتهت سيطرة التيار القومي اليميني (المرحلة الثانية)؛ لأن حكومة بنيامين نتنياهو الأخيرة الحالية شهدت ولادة تيارٍ جديدٍ في قيادة الدولة يقيم دولةً إسرائيليةً ثالثةً بفكرٍ جديد ونظام جديد تجاوز التيارين: اليساري المؤسس، واليميني القومي العلماني. وهو التيار الجديد الذي يتقدم الآن بقوةٍ وبدأ يسيطر على الدولة بالفعل.
ويتابع في مقال تحليلي: «هذا التيار يميني، لكن لا يمكن وصفه بالعلمانية القومية كحال حزب الليكود، وإنما هو تيار يميني ديني قومي متطرف، يؤمن بالرؤية الدينية الخلاصية التي تحكم كافة تحركاته، لا كتلك التيارات السابقة التي كانت تعتبر الدين مجرد وسيلة للوصول إلى جمهور يهودي أوسع. هذا النوع الجديد لم يكن له قوة تذكر في العقود الماضية، وبرزت قوته في السنوات الأخيرة فقط، ليصعد صعودًا دراماتيكيًا إلى سدة الحكم في إسرائيل في حكومة نتنياهو الحالية».
يتلخص الفرق بين هذا التيار والتيارات اليمينية القومية بحسب معروف في أنه لا يستخدم الدين لأغراضه السياسية، وإنما يخطط ويطوع السياسة لخدمة رؤيته الدينية. يرى أن دولة إسرائيل ينبغي أن تتحول إلى دولة شريعة تكون فيها الدولة في خدمة الشريعة اليهودية وليس العكس. كما أنه يتجاوز الأحزاب الدينية المحافظة في كونه حركيًا لا يؤمن بالتقاليد الجامدة وعقيدة الانتظار، بل يؤمن بأن عليه استجلاب كافة نبوءات الكتب المقدسة وتحقيقها باليد. وهو ما يجعل إسرائيل الثالثة التي تتشكل الآن دولةً ثيوقراطية دينية صهيونية تتعامل مع الواقع الذي حولها لا بالمنطق الجيوسياسي، وإنما بمنطق النبوءات والرؤى والنصوص الدينية التي تحكم قرارات هذه الدولة.
كل ذلك الواقع الثقيل ينعكس على المسجد الأقصى ومدينة القدس، وهو ما يرى مراقبون أنه سيتجلى في القريب العاجل بوضوح شديد، فرأس السنة العبرية، الذي انطلق يوم الخميس الماضي ينظر إليه على أنه بداية موسم العدوان الطويل على الأقصى، يهدف المستوطنون فيه إلى نفخ البوق في المسجد الأقصى وحوله، فنفخ البوق بزعمهم عنوان نهاية زمان الأقصى وبدء زمان الهيكل، وإعلان سيادة موهومة، واستعجال لمجيء المخلص حسب الباحث المختص في شؤون المسجد الأقصى زياد ابحيص.
أحد أبرز قادة المستوطنين البنتزي جوبشتاين، وجّه رسالة من الأقصى إلى جمهور الصهيونية الدينية جاء فيها: «في رأس السنة العبرية… نحن نحارب من أجل الهيكل».
وجوبشتاين هو تلميذ مائير كاهانا، وأحد رفاق باروخ غولدشتاين منفذ مجزرة الخليل؛ وهو جار الوزير المتطرف ايتمار بن غفير في مستوطنة كريات أربع ومساعده في حزب القوة اليهودية وشريكه في تأسيس منظمة «لاهافا» التي تحرق الكنائس المسيحية.
يوم الجمعة، وفي سابقة هي الأولى من نوعها وكترجمة لأجندة الصهيونية الدينية، اقتحم مستوطنان إسرائيليان، المسجد الأقصى، وقاما بنفخ البوق بالمصلى المرواني.
وحسب بيان صادر عن دائرة الأوقاف الإسلامية بعد انتهاء صلاة الجمعة، فإن «اثنين من المتطرفين اليهود قاما بدفع شرطي إسرائيلي وأحد حراس المسجد (يتبع الأوقاف) الموجودين في باب القطانين (أحد أبواب المسجد الأقصى) وذهبا بسرعة باتجاه المصلى المرواني مع ملاحقة الشرطة والحراس لهما». وأضافت أن المستوطنيْن «انبطحا أرضا ونفخا بالبوق وتم اعتقالهما من قبل شرطة الاحتلال».
وحسب الباحث في شؤون المسجد الأقصى زياد ابحيص فإن هذا الاقتحام يشكل تجديداً عملياً لمطالبة كتبتها منظمات الهيكل في رسالتها لوزير الأمن القومي بن غفير في 1كانون الثاني/يناير الماضي، وكان من بينها فتح الأقصى لاقتحامات المستوطنين طوال أيام السنة، حيث أن باب الاقتحامات يغلق حالياً يومي الجمعة والسبت.
وينظر إلى أن المستوطِنين ارتديا أدوات دينية تراوحت بين شال الصلاة والقبعة والزوائد القماشية وكلها ظاهرة لشرطة الاحتلال وهذا فرض للأدوات التوراتية في الأقصى، بعلم شرطة الاحتلال.
وحسب ابحيص فإن جماعات الهيكل تركز على فكرة أن الاعتبار الإسلامي لا يسمو على الاعتبار اليهودي في الأقصى، وباقتحامهما الأقصى في ثاني أيام رأس السنة العبرية أراد المستوطنان تكريس هذه الرسالة، وهي التي لأجلها كان اقتحام الأضحى في 2019 واقتحام 28 رمضان الذي أطلق معركة سيـف القدس في 2021.
وترافق ذلك بمنع شرطة الاحتلال قبل صلاة الجمعة آلاف المصلين من دخول الأقصى، حيث جددت حصار الأقصى الذي بدأ في هذا الوقت من العام الماضي وامتد حتى رمضان.
ومع الزي الذي ارتداه المستوطنان، كان بوسع شرطة الاحتلال أن تميز المستوطنين من أزقة البلدة القديمة وتمنعهما حسب ابحيص. أما روايتها بأنهما «دفعا الشرطة» ودخلا فهي «رواية كاذبة وسخيفة» ثم تدخلها لاعتقالهما الشكلي بعد وصولهما المصلى المرواني هو شكل من تأمين الحماية والخروج.
ويخلص الباحث المقدسي إلى أن هذا الاقتحام بكل ما يحمل من معاني تم برعاية شرطة الاحتلال ومعرفتها التامة والمسبقة وبشراكتها في مشروع تغيير هوية المسجد الأقصى ومحاولة تحويله إلى هيكل.
وكان يوم الخميس الماضي قد شارك 460 مستوطنا في اقتحام المسجد استجابة لدعواته اقتحام بعيد رأس السنة العبرية، وقام بعضهم خلال الاقتحام «بالرقص والتصفيق وأداء طقس السجود الملحمي (الانبطاح أرضا) بشكل جماعي في الساحات الشرقية للمسجد بحماية شرطة الاحتلال».
ومن المتوقع خلال الأسابيع المقبلة حدوث مزيد من الاقتحامات للمسجد مع حلول يوم الغفران وعيد العُرش وما تسمى «ختمة التوراة».
أخطر المواسم
ووفق المختصين بشؤون القدس والمسجد الأقصى، فإن موسم الأعياد اليهودية -الذي بدأ برأس السنة العبرية- من أخطر المواسم على المسجد الأقصى، ويأتي هذا العام في ظل حكومة متطرفة يشارك مسؤولون فيها في اقتحامات المسجد.
وانتقد خطيب الأقصى «صمت الأمة الإسلامية» إزاء ما يجري من قتل وتدمير في فلسطين ولبنان، متسائلا «إلى متى تتخاذلون وتترددون عن نصرة القدس وأقصاها ومقدساتها وعن نصرة شعبها الصابر الثابت المرابط رغم كل التحديات ورغم كل المؤامرات؟! أين إسلامكم؟! وأين إيمانكم؟».
وقال إن «هذه الأرض (فلسطين) مهما غلب فيها الكفر والطغيان فستبقى بحول الله وقدرته أرضا للرباط أرضا للثبات أرضا لأبناء هذا الشعب الذي افتداها ويفتديها بالدماء والأرواح».
ومنذ تشرين الأول/اكتوبر 2023 يفرض الاحتلال قيودا مشددة على فلسطينيي القدس، بما في ذلك وصول المصلين إلى المسجد الأقصى، في حين تدعم الحكومة الإسرائيلية اقتحامات المستوطنين للمسجد 5 أيام في الأسبوع.
ويظهر ملخص اقتحام رأس السنة العبرية الخميس الماضي أن عدد المقتحمين بلغ 483 مقتحماً بزيادة طفيفة عن رقم العام الماضي 2023 والبالغ 423 مقتحماً، والسبب يعود إلى أنه في اقتحامات «أعياد الصيام» مثل: رأس السنة العبرية و«أيام التوبة» و«يوم الغفران» فإن تركيز جماعات الهيكل يكون على العدوان النوعي وليس العددي، لأن طبيعة الصيام التوراتي تقف حائلاً دون استخدام المواصلات والهاتف وسائر الأعمال الدنيوية.
ورأي ابحيص أنه في رأس السنة العبرية كان الهدف نفخ البوق في المسجد الأقصى المبارك واستعراض الطقوس التوراتية وفرض «ثياب التوبة» البيضاء، وهذا تم في أول ساعتين من الاقتحام، إذ تمكنت عائلة من المستوطنين من إدخال البوق والنفخ فيه داخل الأقصى أكثر من مرة، ونفذ المقتحمون طقس الانبطاح «السجود الملحمي» الجماعي، كما رددوا طقوسهم بصوتٍ عالٍ وتمكنوا من الغناء والتصفيق الجماعي داخل الأقصى، كما ارتدى العديد منهم الثياب التوراتية البيضاء.
ويشكل يوم 13 اب/أغسطس الماضي علامة فارقة في التعامل مع الطقوس الواردة أعلاه، إذ كانت أول مرة ترعاها الشرطة الصهيونية بدون أن تخرج مرتكبيها من الأقصى، ويعدُّ الخميس الماضي هو الثالث في تاريخ المسجد الأقصى الذي ترعى فيه شرطة الاحتلال التصفيق العلني بهذه الطريقة من بعد 13 اب/أغسطس ثم 4 ايلول/سبتمبر الماضيين.
ويرصد ابحيص مجموعة من الملاحظات الدقيقة حيث يقول: «يتكرس استفراد المقتحمين بالساحة الشرقية للمسجد الأقصى مع كل عدوان، وتعاملهم معها وكأنها كنيس غير معلن في الأقصى، إذ نفخوا فيها البوق بدون أن يتمكن أي حارس من حراس الأوقاف أو أي صحافي أو مرابط من توثيق هذا الطقس التوراتي بالصورة، وكانت الصور القليلة التي وردت عن الاقتحام تصور من مسافة بعيدة زادت عن 60 متراً، وهو ما يجدد تحدي تقسيم المسجد الأقصى أمام الأمة الإسلامية بأسرها وأمام الأوقاف الأردنية التي تمثل الهوية الإسلامية الحصرية للأقصى».
وتوقع الباحث المقدسي ما حدث يوم الجمعة حيث قال: «يشكل الجمعة الماضي اليوم الثاني لرأس السنة العبرية، وبما أن شرطة الاحتلال تغلق باب الاقتحامات يومي الجمعة والسبت فمن المتوقع أن يلجأ متطرفو جماعات الهيكل إلى تعويض ذلك بنفخ البوق في محيط الأقصى وبالذات من مقبرة باب الرحمة قبل صلاة الجمعة أو بعدها» لكن ما جرى كان سابقة وممارسة تعتبر الأكثر جرأة من المستوطنين المتطرفين.
ويرى ابحيص أن العدوان التالي هو مواصلة اقتحام المسجد الأقصى للأيام العشرة المقبلة بثياب التوبة البيضاء، التي تشكل فرضاً لهوية دينية يهودية في الأقصى، ومحاكاة للباس طبقة الكهنة التي تحاول الصهيونية الدينية إحياءها باعتبارها الطبقة الموصوفة في التوراة لقيادة العبادات القربانية في الهيكل المزعوم.
ويشدد على أن هناك تحديا يتمثل بتكريس ترابط هذه المعركة ووحدتها، فمواجهة تغيير هوية الأقصى يصب في قلب منع التصفية التي يخوضها الاحتلال على كل الجبهات، والتي تتمثل في غزة بحرب إبادة، وفي الضفة بمشروع تهجير، وفي لبنان بمحاولة تصفية المقاومة، وفي الخارج بتصفية حق العودة، وفي المحيط العربي بمحاولة إلحاقه بالهيمنة الصهيونية من بوابة تطبيعٍ استسلامي؛ وحماية هوية الأقصى هي قلب هذه المعركة وعنوانها.
ويخلص ابحيص إلى معضلة الصهاينة مع أكتوبر معقدة، فهو يقابل شهر «تشري» القمري عندهم والذي بدأ الخميس الماضي وبه تبدأ سنتهم الشمسية، فأكتوبر الميلادي هو المكافئ لشهر رأس السنة العبرية وشهر «التوبة» وشهر «الغفران» وشهر «العرش» وشهر «ختمة التوراة» وفرحتها؛ لكن المقاومة جعلته شهرا يتآمر ضدهم ليصبح شهر طوفان الأقصى وشهر السماء التي تمطر حِمماً وشهر العمليات في القطارات وعلى الحدود. فأكتوبر يحكي قصة الحسم الصهيوني المستحيل، يحكي قصة الزمان إذ يستعصي على العبرنة، ففاتحة الزمان العبري هي ذاتها فاتحة نهايته.
وفي وقت سابق، رجّح تقدير موقف صادر عن مؤسسة القدس الدولية، تجدد الفعل الشعبي المقاوم مع تصاعد محاولات الإحلال الديني في الأقصى ومحاولات تصفية هوية المسجد، وفي ظل العدوان على الضفة الغربية وتصاعد المقاومة فيها واستمرار حرب الإبادة ضد غزة والتصعيد في جبهات الإسناد.
ورأى التقدير، أنّ موسم الأعياد هذا العام، الممتد من 3-10 إلى تشرين الأول/اكتوبر والذي ستتلوه مباشرة الذكرى العبرية الأولى لعملية «طوفان الأقصى» التي ستوافق صباح الجمعة 25-10 من المرجح أن يكون أعتى مواسم العدوان على الأقصى في تاريخه، مشيراً إلى أنّ القيادة الصهيونية تتعامل مع هذه الذكرى بوصفها نقطة معالجة «عقدة 7 أكتوبر» وأنّ الاحتلال قد يخطط لهجوم متعدد الجبهات يومي الأربعاء والخميس 24 و25 ما يجعل من الضروري الاستعداد لهذا الاحتمال والتفكير في إمكانية استباقه لتعزيز العقدة.
وحسب تقدير الموقف فأنّ عملية طوفان الأقصى كانت سادس محطّات التصدي الفلسطينية في مواجهة مرحلة الحسم التي أطلقها الصهاينة بدعم أمريكي بهدف التصفية الشاملة لقضية فلسطين، وهي المرحلة التي بدأت من إعلان ترامب الاعتراف بالقدس عاصمةً للكيان الصهيوني في 2017 تبعتها حملة الشيطنة وسحب التمويل التي خاضها على وكالة الأونروا لتصفية حق العودة، وسحب الاعتراف بجميع أشكال التمثيل السياسي للشعب الفلسطيني حتى ما كان متماهياً مع جميع الشروط الاستعمارية، ثم إعلان صفقة القرن في 2020 التي تعرض إعادة إنتاج قضية فلسطين بوصفها قضية تمويل مقابل الأمن، وليتوج ذلك بتطبيع عربي رسمي على جبهات عديدة شملت الإمارات والبحرين والمغرب والسودان في ما عرف بـ «الاتفاقيات الإبراهيمية».