«مطر كسول على الباب» مجموعة الشاعر السعودي عبد المحسن يوسف: ما يُبهِجُ الروحَ ويحرسُ وردَ الأمل

المثنى الشيخ عطية
حجم الخط
0

مثل أبنية المنازل، تُبنى الكتبُ غالباً على محورٍ تستقيم عليه مستوياتٌ تشابه الأبناءَ المختلفين في الشّكل والطباع ظاهراً، لكنّهم مؤتلفون في العمق بالجينات الموروثة التي لا يكشفُها الظاهر.
ولا تختلف المجموعات الشعرية عن بقية أنواع الكتب، لكنّها تمتلك خصوصيّة الصعوبة في تكوين الأنساق، من جهة أن الشاعرَ لا يستطيع عقلنة ورسم المحور والمستويات مسبَقاً دون أن يقع في القصدية القاتلة للشعر، وأنّ القصائد ترسُم مساراتِها ضمن جريان عملية الإبداع على الأغلب، لكنها في ذات الوقت لا تترك الشاعر عارياً في الحيرة إن فكّر بجمعها في باقةٍ، دون أن تمنحه عمق التكوين، حتى لو تنوّعت القصائد وبدتْ مختلفةَ الاتجاهات.
«مطرٌ كسولٌ على الباب»، مجموعة الشاعر السعودي عبد المحسن يوسف، لا يختلف جموح قصائدها عن سلوك القصائد الطليقة كما خيولٍ بريةً لا تُطوَّع إلا بزمام فارسٍ يعرفُ كيف يهمس في أذنها فتفهمه، وتنصاعُ حرّة كريمةً طليقةً بين أخواتها الطليقات في أسر المجموعة.
وكما يفعل الكثير من الشعراء الذين تحيّرهم نفوريّة القصائد عن جمعها تحت عنوانٍ، يكون مجازاً لمحورٍ، يلجأ يوسف إلى اختيار عنوان قصيدةٍ يهجس أنه يصلُح أو يقارب، أن يكون مظلّةَ القصائد تحت مطر الحيرة. فيختار القصيدةَ التي تمثّل في الجوهر طبيعتها، وتعكس اتجاهاتها، كما لو، «على هذه الأرض ما يستحق الحياة»، بخصوصية ابن جنوب الجزيرة العربية، الحافل بتنوع بيئي جمالي باذخ، وتراثٍ غني يعكس بساطة إنسانه وتقبّله بساطة الحياة، داخل الجمال:

«ثمة ما يُبهجُ الروح:

ضحكُ أطفالي وهو يتدفّق في الغرف.

عشبٌ قليلٌ في تربة القلب.

قصائدُ مهملةٌ تتفتّح منها الغيوم.

حقائبُ على الرفّ تهجِس بالسفر.

شجرٌ في لوحةٍ ــ في صدر الحائطـ

يميل، يميل، يحرس وردَ الأمل.

مطرٌ كسولٌ على الباب.

زرياب في الأغنية».

فهل وصل يوسف إلى ما يريد أم رضيَ بما يقارب؟

جمالٌ فائضٌ متداخل:

في المجمل تتمتّع قصائد يوسف في مجموعته بما يبهج الحياة، حتى في تعبيرها عن السأم، وعتمة الليل، وصخب وعنف البحر الطبيعي والنفسي في هذيانها، ضمن تعبيرها عن حركة كائنات الطبيعة، في تعدّدها ووحدتها كأبناء لها، وفي تداخلها مع بعضها.
غير أن كثرة َ القصائد التي تبلغ 145 قصيدة، بين الطويلة والقصيرة وقصيدة اللقطة القصيرة جداً، مع وجود قصيدة طويلة تتضمن 116 قصيدة لقطة قصيرة، بتنوع القصائد بين التفعيلة والنثر؛ في الحقيقة، تُشكّل كَرَماً جمالياً يفيض عن الشعور بلملمة قصيدة العنوان للمجموعة، ويمكن اعتباره خروجاً عن محور ومستويات القصيدة ككتابٍ، لكنّ فيض الجمال ربّما يشفع، وربّما يعطي المبرّر، في القول، إنها طبيعة الشعر.
في كرَم هذا المطر غير الكسول على باب الشاعر، والقارئ الذي سيشاركه الإحساس بمباهج الشعر، تتجلّى لغةُ يوسف، صارخةً بتداخلها مع الطبيعة، وتفصيلاتِها البحرية والغابية والبرية بكائناتها، النوارس، الأيائل، الغزلان، الذئاب، الطيور، الأشجار والأزهار والورد والشمس والليل، وكل ما يرفُّ من أجنحةٍ في تداخل حركة الجمال التي تصل إلى جسد الإنسان الممزوج بالطبيعة. الذي: «باللمس يُرى/ بالقُبَل يضيء.» و«له لغةٌ مكتوبةٌ بالضوء، والفراشات، وفلفل الحرائق./ وله رائحة فريدة تفوح مستلفةً من الطين والورد والعطر والعشبِ والمطرِ والعَرَق ذلك العبق المستحيل».
مع إيضاح يوسف إدراكَه الفلسفيّ بهذا التداخل، حيث: «نحن أبناء طبيعتنا../ مثل قطرة ندىً على شفاه وردةٍ نكون في أقصى حالات اللين،/ ومثل موجةٍ طائشةٍ ذاتَ ريحٍ نكون في منتهى الطيش».
وفي هذا التداخل يتوِّج يوسف طبيعتَه بسيدتها/ المرأة، صبيةً قرويةً، وأنثى بالغةَ الغواية حدَّ التداخل إلى إثارة الحبّ في اللباس، كما في: «أنت في الحتف، وها هي في المسرّة»، حيث: «لو باحتْ قليلاً/ لسِرْتَ على الماء/ لسبحتَ في قطرةٍ/ وحملتَ البحرَ في القميص/ والسماءَ في الغترة».
ويصل في هذا التتويج إلى مماثلةَ المرأة بالطبيعة، كما هي في قصيدة «التي تتدفَّق كموجة طائشةٍ»، «غيمةً مثمرةً»، تربك الشاعر، وتشرق «في أفق وجهها شمسٌ صغيرة… مثلما يصل التتويج «في ضوء قمرٍ شاحبٍ» إلى تداخلها في ممارسة الحب، بين الحبيبن حيث: «مضينا معاً صوب أقمارنا../ مهرةٌ ترتديني.. وألبسُها.. أرتديها/ وتلبسُني/ ترتدينا حقولٌ معطّرةٌ بالندى،/ والشذى يصبُّ بأرواحنا هادئاً بَدَنا».
وفي لغته بهذا التداخل كذلك، يُنبض يوسف معظم قصائده بالتضاد، على صعيد الجملة الشعرية بخاصة، مثلما: «تلك التي تشبه قمراً من عسل وسكينة../ تصرُّ على ترك الباب موارباً../ لا تدعكَ تدخل، ولا تترككَ تغادر..»، ومثلما: «الذي مات بالأمس ثم مضى مسرعاً للوظيفة هذا النهار».
ويُنبِض قصائدَه بالعذوبة الآسرة للقارئ، وبتحويل الحياة اليومية إلى حياةٍ شعرية، غنية بالطفولة، كما «في عزّ الريح» حيث: «كنّا نرفع أشرعةً بيضاء/ فوق قواربنا الصغيرة.» وكذلك في قلب المفاهيم بالمجازات لتوليد الدهشة، حيث: «شَعرُكِ ثروة جمالية طائلة./ إنه يمنحُ البحر فرصةَ أن يستردّ وسامتَه الآفلة../ حين يجدُ نفسه واقفاً بجواركِ».
وحيث تتمرأى في «كائنات الكأس» مفردات الطبيعة، و«في الكأس التي تتأمّل/ تتألّق كأسٌ أخرى/ تودُّ أن تحتسيكَ./ في الكأس، ما ليس في الكأس».

مداخلات الثقافة والتراث:

في قصائد المطر بأشكاله الكسولة وغير الكسولة، يتداخل يوسف، بالتراث، والثقافة العربية والعالمية التي تتجلى بمباشرةٍ في قصيدته الطويلة «كهذيان قطةٍ غير معاصرة»، حيث تتداعى أفكار الشاعر وأحاسيسه تحت ظلال السأم، في المداخلة مع قصيدة عبد الله البردوني: «حوارية الرصيف»، ومع جان بول سارتر/ الغثيان، ومع الشاعر محمد الحربي، حول المعاصرة، والشاعر فوزي كريم. ومع المبدعين العرب الذين يُنكرون مبدعي الجزيرة والخليج، مع «مسخ» كافكا، والشاعر هاني الصّلوي، ومع ناجي العلي و «تلك الزهور المنقوشة في فستان فتاة فلسطينية/ تستحيل زهوراً حقيقيّة حين تسقط عليها/ قطرات من ماء الجرّة التي تحمِلها تلك الفتاة الحزينة والفاتنة/ تلعنُ القاتلَ وكاتمَ الصوتِ وإسرائيلَ../ ولكنْ ما ذا ستصنع بلعناتكَ إذا اتضح فيما بعدُ/ أنّ القاتل كان فلسطينياً أيضاً».
وكذلك التداخل مع هذيان وليم فوكنر في «الصخب والعنف»، ومع فرسان الانحطاط، بما فيهم محمود عباس، ومع مظفّر النواب وياس خضر الذي يغني له «الراس من فضّة صبح»: «وتبكي عمرك الذي في المهبّ/ أحلامَك التي في المغيب/ ونضارَتَك التي تذوي كما تفعل وردة المرايا». ومع عبد الله بامحرز الذي «مضى إلى الموت خلسةً/ كمن يمضي إلى النوم.» بين حقول الإسمنت وحقول المحار… ومع «قاسم حداد، وعبد الرحمن طهمازي، وسركون بولص، المنتشي صارخاٌ بموسيقى نصرت علي خان».
ويميّز يوسف بعضَ قصائده بتوريةٍ في التداخل يكتشفها القارئ المطَّلع بالإحساس، مثل التداخل مع كتاب «الإمتاع والمؤانسة»، في وصف امرأةٍ: «شحيحةٌ في الإمتاع،/ مقتصدةٌ في المؤانسة»، والتداخل مع عبث صموئيل بيكيت «في انتظار غودو»، بقصيدة «أبواب الشغف، نوافذ الحنين»، حيث هناك: «أبوابٌ كثيرة مدهونةٌ بالشغف/ نوافذُ عديدة مبلَّلة بالحنين./ وها هي الجدران تحدِّق في البعيد/ بأعناقٍ مشرئبة./ طوبى لمن ليس يجيء». وبقصيدة «انتظار، حيث ينتظر العاشق للمعشوقة والآس الذي يشبهه ويذبل في يده دون أن تأتي.
وكذلك مع فقرة نيكوس كازانتزاكيس في «الطريق إلى غريكو»: «قلت لشجرة اللوز حدّثيني يا أختُ عن الله/ فأزهرت شجرة اللوز». بقصيدة تحديق: «أنا إن حدّقت في الآفاق/ إن قلت: إلهي../ سال نورٌ فاتنٌ في القلب،/ واخضرّت شفاهي».
مع تأكيد التداخل مع قول كازانتاكيس: «المرأة أقرب طريق إلى الله»، بقصيدة «حيرة»، حيث: «هذه القُبلة تدنيني/ من الله،/ ومن ورد الحقول.»، وبقصيدة «طفولة» عن الله، حيث: «قرأتُ نور الله في الطبيعة/ وذبتُ في آفاقه البديعة./ وطرتُ في البعيد».
وكذلك أيضاً التداخل مع قول محمود درويش في قصيدة بيروت: «بيروت خيمتنا الأخيرة»، بقصيدة «نصوص مقتصدة»، حيث: «إني بقلبكِ مستجير../ الحبّ «خيمتنا الأخيرة».». ومع قول الرسول في القرآن الكريم، «لكم دينكم، ولِيَ دينِ»، في قصيدته عن مخاوف أمّه: «لكم أمهاتكم/ ولِيَ أمي».

غواياتٌ لا تُفسِد ودّ الشّعر:

في خضمِّ أمواج تدفّق جماليات التداخل مع الطبيعة، تحت مطر يوسف، تتسلّل من فتنة القميص بعض غوايات التأثر والمشابهة، وبعضُ الإرباكات التي تولّدها فخاخ التفعيلة ضمن عذوبة التفعيلات.
على صعيد التأثّر، وقد أصبح معتاداً ويمكن الفخر به، انتماءً للشاعر المعلم محمود درويش، يُدرك يوسف على الأغلب ما يفعل في قصيدة: «سنسكن وردةً»: «لتصدَّ هذا النحل عن دمنا،/ وسخف العابرينْ./ حتماً سنسكن وردةً؛/ لتذود عن أطفالنا،/ وعن البريء من النشيد،/ وعن غزالٍ شاردٍ في فكرة الصحراء». مثلما يدرك تداخله في النسق والقافية مع المقطع العذب في قصيدة «بيروت»: «قمرٌ على بعلبك/ ودمٌ على بيروتْ/ يا حلو من صبَّك/ فرساً من الياقوت/ قل لي ومن كبّك/ نهرين في تابوت/ يا ليت لي قلبك/ لأموت حين أموت». وذلك في قصيدته التي يهديها إلى الشاعر إبراهيم مفتاح «يا حمرة التفاح في خدّ الكلام».
وعلى صعيد التأثّر كذلك، وغلبة المشابهة التي يتجاوزها يوسف أحياناً بغلبة العذوبة، وتمنع أحياناً سريان التداخل العميق، والتماهي بين ذرّات الكون ومنها الإنسان؛ يُكثر يوسف من استخدام كاف التشبيه في العناوين، مثل: «كبقايا نعاسٍ في صباح الخير، كهذيان قطّة غير معاصرةٍ، كسقوط نيزكٍ في القلب». وفي نصوص القصائد، حيث «أوقفني في «الماسنجر» وقال: لا تبرحْ/ ومثلُ قنديل يخاتلُ عتمةً عاطلةً من الأمل، همسَ لي:/ ــ لقد أضحتْ نافرةً، يا صاحبي../ كغزالةٍ ممعنةٍ في الوجل..». ويتّضح التأثّر في استخدام التشبيه بالشاعر اللبناني أنسي الحاج الذي يكثر من التشبيه في قصائده، من بيته الذي يستخدمه مشيراً إليه بالتقويس: «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع»، في قصيدة كائنات الكأس، حيث: «في الكأس سماءٌ حرّة/ وأجنحةٌ طليقة./ في الكأس غزلانٌ تلهث،/ وبرية تتسع.». «في الكأس امرأةٌ جميلةٌ،/ تُسرِّح «شعرَها الطويل حتى الينابيع».
وعلى صعيد استخدام التفعيلة العذبة في معظم قصائد يوسف، تهربُ في القليل منها هنات الاستناد على «قد» التحقيق، وعلى فعلٍ غير ضروري من أجل استقامة الوزن، مثلما حدث في القصيدة الأولى: «.. وإذا مررتُ بباب بيتك،/ قامَ حرّضني الفؤادُ».
وتجاوزاً لهذه الغوايات، يحفلُ مطر يوسف الذي يبلّ الشوق بعذوبة قصائد الذكريات، التي «تُعِدُّ القهوة»، و«تلهو بالكرة في حواري القلب»، مع «سيّدة الظلال العتيقة»، و«صبيّة الطفولة الضائعة «التي تمشي مائلةٍ في شوارع القلب، و«نوارس الصبح»، والأمّ «النخلة» الباسقةُ في حنانها، والأب البحّار العتيق. والجزيرة/ الوطن، والشعر: «الذي يرمّم ما تهدّم في القلب./ الذي يرأف بدمعنا».
عبد المحسن يوسف:
«مطرٌ كسولٌ على الباب»
دار أدب، الرياض 2023
248 صفحة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية