بعد أزمة الربيع العربي، لا يمكنني التعامل مع مفردات مثل التنوير والنهضة، أو التجديد والإصلاح بالطريقة نفسها التي أنظر بها إلى الحداثة. فاتجاه السياسة العربية لا يميل لتفكيك الأصول، ولكن للاستيعاب وإعادة التعبئة. وإن كانت هذه المهمة غير واضحة تماما في الساحة الفكرية، بسبب البرقع الإسلامي المتعلمن والمتأورب، كما جرى في روسيا. فهي شديدة الوضوح في جميع فنون الكتابة، ابتداء من المسرح والشعر وحتى السرد. فقد انفجرت المؤسسة، واستعمل هذا التعبير بمعنى الكتلة المثقفة، أو ما اعتدنا على تسميته باسم الإنتلجنسيا، بنصوص تعتمد على المحاكاة وقوانين التمثيل الطبيعي. ولا أجد أي فارق بين قوانين الكتابة في عصر الربيع العربي، وقوانينها في الخمسينيات، باستثناء المزيد من الفلترة والتنقية، بهدف لجم الشعارات والاستعاضة عنها بالعاطفة الشعاراتية. وأي مقارنة بين أدبيات حنا مينة في السبعينات وحتى منتصف الخمسينات، وأخص بالذكر «الثلج يأتي من النافذة» و«الشمس في يوم غائم» مع أدب أحمد السعداوي أو زميله حميد العقابي، يبرز أهمية الدور التراكمي للطبيعة واحتلالها لدور أكبر من تحليل الأفكار والمشاعر. فمينة يبدأ من الشخص ويتوسع به ليشمل جدلية الماء واليابسة أو الماضي الراكد والحاضر المتحرك، بينما يحرص السعداوي والمرحوم العقابي، على توحيد الأفكار والصور والمعتقدات. بمعنى أن كليهما يساوي بين الأزمنة والأمكنة من جهة ثم بين الأفكار والصور من جهة أخرى. وأعتقد أن دمج الشخصيات بالأحداث والمكان الحاضن، يلغي أي معنى لمشكلة إصلاح الواقع أو تجديده. ناهيك عن تحديثه، فالمهمة في الوقت الحالي تتلخص بإنشاء وعي مختلف بنقاط الضعف وليس نقاط القوة. وغطرسة شخصيات مينة واستهتارها بالقوة الحيوية للطبيعة – معادل القوى الضاربة على الساحة الدولية – يبني على مسلمات وضعت البيروسترويكا حدا لها. في حين أن الأجيال اللاحقة عادت إلى التعايش مع العيب، الذي تحمله في ذاتها، ولكن حاولت الالتفاف من حوله بواسطة ما يسمى في التفكير الوطني بالإصرار وأحيانا تقديم التضحيات. وهي مفردات معربة من رؤية الثنائي الواقعي بلزاك وزولا، وتدل على وهن بنيوي في المجتمعات الوليدة، وعلى استسلام مؤسف للغرائز، وعلى ما يبدو أن التفكير الطبيعي يساوي بين الغريزة والواقع.
وأعتقد أن أعمال غائب طعمة فرمان تشكل اختراقا مهما في هذا الجانب، فهي تعترف بعلاقة الإنسان مع بيئته، وبالنتيجة تؤكد أن الرجل هو بيئته أو شروط وجوده. ولذلك يتحلى أبطال رواياته المهجرية بوعي مختلف بالمقارنة مع أبطال أعماله المحلية. فالطرف الأول يفكر دائما بما سيأتي، وينظر للحاضر، وكأنه ورم أو مرض ينبغي استئصاله. والطرف الثاني يطور صورة العقل المستقيل. بمعنى أنه لا يرى أي ضرورة للتفكير، ويعطي الأولوية للعمل.
وهذه هي أطروحة الثورة العربية. فقد تركت مهمة التفكير لجاسوس بريطاني هو، تي. إي لورنس، واكتفت بالأعمال العسكرية، ولذلك كانت كل قضايا التنوير والنهضة في دائرة الشك. وسبق لهشام شرابي أن أكد أن الإصلاحات والتحديثات تمت بالتواطؤ بين القيادة المحلية الضعيفة وقوات الانتداب، وما كان لها أن تتحقق لولا أنها تخدم دول الشمال واستراتيجيتها بالقضم والتوسع ثم التذويب. ومثله رأى جيفري ناش، المهتم بقضايا الاستشراق، إن أفعال المقاومة في العالم الإسلامي هي ترجمة للعقل الأوروبي، وأفهم من ذلك أن الاستعمار الحديث سوق شمولي يبيع في وقت واحد آلة الاحتلال الثقيلة وأدوات المقاومة الهشة، وبلغة أوضح فعل المقاومة عمل مركب.. أولا هو نتاج جانبي للثورة البورجوازية في الشمال. وثانيا جزء من سيناريو الصراع على حكومة كل العالم – وهذا التعبير للمرحوم أنطون مقدسي. وأي تقليب سريع في تراث التنوير المبكر – نهايات القرن التاسع عشر وحتى نشوب أول حرب كونية، يؤكد أن العقل العربي كان في رعاية الثورة الصناعية، وهي الراعي الأول للاستعمار الحديث، حتى إن مد الخطوط الحديدية تحكمت بها مصالح الشمال الصاعد، وإن كنا نقول عن تلك الفترة إنها مؤشر على استيقاظ العقل العربي، ونسميها عصر اليقظة القومية، فقد حان الوقت لنعترف بالحقيقة، ونقول إنه عصر التعقيل والفواق العربي، وبلغة أوضح أجد أن المسألة كانت نزاعا بين إمبراطوريات المشرق والبورجوازية الأوروبية على شرقنا العربي، وكأنه نشاط إزاحة، أو إلغاء قانون وضعي بقانون وضعي آخر. ولا تزال هذه الأزمة هي المحرك الذي يجرنا نحو استقلال وهمي وديمقراطية مزيفة مصابة بالعلل.
وإذا كان الماضي قد تحول إلى أطلال، فعملية البناء، حسب هذا المشروع، لا تزيد على محو لتلك البقايا، وتعبئتنا ذهنيا في فراغ وطني. وما يفاقم من الإشكال أن شعارات المقاومة تستلزم حتما الاحتفاظ باللحظة الحالية، وليس الانتقال لما بعدها. ولكن الحداثة الأوروبية وما بعد الحداثة، ضد النزوع التاريخي وتؤسس لفجوة في الذاكرة. وهي مسؤولة عن تبديل العلاقة التقليدية بين المكان الثابت والوقت المتحرك، ففي هذه الفجوة تتشكل الأفكار والتصورات الروحية، وتنشأ ميتافيزيقا تاريخية وعلمية، أو ما أفضل أن أسميه ميتافيزيقا العقل وليس الروح. وبهذه الطريقة ينعكس الواقع السريالي، وتصبح الخوارق والعجائب أداة وليس مجرد شكل، أو حقيقة وليس تصورات. ويدخل في هذا الإطار ما يسمى حاليا باللحظة الخليجية – بالتعبير الذي يستعمله عبد الخالق عبدالله. وهي ظاهرة من ظواهر توالد الثورة العربية، بعد إخراج الهاشميين من حساباتها، وتبديل حبكة لورنس مؤلف «أعمدة الحكمة السبعة» بحبكة دان براون مؤلف «شيفرة دافنشي».
وبهذه الطريقة تصبح اللحظة الخليجية محاولة ضمن سلسلة من المحاولات المتعثرة، وإن جرى استغلال العرب في حرب عام 1918 لكسر شوكة العثمانيين، قد لا يكون الواقع الحالي أفضل، ولاسيما أن الدور العربي يقتصر على التمويل وتقديم التسهيلات وليس المشاركة ولا التخطيط. وأذكر بهذا السياق الجهود الرامية لتطوير مستقبل نظيف يعتمد على الوقود الأخضر. فهو في ظاهره يعرب عن غيرة علمية على مستقبل النوع البشري والبيئة، ولكنه في بعض الاحتمالات يلعب دورا بارزا في الحرب الباردة، وبناء جدار آخر يعزل روسيا عن بقية أوروبا. وهذا يعني أيضا إعادة تركيب سياسة الخليج العربي، وتحويله من الإنتاج والتصدير إلى استضافة شركات عابرة للقوميات والأعراق أو ما أقول عنه الإدارة بالريموت كونترول.
إن إعادة تدوير الثورة العربية يدعونا أيضا للتذكير بمراسلات حسين مكماهون، ثم مؤامرة سايكس بيكو. وتطبيع العقل المعاصر مع الماضي دليل آخر على أنه سيناريو يسعى لحرق الأفكار وتذويب الأدوات وإعادة إنتاجها بما يخدم العالم المتكرر والمتششابه، والذي يضع التاريخ في الحفرة الوجودية، أو ما يقول عنه عز الدين عناية مجتمع اللاتدين والعلمنة. وهو المجتمع نفسه الذي اتهمه هنري لوفيفر في الستينيات أنه وضع الدولة خارج الفضاء الروحي للإنسان ونشر ثقافة تجزيئية تصيب المواطن الأعزل بالاعتلال النفسي والذهني. ولكن في حين يرمم الغرب هذا الفراغ بالخدمات – وهي خدمات مؤللة لا يوجد فيها جدل أو طرف آخر، ولكن روبوتات وبرامج – رموز وشيفرات تخفي الأب الأوديبي، نعاني من تقديم خدمات مجوفة تصيب الذات العربية بالإحباط وتستأصل خصوبتها وتكبت لحظتها، وتحاصرها بكل أشكال التخويف والمنع، إن لم تفرض عليها مشكلة الحراثة في أرض يملكها الآخرون.
كاتب سوري