لم يكن هذا المشهد تأوّها شعريا بشأن بلواه من مرضه الذي كان يكابده، شاعر العراق الأول بدر شاكر السياب، بل هي بالضبط نبوءةُ عراف لِما سوف يحل في البلاد:
«مطر.. مطر.. أتعلمينَ أي حُزْنٍ يبعثُ المَطَر؟ وَكَيْفَ تَنْشجُ المزاريبُ إذا انْهَمَر؟ وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع بلا انتهاء كالدم المُراق، كالجياع كالحُب، كالأطفال، كالموتى، هو المطر».
القصيدة هي «أنشودة المطر» من المجموعة الشعرية التي تحمل العنوان ذاته، ظهرت طبعتها الأولى قبل سنتين من وفاة الشاعر عام 1964، والميزة الأهم فيها أن السياب تمكن من بلوغ نتائج لم يسبقه إليها أحد من الشعراء العرب، وهي تحقيق ذاته فنانا. من بين الصور الشعرية للمطر، يلاحظ القارئ أن رائحة الدم اجتاحتها جميعا، بالإضافة إلى قتامة لونه. كان علماء اللغة يدعون هذا البديع في اللفظ «طِباقا» لأن الشاعر جمع بين متضادين هما الماء والدماء المُراقة، كدليلَين على ظاهرتَي النماء والفناء. وفي موقع آخر من القصيدة ينسف الشاعر، بواسطة الطباق أيضا، الخط الفاصل بين ما هو فوق الأرض، وما مدفون فيها عميقا، واختار هذه المرة ألوان السماء في النهار والليل موضوعا للتضاد، وشميم الدم حاضر هنا أيضا، مع شبح لونه:
«وَمُقْلَتَاكِ بِي تطِيفَانِ مَعَ الْمَطَر.. وَعَبْرَ أَمْوَاجِ الخَلِيج تَمْسَحُ البُرُوقْ.. سَوَاحِلَ العِرَاقِ بِالنُجُومِ وَالْمَحَار.. كَأَنَهَا تَهمُ بِالشُرُوق.. فَيَسْحَب الليلُ عليها مِنْ دَمٍ دِثَارْ».
هي لوحة داخل لوحة، صورة المطر الواقعية، وألوان الشمس والنجوم، تقابلها صورة أخرى مغايرة تماما، نوع من التشكيل أدى إلى جعل المعنى في القصيدة مختبئا خلف ستار من غموض سوف يطبع الشعر الحديث بسيماء لا تفارقه. ولكن هل كانت صورة المطر التي رسمها الشاعر فعلية، أي حقيقية، أم أنها من بَنات خياله؟ للإجابة عن السؤال لا بد من الاستعانة بخزانة المعلومات المرمزة، ومصدرها العقل الجمعي العراقي.
يحدثنا ابن كثير في «البداية والنهاية» عن جيش هولاكو لما دخل بغداد، أنه أعطى لأهلها أول الأمر الأمان، ثم غدر بهم. راح جنوده يقتلون من يصادفونه في الشارع، وبعد ذلك يدخلون البيوت فيُجهزون على أهلها، وإذا فر بعضهم إلى سطح المنزل يطلب الغوثَ من السماء، فهي سماءُ الخليفة العباسي، وهو ظل الله في الأرض. لا فائدة. لا خلافة ولا خليفة ولا هم يحزنون. ثم ييأس الناس من طلب النجدة، ويرقدون على سطوح البيوت في انتظار منيتهم. يخبرنا ابن كثير أن «البلابل كانت تغني في حدائق المدينة المنكوبة بحلاوة مدهشة» وكان جندُ المغول أشداء وهم يحزون الرقاب، وتسيل الدماءُ قانيةً وزاهية في الميازيب إلى الأزقة، وكان «لوقع سقوطها على الأرض صدىً، يبلغ سمع أولئك الذين ينتظرون دورهم في الذبح على سطح البيت». دامت المجزرة أربعين يوما، إلى أن فنيَ جميع من في المدينة، ولم ينجُ منهم سوى من اختبأ في الآبار وكهوف المطابخ وأقنية المجاري والأوساخ، «ولما انسحب الجنود أخيرا، ظهر الناجون في شوارعها مثل الأشباح. وجوههم سود وأبدانهم القذرة عليلة وفي عقولهم لوثة، لأنهم شهدوا ما جرى لأهلهم، من شدة فزعهم كان الأب لا يعرف ولا يأمن ابنه، والأخ أخاه، والزوجة بعلَها». لقد أنهك المدينةَ الموتُ وشققها العدم، وكانت روائح الدماء تدثرها في الليل، وتصطبغ بها الدروب في النهار.
من طبائع القدر أنه يُحب أن يُكرر نفسه، غير أن المدينة هذه المرة ليست بغداد، وإنما بلدة أنشأها الرئيس العراقي السابق صدام حسين في أحد أرباضها، لضحايا فيروس الإيدز. إن آلة العصر الحديث أعقد بكثير من بساطة وحش من العالم القديم، وما قاساه أهالي البلدة، فاق كثيرا ضحايا اجتياح جيش هولاكو لعاصمة الخلافة.
تعود القصة إلى عام 1986، عندما تعاقدت وزارة الصحة العراقية مع شركة «ماريو» الفرنسية، لاستيراد أمصال ودماء بشرية لعلاج مرضى فقر الدم الوراثي (الهيموفيليا) ثم ظهر أنها ملوثة بفيروس العوز المناعي (الإيدز). سجل العراق أول إصابة بهذا المرض في ذلك التاريخ، وليس لدى أطبائه أي خبرة أو برنامج خاص لعلاجه. كانت نيران الحرب العراقية الإيرانية مشتعلة آنذاك، ولم يشأ النظام الحاكم إزعاج الحكومة الفرنسية، بسبب وقوفها إلى جانب العراق. تمت «لفلفة» الموضوع بالسرعة الممكنة، وعُزِلَ المصابون بالإيدز في ناحية بعيدة، وحولهم طوق كامل ومتين من الحرس كي لا يهربوا، وما يترتب عن ذلك من اختلاط يؤدي إلى انتشار المرض. إلى هنا تبدو الأمور طبيعية، تقريباً، فمصلحة الوطن عند الحرب فوق كل حق. في عام 1987 علمت أجهزة النظام الحاكم أن أقاربَ للمصابين يريدون تحريك الرأي الدولي، عن طريق الصحافة في الخارج، للحصول على تعويضات من الشركة المسببة لذلك، ولأجل أن تشملهم الدولة برعاية طبية أفضل. هنا، بدأ النزوعُ العدواني لدى السلطة بالتحرك: تم أولا حجر المرضى في سجون حقيقية، ولا يُسمح لأحد بزيارتهم، والذين يموتون منهم يتم دفنهم بسرية. المحنة الثانية حدثت عندما ظن الرئيس السابق صدام حسين خطأ، أن الداء يمكن أن ينتقل عن طريق الاتصال بالمصابين، وأمر بإبادتهم جميعا، والمعلومة الأخيرة مصدرها غوغل. بثت الصحافة العالمية الخبر، وارتجف النظام الحاكم أمام الأمر، وعده تمردا قام به أهالي المرضى يتطلب ردة فعل انتقامية. ثم لفقتْ أجهزة السلطة الحاكمة كذبة بأن المصابين بالإيدز شاذون جنسياً، ولهذا السبب ابتلاهم الله بالمرض.
يقول أفلاطون: «انحراف المدينة يبدأ بانحراف الكلمات» وهذه سمة الحكومات المتسلطة، في اختيار لغة كاذبة لخطابها، مع شيء من التفخيم الكلامي الممض. تمت حياكة إشاعة الشذوذ الجنسي وخياطة حروفها نقطة بعد نقطة، وطارت في المجتمع العراقي مثل النار في حقل يابس. أغلق أهل المصابين أبوابهم، وظلوا، في غمار المأساة، يموتون يوماً بعد آخر بالانتحار، أو بالانسحاق والتحطيم تحت وطأة السقم والتعاسة.
الطباق في أبيات السياب يعود ثانية، إذ لم تنفِ الأمصال المستوردة الهيموفيليا من المرضى، بل أثبتتْها وأخضعتهم إلى قدر أشد، وفتحت كذلك صدرا رحْبا للفضيحة. في قصيدة السياب كانت الميازيبُ «تفضح» الفجيعة التي حاقتْ بالبيوت بأصوات هطول الدماء على أرض الزقاق. البلابل هي الأخرى أعلنت الأخبار، بغنائها الحزين، إلى الأشجار وإلى السماء. مع احتداد شائعة الشذوذ الجنسي، راح المرضى، ومعهم أهلهم وأقاربهم، يعيشون طقس موتهم كل يوم، ويسمعون صداه في الوقت نفسه، بواسطة العار الذي لحقهم بسببه. إن آلية «الفضح» في الحالتين متماثل، والزمان يُعيد نفسه، ويدعو عالم الاجتماع الفرنسي ميشيل مافيزولي هذا النوع من الهلاك «فن الموت الجيد»؛ يحصل عندما تعيش الضحية موتها أكثر، لأن الجلاد استأنسه واستعذبه، بدلاً من استيحاشه وإنكاره. تظهر تجليات الموت الجيد في الفنون الدينية كثيرا، في الكاثوليكية مثلا في رسومات قطع رأس يوحنا المعمدان وتقديم رأسه على طبق، وفي حادثة رمي القديس سيباستيان بالسهام، وهناك تمثلات أخرى للموت الجيد تنتمي إلى ثقافات أخرى، وكلها تعود إلى العالم القديم، فإذا ظهرت في الزمن الحاضر، كانت حاضنتها السلطة الاستبدادية والظالمة. في أثناء الحرب العراقية الإيرانية كان التلفزيون العراقي يعرض مشاهد لجثث الجنود القتلى في خنادق القتال، وقد انتفخت بواسطة التفسخ وصارت مثل بالونات هامدة. بواسطة انتشار هذه الصور عبر الأثير، واحتفاظ الشبكة العنكبوتية بها، تكون الفضيحة وصلت مداها الأبعد، والموتُ جودتَه القصوى.
كان عدد ضحايا هولاكو 800 ألف نسمة، وتجاوز تعداد المصابين بمرض الأيدز نتيجة الدم الملوث حسب الأمم المتحدة 400، فإذا حسبنا أهلهم وأقرباءهم ـ كان ظلم النظام السابق يمتد إلى القرابة الرابعة، أي ابنة وابن العمة والخالة ـ فإن الأرقام تتضاعف مرات، ويكاد يُقارب حصيلة الغزو المغولي. حُرم هؤلاء من الحياة العذبة التي يعيشها الناس أولا، ثم تم القضاء عليهم بواسطة الموت الجيد في مدينتهم البعيدة.
في المآسي الكبرى يستثني البعضَ مزاحُ القدر، كما حصل للبغادلة الذين نجوا من مذبحة هولاكو، لأنهم اختفوا في الآبار وأقبية المجاري، بقيَ عددٌ من المصابين بالإيدز وأهلهم أحياء حتى حلول الغزو الأمريكي للعراق. وفي عام 2004، ونتيجة للانفلات الأمني في المدينة، قامت الميليشيات الأصولية والطائفية الإسلامية بالقضاء على الناجين، لأن هذا المرض في اعتقادهم دليل على الزنا. إن أدوات بث الإشاعة التي استعملتها أجهزةُ حزب البعث الحاكم آنذاك نجحت في الوصول إلى هؤلاء، عن طريق الذعر الرهيب والجمعي الذي تولد منها، رغم مرور حوالي ربع قرن. هل بلغ مشهد المزاريب التي تجري فيها الدماء شاعرَنا، بواسطة هذا النوع من الذعر، وكتب قصيدة «أنشودة المطر»؟
في الثمانينيات، أي في زمن الحادثة، فجر هذا الملف أزمة هزت أرجاء فرنسا وأطاحت برؤوس سياسية، من بينهم رئيس البرلمان الفرنسي لوران فابيوس، وحُكم على ميشيل غاريتا مدير المركز الفرنسي لنقل الدم، بالسجن مدة أربعِ سنوات. تونس وليبيا والمغرب والأردن والبرتغال واليونان والأرجنتين، وهي الدول التي استوردت، مع العراق، هذه الأمصال، قاضتِ الشركة وحصلت على تعويضات مالية بمئات الآلاف من الدولارات، وأعلنت الشركة الفرنسية إثْرَ ذلك إفلاسها، واشترتها أخرى تدعى سانوفي باستور.
كاتب عراقي